هل من بديل روحي للدين؟

سؤال قد يكون غريب ليس لفرضه فقط بل لمنطقه أساسا حينما نعلم أن الدين هو جزء من المعرفة وضمن مصاديق المعنى التداولي للمعرفة بأنها نتاج الوجود العاقل في الوجود , الحقيقة مثل هذه الأسئلة والافتراضات تجنح بنا نحو العقل المصنوع والمهيأ لأن يقبل كل الأفتراض حتى فهم الجنون على أنه شكل من أشكال التعبير وحالة من حالات الإنسان المفكر الطبيعية , لقد مر على الإنسان العاقل منتج للمعرفة والمطور لها والفاعل بها والمنفعل بأثرها الوجودي وهو يتخبط بين الأصح النسبي والخطأ المحسوب على شطط التفكير , مع وجود كل أشكال المعرفة البشرية وتلك المعرفة التي يقال أنها نزلت من السماء أو بتدخل السماء فقط لتضبط إيقاعه الوجودي نحو الأفضلية والأحسنية .

البعض يظن والآخرون يجزمون أن الدين بصيغته المقسمه على أنه وضعي أو سماوي بالحالتين لم ينجح ببناء رؤية كونية شاملة للكون ,كما يؤكد المخاصمون له أن وجود الدين في الواقع عامل أساسي يتيح للإنسان بناء هذه الرؤية مسترشدا في البناء بالقيم الجامعة والموحدة للجنس البشري على أنه مكلف أساسا بالتوافق مع وظيفة الوجود الأولى وهي البناء والأستعمار والتعارف , الغالبية من معتنقي الأديان لديهم رؤية أكثر تطرفا في القدرة على لعب هذا الدور , فيرون أن الدين هو الرؤية الكونية الكاملة وما على الإنسان إلا أن يتماهى معه وينظم لمجموع المؤمنين به ويسلم للإحكام العامة والخاصة ليجد نفسه في النهاية منخرطا بهذه الرؤية الشمولية التي لا تستثني شيء ولا يمتنع عليها شيء.

هذا التفاوت التقويمي لدور الدين في تشكيل وبناء الرؤية الكونية يعتمد على نقطتين مهمتين وكلاهما من حصيلة التجربة الإنسانية بشقيها المعرفي أو الضبطي :.

• ففي الشق التقويمي هناك قاعدة فكرية تنطلق من أن أي تقييم أو توصيف لأي حال وجودي يعتمد فيه على القراءة لهذه الحالة على قدرة أستيعاب القارئ وهضمه التام لما يريد أن يمتحنه معتمدا على المقدمات والمعطيات التكوينية الأساسية للتنظيم العقلي لديه وليس للنظام العقلي , وهذا التنظيم في مطلق الأحوال ليس واحدا ولا نمطيا ولكنه ينتظم وفق نسق عام يبدأ بالتعامل مع الوجود ككائن مكتشف حسي ثم كائن متربي وبعدها يعتمد التعليم والتعلم ليصل في مرحلة عمرية لأن يكون ناقدا ومقيما أستنادا للتجربة الماضية .

كذلك هذه القراءة لا تتحصل فقط بما يمكن للمعطيات والمقدمات التكوينية للعقل الإنساني أن تجود به ,بل أيضا تتأثر بجملة من العوامل المتغيرة والمتبدلة والضاغطة بأثرها على العملية التنظيمية العقلية , سواء أكانت هذه العوامل من الخارج الحولي كالبيئة والقوانين والقيم والأعراف , أو عوامل ذاتية تتعلق بنشاط الأنا ودورها في القبول والرفض وأحيانا حتى أتخاذ مواقف لا مبررة ولا تنضوي تحت تفسير أو تبرير منطقي .

