تاريخ الدين: الدين في مصر القديمة

ان تاريخ الأديان في الشرق الكلاسيكي معروف نسبياً بسبب توافر العديد من المصادر المكتوبة والأركيولوجية. كانت هذه الأديان موضوع دراسات عديدة.

على الرغم من أن شعوب الشرق القديم، وخاصةً مصر وبلاد ما بين النهرين قد طوّروا مُجتمعاتٍ طبقية مُتقدمة وحضاراتٍ عظيمة (تعود آثارها القديمة الى الألفية الرابعة قبل الميلاد) قبل الشعوب الآُخرى ، بسبب الظروف المواتية، الا أن النظام الاجتماعي-الاقتصادي، بعبودية غير متطورة ومجتمعات زراعية قوية، كان مُحافظاً الى حدٍ ما ومُستقر. من هنا جاءت طبيعة النُظُم السياسية للدول الشرقية القديمة الثابتة والراكدة نوعاً ما، باستبدادها وتمجيدها للسلطة المَلَكية. تَرَك هذ الوضعا بصمته على الأديان. لقد حافظت لفترةٍ طويلة على سمات قديمة للغاية مُقترنة بنفس الأشكال المُعقّدة التي عززتها الظروف الاجتماعية والسياسية.
كان هذا المزيج من الأشكال البدائية والمُعقدة واضحاً بشكلٍ خاص في ديانة مصر القديمة. كان أقدم شكل من أشكال الديانات في مصر، بقدر ما يُمكن التعرف عليه من خلال الآثار التاريخية، هو عبادة “آلهة النومات (المُقاطعات) Nome المحلية الراعية”. ان النوميس هي بقايا قبائل قديمة توحّدت في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد تحت السُلطة العامة لحاكم المُقاطعة Nomarch. ومع ذلك، كانت عبادة آلهة نوم قوية للغاية، واستمرت حتى نهاية تاريخ مصر القديمة، جنباً الى جنب مع عبادة الآلهة المصرية العامة.
تم الحفاظ على السمات القديمة للغاية في هذه العبادات المُقاطعية المحلية. كان كل نوم، يعبد حيوانه المُقدّس الذي كان مُرتبطاً بطريقةٍ أو بأُخرى باله محلي: يتم تصوير الاله المحلي في العادة على انه اما على شكل حيوان-غنمة، بقرة، ابن آوى، طائر أبومنجل، بابون، تمساح، قطة، الخ، أو على شكل شخصية نصفها حيوان ونصفها انسان. ربما يكون هذا دليلاً على بقايا الطوطمية. تم تجسيد الحيوانات على شكل انسان في عبادة الآلهة المحلية الراعية. على سبيل المثال، أصبحت القطة هي الالهة الأُنثى باستيت Bastet مُصورةً برأس قطة، والصقر أصبح هو الاله حورس Horus. تم تصوير تحوت Thoth برأس الطائر أبو منجل. أنوبيس Anubis هو اله برأس كلب، وسوبيك برأس تمساح، وسيخميت Sekhmet برأس لبؤة، وحتحور hathhor برأس بقرة، وما الى ذلك. وهذا يُشير الى أن الصور الحيوانية-الانسانية نشأت من حيواناتٍ مُقدّسة.
من الضروري الاشارة الى العدد الكبير من الآلهة الاناث بين الرُعاة المحليين: الالهة الأُنثى نخبيت Nekhebet وحتحور ونيث Neith وسيخميت وأُخريات. انه انعكاس قوي لبقايا المُجتمع الأمومي بين قدماء المصريين.
حتى قبل توحيد مصر، كانت هناك آلهة تُعبَد في جميع أنحاء مصر. عندما صار النوم مركزاً لتوحيد الدولة المصرية، أصبح الهها الراعي موضوعاً للعبادة المُشتركة. كانت مركزية العبادة تعبيراً وأداة لمركزية سُلطة الدولة.
