قامت أكثر من نصف عدد مقاطعات الصين بتقنين الكهرباء خلال الأسبوعين الماضيين، مما أدى إلى تعطيل الحياة اليومية لعشرات الملايين من الناس، وفي الوقت نفسه شهد شهر سبتمبر/أيلول الماضي انخفاضا في الإنتاج الصناعي للمرة الأولى منذ أن بدأت الصين في التعافي من عمليات الإغلاق جراء جائحة “كوفيد-19”.
نشر موقع “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركي تحليلا حول الأسباب الحقيقية وراء أزمة الكهرباء في الصين، إذ عزاها إلى كثرة إنتاج الفحم الحجري وفرض أسعار رخيصة له، ووصف الكاتب هذه الأزمة بأنها أسوأ أزمة كهرباء تواجهها الصين منذ عقد.
وقال إن السبب المباشر هو أن الصين لا تزال تعتمد بشكل كبير على الفحم، الذي يولد 70% من الكهرباء في البلاد، مضيفا أن أسعار الكهرباء المدفوعة للمولدات تحددها الحكومة المركزية، بينما يتم تحديد أسعار الفحم في السوق، ولذلك عندما ترتفع أسعار الفحم، ولا يرفع المنظمون أسعار الكهرباء، فلن يكون منطقيا أن تستمر محطات توليد الطاقة بالفحم في توفير الكهرباء، إذ يمكنها تجنب التوليد بخسارة بالادعاء أن لديها عطلا تقنيا أو بالفشل في شراء الفحم الذي تحتاجه للتشغيل، وكلاهما حدث في الفترة التي سبقت الأزمة الحالية.
وأضاف الكاتب إلى الأسباب أيضا ما أسماها سلسلة الزلات السياسية وتدخلات السوق غير المدروسة جيدا بعد بداية الجائحة، قائلا إن الأزمة خففت إلى حد كبير اعتماد الصين المستمر على الفحم، حتى مع استمرار زيادة حصتها في السوق من الطاقة المتجددة والنووية.
تنظيم أسعار الكهرباء
وأشار إلى أن تنظيم الحكومة أسعار الكهرباء يهدف لحماية مستخدمي الكهرباء من مخاطر الأسعار، وهو دعم يأتي على حساب أولئك الذين يولدون الكهرباء، مضيفا أن بكين عادة ما تكون بطيئة في رفع الأسعار لأن الجمهور يتأثر بذلك.
وقال إن تعافي الصين من الصدمة الاقتصادية الأولى للوباء اعتمد بشكل مفرط على البناء والصناعات الثقيلة، مما تسبب في زيادة الطلب على الفحم بنسبة 11% في النصف الأول من عام 2021، وكان هذا الاتجاه قصير الأجل في تناقض حاد مع دعوات بكين لـ”البيئة الخضراء”، والتعهدات المعززة لخفض الانبعاثات.
وكانت الزيادة في الطلب على الفحم تعني أن السوق سيكون دائما ضيقا، لكن اهتمام الحكومة كان منصبا على مكافحة تضخم أسعار المنتجين، إلا أن رفع أسعار الكهرباء لم يكن مناسبا لتلك الأجندة، لذلك عندما بدأت أسعار الوقود في الارتفاع على خلفية الانتعاش العالمي والطلب الحاد في الصين، اتخذت الحكومة إجراءات ترقى إلى الحظر الضمني على رفع أسعار الفحم، بل كانت تفكر في تحديد سقف رسمي للسعر، وهذا يعني أن عمال مناجم الفحم الصينيين لا يمكنهم فرض الأسعار المرتفعة التي يحصل عليها الآخرون في السوق الخارجي.
إن الفشل في رفع أسعار الكهرباء والتراجع عن الزيادات في أسعار الفحم يعني أن منتجي الفحم سيقلصون مشتريات الفحم، مما يؤدي إلى انخفاض المخزونات، وهذا يعني أيضا أن مناجم الفحم لن تكثف الإنتاج في الوقت المناسب، وقد حدث بالفعل أن مخزون محطات توليد الكهرباء ظل ينخفض منذ شهور.
انقطاع التيار الكهربائي الحالي يؤثر على الاقتصاد الصيني بأكمله.
ويبدو أن محاولة بكين في أواخر عام 2019 لإضفاء المرونة على الأسعار جعلت الأمور أسوأ، إذ اُعطيت محطات توليد الكهرباء القدرة على التفاوض على عقود طويلة الأجل مع مشغلي شبكة توزيع الكهرباء ضمن نطاق أسعار معين، وكان من الممكن أن يسمح هذا للمصانع بالتفاوض على هوامش ربح أعلى، ولكن كما حذر البعض بالفعل في يناير/كانون الثاني 2020، كان له تأثير معاكس لأنه ونظرا إلى أن الصين لديها قدرة فائضة في الكهرباء التي تولّد بالفحم، فقد كان مشغل الشبكة هو الذي يمتلك النفوذ في التسعير، بينما يقدم مولدو الكهرباء عروض الأسعار ويضطرون لخفضها.
