اليسار بين الهوية المخزنية والهوية المجالية

“التقسيم الهوياتي”، “ليس هناك جنس صافي”، “اللغات في المغرب هي عبارة عن لهجات وليست لغة”، هذه المخاوف تعكس توجسات لا علاقة لها باليسار، بالمقابل نجد في اللغة السياسية لغة “المحلي، الإقليمي والمجالي” وهي لغة مقبولة نوعا ما في الجهاز المفاهيمي اليساري، هذه تقسيمات لا تعني شيئا بلغة الهواجس اليسارية، ما هي الهوية إن لم تكن ذا علاقة بالمحلي والإقليمي والمجالي ام ان المسألة هنا، ينضاف إليها مصطلح التقسيم الإداري في علاقته بالمجالي المزيف لينتفي شكلها الهوياتي هي من يحدد الهوية؟

ينطرح مشكل قائم في المغرب هو: على اي اساس يحدد المجالي أو ما نسميه ب”التقسيم الإداري”؟ على حسابات جيوسياسية واقتصادية للدولة في التحكم اكثر من خلال تغييب ما هي تثيره كشعارات فيما يتعلق بالمجالي المحلي الإقليمي بحيث لا تراعي لا التنوع الثقافي ولا اللغوي ولا حتى الجغرافي وفوق كل هذا تدمج منطقة لها قواسم مشتركة مع مجالي معين مع منطقة لا يربطها بها إلا الإنتماء للوطن بخلفيات اقتصادية ومخزنية في إطار ما يسمى بالتقسيم الإداري المخزني باعتبار أن مشكل المشكلات في المغرب هو وجود جهازين يمسان السلطة السياسية، واحد شكلي هم الجماعات المنتخبة المحلية والبلدية والإقليمية والآخر وهو الحقيقي يمثله الولاة والعمال والقواد وهو الجهاز الحقيقي الذي يمتلك السلطة التنفيذية الفعلية، والتقسيم الإداري تم لتشتيت التركيز حول المحلي المجالي الذي من أبعاده اللغة الجهوية والثقافة والفلكلور والأرض والقواسم التاريخية المشتركة،وهي المشترك في مجال جهة معينة والذي يميز جهة على أخرى. في غياب نمط ديموقراطاي حقيقي، هذه التوجسات والمخاوف لا أساس لها من الصحة لأنها تخوفات قومجية في الأساس تؤسس لوحدة مزيفة .

لماذا النمط الديموقراطي الحقيقي؟

لأنه ببساطة يسمح للمجتمع بتحوله من مجتمع بدوي إلى مجتمع متمدن يتمتع المواطن فيه بحقوق مدنية هي الأساس في التقييم: مواطن يؤدي واجبات وينتفع وفقها بحقوق مدنية لا تمييز فيها بينه وبين مواطن آخر سواء على مستوى الجنس او اللغة او اللون.

وهو طبعا معيار الوطنية لأن الإشكال في التهميش هو هيمنة تصور سياسي لا ديموقراطي يتميز فيه مواطن معين ينتمي وظيفيا إلى جهاز المخزن بأفضلية على حساب المواطن العادي (يمكن لاعتبارت سياسية وضع الأحزاب في هذا التمييز)، هذا ما ينمط الإحساس بالتهميش ويطرح الهوية في بعدها الإثني، فالتهميش السياسي والإقتصادي النابع من التقسيم الإداري نفسه الذي هو أساسا قائم على نبذ المجالي اقتصاديا لصالح المدن المركزية التي وإن تمركز المال فيها، هي نفسها لا يستفيد فيها المواطن من هذا المال أو من خدمات عامة بشكل يطرح السؤال التالي: في ماذا تفيدني الدولة أساسا إن هي لا تضمن لي لا خدمات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو صحية؟ دولة، الفرد فيها رقم استثماري في قطيع من طرف الإقتصادي أو الحزبي او الجمعوي.