كان حورَس أقدم اله معبود في جميع أنحاء مصر. كان الملوك الذين عبدوا حورَس أول من وحّدوا مصر (الأسرة الأولى والثانية، نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد)، لقد حوّلوا الههم القَبَلي الى اله الشمس المصري. كان الاله الرئيسي لمصر، منذ الزمن الذي تم فيه نقل عاصمة المملكة الى ممفيس (الأسرة الثالثة، حوالي 3000 قبل الميلاد)، هو بتاح Ptah الممفيسي. عندما تولّت الأُسرة الخامسة السُلطة قبل حوالي 2700 قبل الميلاد، فيما يتعلق بمدينة أون On (هليوبوليس) Heliopolis، صارت عبادة الاله المحلي رَعّ Ra شائعة، وصار هو الاله المصري الأعلى. جعلت الاسرتان الحادية عشر والثانية عشر (حوالي 2100-1800) مدينة طيبة مركز التنظيم الجديد في مصر، مما أدى الى صعود آمون Amon، الذي كان الهاً محلياً غير معروف على نطاقٍ واسعٍ حتى تلك اللحظة، الى قمة البانثيون المصري، وصار قريباً الى الاله السابق الأعلى رَعّ (آمون-رَع). خلال فترة أُسرة سايس Sais السادسة والعشرين (القرن السابع قبل الميلاد) برزت آلهة سايس المحلية مثل الالهة الأُنثى نيث (التي قد تعود أصولها الى ليبيا) كموضوعٍ رئيسيٍ للعبادة.
ومع ذلك، لم يقتصر البانثيون المصري على الآلهة الراعية في المراكز السياسية القائدة في البلاد. فيما يتعلّق بتوحيد البلاد، اكتسبت الآلهة المحلية الأُخرى أتباعاً خارج مناطق عبادتهم الأولية. كما كان الحال في البلدان الأُخرى أيضاً، اكتسبت هذه الآلهة وظيفة مُحددة وكان يُنظر اليها على أنها راعية لنشاط انساني ما أو حرفة. على سبيل المثال، أصبح اله هيرموبوليس تحوت راعياً للكتابة والعُلماء، وأنوبيس أسيوط راعياً للعالم الآخر، وسيخميت من مدينة لاتوبوليس الهة الحرب الأُنثى، والاله مين Min لمدينة كوبتو راعي الأجانب، الخ. ارتبط العديد من الآلهة بالظواهر الكونية. في الواقع، كانت تمتلك هذه السمات، في بعض الأحيان، حتى عندما كانت لا تزال آلهة محلية صرف. ارتبطت مُعظم الآلهة بطريقةٍ أو بأُخرى بالشمس: آتون، رع، حورَس، أوزوريس Osiris، أمون، أنحور Anher، سوبيك، مونتو Munt. ترتبط آلهة أُخرى بالقمر مثل تحوت وايزيس isis وخونسو Khons، ويرتبط آلهة مثل حتحور ونوتNut بالسماء، ويرتبط بالأرض آلهة مثل مين وجيب Geb. لم يكن لبعض هذه الآلهة مثل مين وجيب أي صلة بالعبادات المحلية.
أدى انشاء البانثيون المصري الى الربط اللاهوتي والأسطوري بين الآلهة الفردية. هذا هو تفسير الثلاثيات الالهية(أ) المعروفة جيداً ومجموعة الآلهة التسعة، التي اختلفت في أماكن متنوعة. ثُلاثية طيبة: آمون-موت-خونسو. ثُلاثية: بتاح-زوجته سيخميت-ابنهم من ممفيس. كان هُناك من بين مجموعات الآلهة التسعة الأكثر شيوعاً اينياد هليوبوليس Ennead of Heliopolis والذي يتألف من أربعة أزواج من الآلهة برئاسة رَعّ: رَعّ، شو Shu، تفنوت Tefnut، جيب، نوت، اوزوريس، ايزيس، سيث Seth ونفتيس Nepthys. كانت كُل هذه المجموعات الالهية نتاجاً لاندماج الآلهة المحلية، وجُزئياً، قام الكهنة بتشجيعها بتأملاتهم اللاهوتية الصرف. أصبحت الآلهة، مع اقترابها من بعضها، مُتطابقةً في كثيرٍ من الأحيان. قام الكهنة، على سبيل المثال، بمطابقة رَع بآتون. في وقتٍ لاحق، في زمن المملكة المصرية الوسطى، ارتبط آمون والتمساح سوبيك بنفس رَعّ، وتمت مُطابقة حتحور بتفنوت.