ويمكن ملاحظة تأثير المفاوضات بين مشغلي الشبكة ومحطات الطاقة، والضغط الحكومي لإبقاء الأسعار منخفضة، في القليل من بيانات التسعير المتاحة: انخفض متوسط الأسعار المدفوعة لكل شركة مدرجة قدمت بيانات في الربعين الأول والثاني لعام 2021، حتى مع ارتفاع أسعار الفحم.
تدابير حكومية
ومن المحتمل أن تكون التدابير الحكومية لخفض فواتير الكهرباء في عام 2020 قد أدت إلى مزيد من الضغط على مشغلي الشبكة للتفاوض على خفض الأسعار، ومن المفارقات أن وجود عدد كبير جدا من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم ساهم في أزمة الطاقة.
على نحو فعال، سمح المنظمون لمحطات التوليد باستنزاف المخزونات في مقامرة لتجنب ارتفاع أسعار الكهرباء، وفشلت هذه المقامرة بشكل مذهل.
وظهرت قائمة طويلة من التفسيرات البديلة والكاذبة داخل الصين، إذ سعى مشغلو شبكات التوزيع إلى إرجاع هذه المشكلات إلى الطلب المتزايد، وألقى معارضو العمل المناخي باللوم على تقنين الطاقة في محاولات الحكومة المحلية لتحقيق أهداف استهلاك الطاقة أو الأهداف المناخية الأوسع.
وألمحت وسائل الإعلام الدولية إلى محاولات التحول من الفحم إلى مصادر الطاقة المتجددة كعامل في انقطاع التيار الكهربائي، وكرست اهتماما غير متناسب لما إذا كان حظر الصين استيراد الفحم الأسترالي يساهم في هذا الوضع.
وبكل إنصاف، أدت العديد من هذه العوامل إلى تقنين استخدام الكهرباء من قبل، لكن أيا من هذه الأسباب لا يقترب من تفسير سبب حدوث نقص في الطاقة الآن، في جميع أنحاء البلاد، حتى في الوقت الذي تبذل فيه الحكومة المركزية قصارى جهدها لاستعادة الإمداد الكامل.
وأضاف الكاتب أن وسائل الإعلام الحكومية ألقت باللوم على تقلب طاقة الرياح في انقطاع التيار، مشيرة إلى انخفاض الإنتاج في مقاطعة واحدة، ومع ذلك، حققت طاقة الرياح والطاقة الشمسية والنووية إنتاجا قياسيا في الفترة من يوليو/تموز إلى أغسطس/آب الماضيين، حيث زادت بنسبة 16% و10% على التوالي عن ذلك الوقت من العام الماضي، مما خفف الضغط على إمدادات الفحم.
وقال إنه على المدى القصير، ولإعادة إمدادات الكهرباء إلى سابق معدلها واستمرارها خلال فصل الشتاء، من الضروري زيادة إمدادات الفحم وأسعار الطاقة.
ويتخذ المخططون المركزيون في بكين بالفعل خطوات في هذا الاتجاه، في الوقت نفسه ينبغي النظر إلى الأزمة على أنها دليل ينذر بالخطر على ضعف الاقتصاد أمام أسعار الوقود الأحفوري، وينبغي تسريع التحول إلى طاقة خالية من الكربون، أفضل ما يمكن أن يحدث في هذه الحالة هو زيادة قدرة التوليد الخالية من الكربون والتي لم تتأثر بأسعار الوقود.
أزمة اقتصادية
وأوضح الكاتب أن الأزمة كانت تختمر منذ شهور ولا يمكن حلها بين عشية وضحاها، فلقد تأخرت مشتريات الفحم عن الطلب وتراجعت المخزونات منذ أوائل عام 2021.
وقال إن انقطاع التيار الكهربائي الحالي يؤثر على الاقتصاد بأكمله، بما في ذلك تجارة التجزئة والخدمات والتصنيع عالي التقنية، والتي تعتمد عليها الحكومة لدعم النمو الاقتصادي مع تباطؤ قطاع العقارات بعد تحركات بكين للتراجع عن حافز البناء وفرض قيود مستهدفة على الائتمان للقطاع العقاري.
وأشار إلى أنه، كما هي الحال دائما، يكمن الخطر في أنه بمجرد حل الأزمة الحادة، ستلجأ الحكومة إلى قواعد اللعب القديمة لمشاريع البناء الأكثر إهدارا لدعم الاقتصاد، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة أخرى في الانبعاثات والمزيد من تأخير الانتقال الاقتصادي بعيدا عن النمو المدفوع بقطاع البناء.
وختم بالقول إن الأهم ليس الضجيج الخارجي، بل كيف تفسر بكين الأحداث داخليا، فمن المتوقع أن يصدر المخططون المركزيون قريبا وثيقة رئيسية تحدد الأهداف والتدابير للوصول إلى ذروة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون قبل عام 2030، وسيعطي هذا بقية العالم إحساسا بطموحات الصين قبل قمة المناخ المقبلة في غلاسغو بأسكتلندا، عندها فقط سنعرف كيف ستؤثر أزمة الطاقة على تصميم الصين على معالجة تغير المناخ والابتعاد أخيرا عن الفحم.
المصدر : فورين بوليسي