قام التقسيم الإداري، وهو يتغير طبعا حسب ميزاج الفاعل المخزني بمراعات توازنات جيوسياسية فارغة، إلحاق مجال، أو جماعة أو بلدية معينة فقيرة بأخرى غنية فقط وفي أمثلة كثيرة لتغطية اجور موظفي جماعة فقيرة، إلحاق ينتج عنه نزف تلك المنطقة الغنية دون تعويض على ثرواتها الطبيعية من خلال وضع مقابل لذلك النزف الإقتصادي (إن التعويض يبقي المنطقة في الدرجة النمائية التي لها، وغيابه يعني نزفها، هذا الوعي يحضر عند الإنسان السياسي المنتمي فعليا لهذا المجال)، نموذج هذا النزف: جماعة تانفنيت بإقليم خنيفرة يسمونها محليا بالكويت لغناها بمجالها الغابوي والمائي، جزء من ميزانيتها المالية يغطي أجور موظفي جماعات فقيرة مستقلة بذاتها والحال أنها حتى الآن لم تستثمر مواردها في تنميتها هي نفسها بحيث تعرف تهميشا بنيويا على مستوى الإستفادة من ثرواتها الطبيعية، لا طريق رئيسية توصل إليها، لا بنية تحتية مهمة، لا مستشفى يليق بغناها ولا مدرسة مثلها مثل أي جماعة تفتقر إلى الموارد.

إذا كان ما يسمى بالتقسيم الإداري بهكذا منوال فهو تقسيم مضر وليس تقسيما نفعيا وبالتالي يخلق في الوعي الجمعي مواطنا من نوع آخر: مواطن مخزني بهوية مزيفة، ليس المواطن المجالي الذي يبتغيه حتى شعار المخزن الممدوح بمفاهيم لا يعلم شرحها إلا الله سبحانه وتعالى من قبيل “الحكامة”، “التنمية المستديمة” وخرافات أخرى (انا من بين الناس الذين قرأوا تقارير في المغرب عنا قضايا معينة له علاقة بالمال والإقتصاد ولم أفهم شيئا بسبب هذه المصطلحات: التنمية المستدامة، المجالية، الحكامة وغيرها من المصطلحات التي في السياسة لا مدلول لها). .

ثم هناك إشكال آخر: عندما نتخوف من الهوية ونعتبرها عامل تفرقة فكيف تحدد هوية المغرب على اعتبار أن هذا التحديد يجب أن يجد المواطن فيه ذاته؟ فمثلا وعكس بعض التدوينات المشارة في الفضاءات المفترضة، هل الهوية هي أن تكون مواطنا مخزنيا، أي أنك تقيس هويتك بما المخزن يقيسها: هل مثلا القول باننا شعب عربي كما يحدده المخزن يستقيم مع الواقع؟ بعبارة أخرى هل موقف اليسار في المغرب هو بالضرورة، بخصوص الهوية، هو أن يكون مخزنيا؟؟
يمكن للبعض أن يشعروا أنهم عرب باصول بربرية كما في الكثير من التوقيعات المخزنية ولكن ليس الأمر كافيا لننساق في هويات المشرق: إن الهوية تفترض تميزا خاصا بين المشرق والمغرب لأنها في الأصل بيئة مختلفة تستوجب حضور المتميز عن المشترك، تفترض الإعتراف بالسائد على المشترك.

في الدساتير الغربية تثير الإعتراف بالهويات في دولها، لكن الأمر لا يثير مشكلة بسبب من تلك العلاقة النفعية بين الدولة ومواطنيها حيث يبقى مجال اللغة والثقافة هو نوع من إغناء فضاءاتها الثقافية، نوع من الإستمتاع بجمال التنوع الثقافي المندمج (نوع من الترف الثقافي بلغة ابن خلدون).

سأعطيكم نموذج في تدخل الدولة لموازنة حالة الفقر الجهوي: يعتبر إقليم الأندلس في إسبانيا من الأقاليم الفقيرة، عائداته من الدولة هي بحجم مساهمته في الضرائب التي تمنح للدولة أي أن عائداته ليست بحجم عائدات منطقة الباسك (برغم صغر إقليمها) وليست بحجم عائدات كاتالونيا، وتبعا لذلك فالأجور بهذا الإقليم منخفضة مقارنة مع الأقاليم الأخرى، لكن أسعار المواد الإستهلاكية به منخفضة أيضا مقارنة مع الأقاليم الأخرى، أي أن الدولة المركزية تكفلت بتوازن معين على مستوى يمس المواطن بهذا الإقليم الفقير توافقا مع دخله المحلي استئناسا بعائدات إقليمه (لأبعاد سياسية أماط المغرب هذه التجربة في الأقاليم الصحراوية في الوقت الذي كان عليه تطبيق ذلك أيضا فيما يسمى رسميا بالمغرب المهمش).