هكذا تطوّر البانثيون المصري. ربما كنت عبادة المصريين للحيوانات المُقدّسة نتيجةً لتلك العملية: أصبحت الحيوانات المُقدّسة المحلية والطواطم القديمة مواضيع عبادةٍ لجميع المصريين. اعتُبِرت حيوانات الصقر والتمساح والقطط مُقدّسةً في جميع أنحاء البلاد. كانت الحيوانات الأُخرى تُعبَدُ أيضاً، ولكن ليس كأنواع، بل بشكل فردي: الثور أبيس Apis من رَعّ في ممفيس، وشاه أوزوريس من مدينة منديس Mendes، وحيوانات أُخرى مرتبطة بأكثر الآلهة تبجيلاً. ان الأصل الطوطمي لهذه العبادة الحيوانية المصرية وراد تماماً.
ومن أقدم عناصر الديانة المصرية، المعتقدات والطقوس الزراعية الشعبية. لا يُعرف عن هذه العناصر سوى القليل نسبياً، لان دين الدولة، وليس الدين الشعبي هو الذي انعكس في المصادر المكتوبة. لكن أثّرت العبادات الشعبية على دين الدولة. تجلّت آثار هذا التأثير في صور بعض الآلهة في العبادة الرسمية: كانت آلهة الخصوبة في البداية مين وآمون وخنوم Khnom وايزيس وآلهة أُخرى. لكن كان أوزوريس بلا شك الاله المركزي في الديانة الزراعية الشعبية.
كان اوزوريس في الأصل الاله المحلي لمدينة بوسيريس في الدلتا، ولكن كان في نفس الوقت مُرتبطاً بعبادة الخصوبة. كان يُصوّر دائماً مع اما مع زهرة اللوتس أو قطف عنب ونباتات أُخرى. ان الصور الظلّية لأوزوريس التي وجدها الأركيولوجيون مُثيرةً بشكلٍ خاص. لقد كانت مشغولةً من القمح المبذور على طبقة من التربة الموضوعة على اطار خشبي خاص، ومن ثم يخلق النبات المنبثق من الحبوب مع نموه صورةً حيةً للاله. في احدى الصور النموذجية، تنمو الحبوب خارج جسد اوزوريس المُتكئ الذي يرويه اناء الكاهن. احتفل سكان مصر كل عام بموت اوزوريس وقيامته. وبالحكم من خلال النقوش، فان هذه الاحتفالات (المحددة وفقاً لتقويم القمر، وبالتالي في أوقاتٍ مختلفة من السنة) استمرت 18 يوماً، وشَمِلَت طقوس الحرث والبذر بالاضافة الى طقوسٍ مُختلفة مُرتبطة بصور أوزوريس المصنوعة من التراب والحبوب. في هذه الطقوس يُصوّر أوزوريس على انه تجسيد مُباشر للحبوب. كانت هناك أُسطورة عن موت وقيامة أوزوريس، والتي لا نعرفها الا جُزئياً. وفقاً للأسطورة، كان الاله أوزوريس هو ملك مصر الذي قُتِلَ غدراً على يد أخيه سيث، وهو أيضاً اله. تم تقطيع جثة أوزوريس الى أشلاء وتوزيعها في جميع أنحاء البلاد. قامت ايزيس زوجة أوزوريس وأُخته بالبحث طويلاً عن قطع جسد زوجها، وجمعته معاً وأنجبت ابنها حورس، وعندما كَبِرَ، ذبح سيث وأعاد بعث والده.
هذه الأسطورة في الحقيقة، ليست سوى سرد مجازي للتحولات التي تمر بها الحبوب منذ وقت زرعها حتى وقت حصادها. انها اسطورة عبادة نموذجية تُفسّر طقوساً مُعينة.