• هذا الدور أيضا مرتبط بالاستعداد النفسي والتربوي والطبيعي لقدرة الإنسان على تحمل القيود والضوابط والألتزامات التي تفرضها بعض الأفكار التي هي تحت منظار التقييم والنقد ,الدراسات الغير حيادية والمتجردة تماما والتي تفصل بين المحلل والناقد وبين الموضوع قليلا ما تكون متوفرة على الدوام , لذا فالغالب من الدراسات النقدية والتقويمية تخضع للمزاج الفردي , وهذا المزاج دائما مرتبط كما قلنا بقدرة الفرد على القبول والألتزام وفهم شروط الموضوع , فتخرج الدراسات هذه متأثرة تماما بالرأي الشخصي الذاتي سواء بالتنزيه أو بالذم ,هذا حاصل كثيرا في موضوع الدين والعقيدة ,الغير مؤمنين بالدين في غالب الدراسات ليس ناكرين للدين ودوره في الوجود ,ولكنهم غير قادرين أساسا على الانتظام والألتزام به وبقواعده وما يفترض من سلوكيات تتعارض مع عقيدة الإنسان الطبيعية وهي التخلي عن سجن الممكن والواقع .

هنا نؤشر مما تقدم أن الدين كمعرفة وكموضوع إنساني عام يتعامل معه الإنسان وفق مقدمات ومعطيات وأساسيات مختلفة لكنها في الأخير ترجع لعوامل مشتركة هما التربية والتعليم والبيئة وأثرهما في بناء الذات وتهذيبها بالشكل الذي يجعل منها منضبطة بقواعد التعارف والوظيفة الوجودية المشتركة لبني البشر , وثانيهما عدم قدرة هذا الكائن المتحسس لكل العوامل والمؤثرات الداخلية الذاتية والخارجية الحولية على أن يكون حياديا بامتياز ومنطقيا بتجرد إلا في حدود ضيقة ومحدودة جدا , لذا لا يمكن أن نعتمد على القراءات الثلاث السابقة على أنها جواب نهائي ومنطقي لدور المعرفة الدينية أو الدين عموما ليكون صانعا وبانيا أو مشاركا في بلورة رؤية كونية عامة وشاملة وناجحة للإنسان ككائن قائد في الوجود .

هل التعامل المزاجي والقراءة الذاتية لفكرة الدين سبب أساسي في أختلاف النتائج والأختلاف في تشكيل التصورات العقلية عنه , وبالتالي تبدل وتغير وتنوع أنماط التدين خاصة والمعرفية الدينية عامة ترجع في أساسياتها لهذه النقطة ؟, أم أن الدين وبشكله القابل لتنوع القراءات وسعة البناء سمح بشكل أو بأخر لهذه النتائج المختلفة التي تصل في أحيان كثيرة حد التناقض على مبدأ واحد , في التصور النظري أن القضية الأولى أساسية وحتى لو كانت الفكرة مقيدة ومحددة بأطر عامة فسيجد القارئ مساحة للتحرك ضمنها وبالتالي الخروج عن المرادات الأساسية , والدليل حتى في القواعد القانونية المجردة والمضغوطة في صياغتها حد التشخيص الفردي , يجد القضاء مجالا واسعا لاستنباط حلول أو وجهات نظر قد تخرج القضية المنظورة امامه نحو وجهة أخري أذن العيب ليس في الفكرة وثرائها وسعتها وإمكانيتها الواسعة للتلاؤم مع أحوال متبدلة ومتغيرة بقدر ما هي كيفية القراءة والموازين المعتمدة في قنونة المنهج المعرفي وخاصة في قضية طرفها الأخر مجرد نص وفكرة وليس حاضرا للبيان والاستبيان منه أو سؤاله كلما احتجنا لجواب محدد .

إذا كانت القراءة الاعتباطية بما تحمل من ذاتية وشخصنه عقلية للقارئ وخلفياته الثقافية والفكرية هي المسئولة عن التحرف وأختلاف النتائج النهائية لفكرة الدين ,فهل يعني هذا لنا أن الدين أساسا (ونحن نتكلم بمطلق معنى الدين) كفكر وقواعد محفزة لأنتاج فكر وتراكم مبني على غائيات متشابهة برئ تماما من أي مسئولية تجاه الإنسان لاسيما وأن القواعد والأحكام والنصوص الدينية لم تجري تأريخيا في وجهة واحدة أو وفق نمط محدد من الأفكار , فهناك جانب أخلاقي في الدين واضح وصريح وهناك قواعد حاكمة للعلاقة البينية بين أفراد المجتمعات المتدينة أو التي تؤمن بالدين , وهناك أحكام وصور من علاقات فردية بين العابد والمعبود يمثل الطرف الأخر منها عالم غيبي غير محسوس ولا مدرك بأبعاد الإدراك البشري الطبيعي , كل واحدة منها تلقي بظلالها على الصورة العقلية التي من المفترض أن الإنسان العاقل المتفهم أن يستوعبها جملة واحدة وأن لا يكون هناك ما يخدش وحدة النسق الفكري , وهذا الأمر واحد من أهم أسباب تشكك القائلين بعدم قدرة الدين أن يكون نموذج فكري واحد ومنسجم وبالتالي سيكون مصدر قلق عقلي يؤدي إلى نوع من التمرد الذي يصل للتحرف أو القراءة الاعتباطية للدين .