يفترض بالفعل تدخل الدولة في موازنة اقتصادية بالنسبة للأقاليم أو المجال الفقير: أن تضع الدولة خدماتها وفق قدراتها الإقتصادية، ان تكون القيم الإستهلاكية وقيم الخدمات وفق قدرات هذه المناطق الإقتصادية، أي أن تعالج الدولة هذا الإشكال التفاوتي بين الأقاليم بما تفرضه قوانين التفاوت بشكل هي توازن الحياة العامة: إذا كان سعر الدقيق في الدار البيضاء 10 دراهم ل كلغ، يجب أن يكون سعره في خنيفرة مثلا 8 دراهم وفي قلعة مكونة 6 دراهم وفي فيكيك 3 دراهم (كل منطقة حسب قدرة مواردها)..

هنا تطرح إشكالات أخرى مطروحة في كل إفريقيا وليس فقط شمالها بسبب الإستعمار ومن نتائج ذلك فرز حالة نفسية غير قويمة هي صناعة الإنسان الشيزوفريني:

إنسان يولد في مجال بلغة مجاله ويدرس ويتعامل إداريا بلغة او لغاة مستوردة كما المغرب، نحن في المغرب أكثر شيزوفرينية من إفريقيا من حيث نعتمد لغات مستوردة هي اللغة الفرنسية والعربية الفصحى وهذه الشيزوفرنية هي أكثر حدة في المناطق الفقيرة حيث العقل الجمعي يريد تجاوز القيم المفقرة ليفجرها على مستوى علمي(تفوق في الرياضيات) ثقافي (على مستوى الطموح في المعرفة وإتقان اللغات الأجنبية، حيث يصبح المواطن عندنا هو حالة شيزوفرينية، قد لا يتقن لغته المحلية لكن يتقن لغة الاجانب أو هو مواطن في هذا الظهور البائس:

مواطن يكلم الأجنبي بلغة لا يتقنها عوض ان يكون الاجنبي الزائر بلاده هو من عليه ان يعرف لغة البلد الذي يزوره كما نحن مثلا في المهجر حيث يجبر علينا أن نندمج ويكون مفتاح الغندماج هو فهم وتكلم لغة البلد المستقبل لنا، يمكن ان أضع هنا مفارقة للمقارنة، فالسائح إلى بريطانيا عليه أن يتكلم اللغة الإنجليزية أو يعتمد مترجما فيها بينما السائح من بريطانيا إلى المغرب لا يتوجب عليه ذلك، نحن سنوظف له مترجمين، علينا ان نكلم المصري أو السوري بلهجته عوض ان يكون هو تعلم شيئا من لهجتنا العربية).

نحن أكثر شيزوفرينية من الأفارقة جنوب الصحراء، فبينما دول إفريقية أخرى استوردت لغة واحدة فقط هي الفرنسية أو الإنجليزية (ومع ذلك، بقياس علم النفس هي حالة شيزوفرينية ولو باستيراد لغة واحدة)، فنحن في المغرب استوردنا على الأقل لغتين: اللغة العربية الكلاسيكية وهي غير منطوقة أصلا في كل الدول العربية لأنها قديمة واللغة الفرنسية التي البعض على خلاف فرنسا يريد ان تكون لغة فيكتور هيكو برغم أن الفرنسيين المعاصرين سمحوا بدخول مصطلحات جديدة في لغتهم هي من مختلف لغات الشعوب التي استعمرتها فرنسا.

الإعتراف بالمحلي المجالي، في جزء منه نوع من الإعتراف بالهوياتي (والمسالة هنا لا تتعلق بصفاء الجنس، تتعلق بالإنتماء إلى المجال لأن الهوية لا تحدد بصفاء العرق بل بالمشترك في مجال معين)، إن المشترك بين كل المواطنين في إطار “مجالي” خاص هو ضريبة المواطن المنتمي إلى ذلك بالمجال ، وعليه فالفاعل المجالي، من حيث هو سلطة سياسية عليه تقديم خدمات بمستوى ذلك الحجم من الضرائب التي يدفعها ذلك المواطن في مجاله الخاص، وعلى الدولة في علاقتها بالمجال الفقير أن توازن من حيث القيمة بتحديد قيم الأشياء من حيث قدرة أي مجالي على مستواه الإقتصادي، تغيير قيم الأسعار وقيم الخدمات وفق قدرة المجالي الإقتصادية.

عذري مازغ

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

يرحم الله الرحماء.. فلنكن رحماء.. عن المغرب وليبيا نتحدث

لم يمضِ يوم واحد على الزلزال المريع الذي ضرب المغرب في العاشر من سبتمبر العام الحالي 2023 والذي وقع ضحيته الآلاف من الضحايا.. حتى فوجئ العالم بخبر سيلٍ جارف ضرب ليبيا وخلّف بدوره الآلاف من الضحايا والمنكوبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
11 × 14 =