تُمثل عبادة أوزوريس الشعبية تبايناً في ثقافة العبادة الزراعية الشعبية المُتمثلة في موت وبعث رح الحياة النباتية. وانه من الصحيح أن صورة اوزوريس نفسها تطوّرت لتصبح أكثر تعقيداً بسبب التنقيحات المُختلفة اللاحقة التي جرت عليها.
ارتبطت ايزيس ارتباطاً وثيقاً بصورة وعبادة اوزوريس. كانت ايزيس في الأصل الهة محلية، وصارت فيما بعد الهة الخصوبة الأكثر شُهرةً في مصر. انتشرت في الفترة الهلنستية-الرومانية عبادة ايزيس في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، وتنافست في زمنٍ من الأزمنة مع المسيحية.
في حين كان أوزوريس وايزيس الآلهة الرئيسية في الديانة الشعبية، كان محور العبادة الرسمية منذ عهد الأُسرة الخامسة هو اله الشمس: في البداية كان رَعّ ثم أمون من طيبة. شكّلت عبادة الشمس الجزء الأساسي من دين الدولة في مصر. خلال فترة الأسرة الخامسة، بدأ المصريون في بناء معابدٍ لاله الشمس بمسلّة Obelisk ترمز للشمس. حاول الكهنة ربط الشمس بطريقةٍ أو بأُخرى بآلهة محلية مُختلفة مثل حورس وسيبيك ومونتو وأوزوريس وغيرها.
كان دور الدين المصري عظيماً بشكلٍ خاص عندما تعلّق الأمر بتأليه الفرعون، الحاكم الأعلى للدولة. حتى أقدم الملوك الذين أطلقوا على أنفسهم عَبَدة حورَس، كانوا تحت الرعاية الخاصة للفرعون، واتخذوا اسمه. واعتباراً من الأُسرة الخامسة كان الفرعون يُعتَبَر ابن اله الشمس رَعّ. كان الاعتقاد بأن الملك هو ابن الاله سائداً منذ بداية التاريخ السياسي لمصر وحتى نهايته، حتى انتصار المسيحية. نفّذ الملك أهم الطقوس الدينية: أسس المعابد، وكان بامكانه وحده-على الأقل من الناحية النظرية- دخول المَعبَد sanctuary وتقديم قُربانٍ للاله. كان الكهنة يتحدثون وينفذون الأوامر باسمه فقط. ان الطقوس التي شَمِلَت كل حياة البلاط الفرعوني- سجود المرء على بطنه أما الفرعون، تقبيل الأرض تحت قدميه، عدم نطق اسمه، واستخدام الرموز الدينية- عَكَست الايمان بألوهية السُلطة الملكية وعززها. كان تقديس الفراعنة سلاحاً قوياً في أيدي الطبقات الحاكمة لقمع احتجاج الجماهير المُضطهدة.
كما تأثرت طقوس الدفن في مصر بالعلاقات الطبقية. كانت المدافن في عصر ما قبل الأُسَر في مصر مُماثلة لتلك الموجودة في البُلدان الأُخرى. تم دفن الموتى في حُفَر بيضاوية صغيرة في وضعٍ جاثمٍ على جانبها، ودُفِنَت معهم بعض ممتلكاتهم الشخصية، وكان يتم تقطيع الجسم الى قطع في بعض الأحيان. لكن هذه الطقوس تغيّرت بشكلٍ كبير خلال عصر الأُسَر المُبكّرة، وخاصةً في حالة الفراعنة. أصبحت المقابر أكبر وأعقد تدريجياً، وصارت ترتفع فوق الأرض وتتخذ شكل مصطبة حجرية، قبر ذو قاعدة مستطيلة وجوانب مائلة، وصارت القبور منذ الأسرة الثالثة،ـ تتخذ شكل هرمٍ ضخم. تم تحنيط جُثث الفراعنة وتحويلها الى مومياء. في وقتٍ لاحق، صار أيضاً تحنيط جُثث الحُكّام المُقرّبين للفرعون، وبالتالي أعضاءاً من الطبقة الوسطى، شائعاً. تحسّنت عملية التحنيط المُعقّدة هذه تدريجياً. كان الهدف هو الحفاظ على الجُثة لأطول فترةٍ مُمكنة. تُشير المومياوات العديد المحفوظة جيداً والتي عُثِرَ عليها الى مدى مهارة الكهنة في هذا الفن، لا سيما بدءاً من القرن السادس عشر قبل الميلاد، في فترة ممكلة مصر الجديدة.