من المنطق أن النتائج الكلية هي أساسا ثمار مقدمات ومعطيات ومبادئ ووسائل ومناهج وبالتالي لا يمكننا أن نشير لقضية جزئية على أنها تتحمل كل ما يلد من التجربة الفكرية وينتج عنها ,صحيح أن بعض الأديان وخاصة التي تتسم بوحدة المنطق العملي أو تمتلك حد من التوافق بين مكوناتها الفكرية البنائية لارتباطها بنظرية متكاملة كما ير ى مثلا الإسلاميون عن دينهم , والحقيقة المجردة عن الأنتماء تؤكد نسبة عالية جدا من هذا التصور ,هذا الدين يمكنه بقليل من القراءة الإنسانية المنفتحة على روح النص بأخلاقيات المبادئ الغالبة فيه يمكن أن يمثل نسيجا مهما ورافدا أساسيا يمكنه أن يؤسس ويمنهج لبلوغ رؤية كونية تراعي شرطين أساسيين في الوجود وهما حق الخالق في رسم إرادته التي تنتهي بصلاح المجتمع وإصلاح وضعه من خلال فرض نمط منضبط من علاقات محكومة بأطر الوعد والوعيد , كما تراع حق الإنسان أن يكون مسئولا عن أختياره الخاص في القبول والرفض على أن يتوقع أن يكون الوعد والوعيد الغيبي قضية حقيقية ويحاسب عليها عندها يكون العذر قد سقط منه ولا مجال لمحاولة أخرى .

النظرية التي تطرح نفسها بجدية اليوم هي نظرية تكامل المعرفة الجماعية والتي توفر وتحفظ لمصادر المعرفة الأساسية الحق في أن تشارك في صياغة وأنتاج وبلورة رؤية كونية شاملة منصفة وجدية وحقيقية , هذه النظرية تعتمد ركنين مهمين ألا وهما أن الإنسان المعاصر قد وصل حد البلوغ المعر في الذي يؤهله أن يكون صانع وخالق للمعرفة بعد أن تم فطامه من المدد الغيبي , وثانيهما أن التجربة المعرفية الأخيرة أثبتت أنه بحاجة لأن يقود نفسه بنفسه في الفترة القادمة دون وصاية , فهو لديه خزين كامل وثر ومجرب من المعرفة الدينية ونقدها ومعارضتها تؤهله لأن يكون على بينة من نقاط القوة والضعف فيه , كما أنه نجح لحد ما في تفجير ثورة معرفية أفتراضية نتيجة التراكم الزمني والمادي للكثير من تفاعلات صنوف المعرفة والأخلاق والعلم والقيم , الإنسان اليوم عليه فقط أن يكون شجاعا وحذرا أن لا يرتكب الخطيئة مرة أخرى وأن يلجم الأنا المتضخمة ويحمل كل التاريخ المعرفي ونتاجه محمل النقد والترميز والتقييس ثم يقرر أيهما أقدر أن تبني له مسارات تأسيسية للرؤية الشمولية الكونية بأقل الخسائر وأعظم المنافع .

عباس علي العلي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

يرحم الله الرحماء.. فلنكن رحماء.. عن المغرب وليبيا نتحدث

لم يمضِ يوم واحد على الزلزال المريع الذي ضرب المغرب في العاشر من سبتمبر العام الحالي 2023 والذي وقع ضحيته الآلاف من الضحايا.. حتى فوجئ العالم بخبر سيلٍ جارف ضرب ليبيا وخلّف بدوره الآلاف من الضحايا والمنكوبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
9 + 28 =