حُفِظَت مومياوات الفراعنة في عصر الدولة القديمة في أهراماتٍ خاصة صُمّمَت بشكلٍ خاص خلال فترة الأسرة الرابعة. كانت مومياوات النُبلاء تُحفَظ عادةً في المصاطب. خلال عصر الدولة الوسطى، أي الأسرتان الحادية عشر والثانية عشر، صارت الأهرامات أصغر حجماً. في وقتٍ لاحق، توقّفَ المصريون عن بناء الأهرامات تماماً، وقاموا بدلاً من ذلك ببناء معابد الدفن عن طريق حفر التجاويف في الصخور. دفنت الطبقة الوسطى موتاها، على الأقل خلال عصر الدولة الحديثة، في مقابر عامة، بينما تم دفن جُثث الفقراء والعبيد في الرمال.
ارتبط فن التحنيط وطقوس الدفن المعقدة، في مصر، ارتباطاً وثيقاً بالمعتقدات الدينية السحرية، لا سيما الايمان بالحياة الأُخرى.
اعتقد المصريون أن جسد الانسان فقط هو الذي مات، في حين أن أجزاءاً أُخرى من كيانه تحيا-الروح الـ(با) Ba والتي تخرج من الجسد على شكل طائرٍ الى السماء، أما الـ(كا) Ka فهي المثيل الغامض(ب) الذي يوجد مع كل شخص وهو العنصر الرئيسي في هذه المجموعة الكاملة من المُعتقدات. كان الـكا هو المثيل غير المرئي المُناظر للشخص، شيء مثل الروح، وكان مصيرها بعد الموت مُرتبطاً بشكلٍ غامضٍ بمصير الجسد نفسه. لم تكن الـكا خالدةً. يُمكنها أن تموت من الجوع والعطش اذا لم لم يتم تزويد الميت بكل ما هو ضروري. يُمكن للوحوش أن تأكل الـكا في الحياة الأُخرى اذا لم يُدافَع عنها بالصِيَغ السحرية. في ظل ظروفٍ مواتية، اذا حُفِظَ الميت على شكل مومياء أو على الأقل تمثال، فانه يُمكن للـكا أن تعيش فترةً أطول.
كان لدى المصرين مفاهيم مختلفة عن الـكا في فتراتٍ مختلفة. حاول الكهنة عبثاً دمجها في نظامٍ موحد. اعتقد الناس، خلال عصر الدولة القديمة، أن الميت، أوالـكا خاصته ينتهي بهما المطاف في مكانٍ ما في الغرب، ويستمر في العيش هناك كما كان على الأرض. كان يتم تصوير أن لدى الأموات من النُبلاء والأثرياء جميع وسائل الراحة ويتمتعون بحدائق مُظللة محاطة بحاشيةٍ وخَدَم ويُشاركون بالصيد المُفضّل لهم. تم تصوير مشاهد من هذه الحياة السعيدة في مقابر الطبقة الأرستقراطية من الأسرتين الخامسة والسادسة. هذا دليل على أن الحياة الأُخرى كان يُنظَر لها تقليدياً على انها استمرار للحياة على الأرض، وهذا نموذجي للشعوب المُتخلّفة في كل مكان: ولكنها فكرة تم تعديلها بواسطة العلاقات الطبقية: يتمتع بالراحة والرفاهية في الحياة الأُخرى فقط أولئك الذين امتلكوها في هذا العالم. ومع ذلك، فقد تم ضمان الحياة الأُخرى السعيدة عن طريق السحر، من خلال رسم هذه المشاهد على جُدران المقابر وتقديم القرابين والتعبير عن الصِيَغ السحرية.
طوّر المصريون، في العصور القديمة، ايماناً بآلهة خاصة، وهم حُرّاس الموت. نحن نعرف الكثير عن هذه الآلهة المعبودة في أماكن مُختلفة. ولكن خلال فترة المملكة القديمة ظهر الهان في المُقدّمة بوصفهما حُرّاساً للموتى، وكانا مُرتبطين بطقوس الدفن: اله الشمس رَعّ، وأوزوريس اله الحياة النباتية، المُحتَضِر والمُبعَث من جديد.
كانت هليوبوليس هي المكان الذي نشأت فيه المفاهيم الشمسية لمملكة الأموات، وهي أيضاً مركز عبادة الاله رَعّ. سَعَت أرواح الموتى، وفقاً لهذه المفاهيم، الى ركوب قارب رَعّ الشمسي والتحرك معه في السماء يومياً. كانوا يعتبرون أن الغرب هو مَقَرّ الموتى من حيث ارتباطه بحركة الشمس الظاهرية: تُنارُ بلاد الموتى عندما تغيب الشمس، أي تذهب عندهم. كان لدى المصريين فكرةً غامضةً حول بلد الظلام (دوات) Duat هناك حيث تغرب الشمس وحيث تصل أرواح الموتى.
ان أهم ما في طقوس الدفن هو علاقتها بأوزوريس. لقد درسنا سابقاً أصل وتطوّر اوزوريس. في البداية لم يكن له أي علاقة بطقوس ومعتقدات الدفن. ولكن كان اسمه قد وَرَد بالفعل في نصوص الأهرام (الأُسرة الخامسة) في صِيَغ الجنازة. فيما بعد تحوّل اوزوريس الى سيد الحياة الأُخرى، وحكَم الروح بعد الموت. ان الحلقة الواصلة بين عبادة اوزوريس والايمان بالحياة الأُخرى هي الفكرة حوله بأنه اله يحتضر ويُبعَث من جديد. وفقاً للاسطورة، فبما أنه هو أول كائنٍ يموت، فقد تم تصويره على أنه حَكَمٌ للموتى، وأعطى بعثه السنوى للمؤمنين به الأمل أنه يُمكن، عن طريق المُساعدة التي يُقدمها لهم، أن يُنقذ أرواحهم من الموت الأبدي. كان مطلوباً من اوزوريس أن يحمي الموتى. علاوةً على ذلك، بُذِلَت محاولات لربط الميت بطريقةٍ سحرية بأوزوريس. كان هذا في البداية يحدث فقط في حالة الفرعون: كان الفرعون الميت، يُسمى أوزوريس في نصوص الأهرام. لاحقاً، تمت تسمية كل الأشخاص الذين ماتوا بأوزوريس، بدءاً من النبلاء، وحتى الناس البسطاء. كان يُشار الى الشخص الميت في نصوص الدفن بـ”يا أوزوريس كذا وكذا”. كانت الفكرة بسيطة: كان من الضروري خداع القوى السحرية المُعادية بطريقةٍ سحريةٍ بالاشارة الى الميت على أنه اله عظيم. أصبح أوزوريس الاله الرئيسي في طقوس الدفن، خاصةً في بداية عصر الدولة الوسطى. بدأ الناس، في مدينة أبيدوس Abydos المركز الثاني للعبادة بعد بوسيريس يعبدون قبر أوزوريس (كان في الحقيقة قبر أحد فراعنة الأسرة الأولى)، وأراد كل مصري مُتديَن أن يُدفَن بعد موته بالقرب من هذا الضريح تحت حماية أوزوريس، أو على الأقل وضع شاهد قبره هناك.
ظهرت الفكرة الأكثر تميزاً في طقوس الدفن المصرية، وهي فكرة الحُكم النهائي على أرواح الموتى، خلال عصر الدولة الوسطى. لم تكن هذه الفكرة موجودة بعد في نصوص الهَرَم. لكنها صارت واضحةً بالفعل بعد التنقيبات الأركيولوجية المُتعلقة بالدولة الوسطى.
ان قُضاة الروح هم أوزورس نفسه ومُساعديه والذين هم آلهة من 42 نوماً Nome بالاضافة الى أنوبيس وتحوت ووحش رهيب يأكل الأرواح المُدانة. يتم وزن قلب الميت في هذا الحساب الأخير، وكان مصيره يتوقف على أعماله الصالحة والسيئة. يُشير هذا الى الاعتقاد في القصاص بعد الحياة(جـ)، والذي يختلف عن الفكرة السابقة له عن الحياة بعد الآخرة باعتبارها مُجرد استمرار بسيط لحياة المرء على الأرض.
وُصِفَت مفاهيم المصريين عن مصائب الروح بعد الموت والحساب الأخير والأخطار التي تنتظرها وطُرُق تفاديها(د) (مفاهيم مشوشة ومتناقضة) بالتفصيل في (كتاب الموتى) The Book of the Dead. يحتوي هذا المُجلّد الكبير الذي يضم أكثر من 180 فصلاً على صِيَغ دفن سحرية. تعود أقدمها الى نصوص الأهرام (الأسرة الخامسة والسادسة)، ومن ثُمّ كُتِبَت على جُدران قبور الفراعنة. في الفترة الانتقالية، تمت كتابة هذه النصوص على توابيت النُبلاء، وبعد ذلك كُتِبَت هذه النصوص التي تكاثرت، على ورق البردي ووُضِعَت على صندوق المومياء. هكذا أصبح (كتاب الموتى) الشهير مُتناقضاً في مُحتواه.
تحتوي بعض فصول ذلك الكتاب على نداء الى الآلهة باسم الميت للدفاع عنه ضد الأخطار المُختلفة. في بعض الأحيان يُشير الأموات الى أنفسهم باسم تلك الآلهة. في فصولٍ أُخرى، على العكس من ذلك، هناك فكرة واضحة حول أن الناس يتحملون، بعد الموت، مسؤولية سلوكهم على الأرض. ينطبق هذا بشكلٍ خاص على الفصل 125 الشهير الذي يُحاول فيه الميت، تبرير وانكار خطاياه وأفعاله السيئة أمام محكمة أوزوريس: “لم أفعل شيئاً لاهانة الآلهة. لم أسمح للسيد أن يُسيء الى عبده. أنا لم أجعل أي شخصٍ يتضور جوعاً. أنا لم أتسبب في بكاء أحدهم. أنا لم أقتل أحداً… لم أسرق مؤن المعبد. لم أقم بتقليل الطعام المُخصص للآلهة”.
قام الكهنة بتطوير فكرة المسؤولية الأخلاقية للفرد عن أفعاله وعلاقتها بالايمان العالم الآخر والحكم النهائي، لصالح الطبقة الحاكمة استجابةً للتناقضات الطبقية المتزايدة. حاول ملاكي العبيد والكهنة تخويف الجماهير المُستَعبَدة والمؤمنة بالخرافات بالعقاب بعد الموت وأن يواسوهم بوجود المكافئات بعد الموت. هذا يدل على أن الطبقة الوسطى، وخاصةً الفترة القريبة من الاضطرابات الاجتماعية الكُبرى في القرن الثامن عشر قبل الميلاد (انتفاضات العبيد والفلاحين المظلومين). وبالتالي أثّرت العقيدة المصرية حول الحُكم النهائي على تطوّر نفس العقيدة في المسيحية.
بالاضافة الى الاعتقاد بأن الأفعال الصالحة أو السيئة تُكافئ أو تُعاقب، اعتقد المصريون أنه من الممكن تحقيق رفاهية الروح في العالم الآخر بوسائل سحرية صرف. تضمنت احدى هذه الطرق استخدام نص (كتاب الموتى)، بما في ذلك الفصل 125 الذي كان من المُفترض أن يكون له قوته السحرية الخاصة. تم وضع أشياء سحرية أُخرى على صندوق المومياء بجوار (كتاب الموتى)، وكان من المُفتَرَض ان يؤمّن ذلك روح الميت ضد الأخطار. كانت بعض الصِيَغ في (كتاب الموتى) تهدف الى مساعدة روح الميت على التحوّل الى حيوانات مُختلفة، وكان بعضها الآخر مُجرّد تعويذات. كانت المفاهيم السحرية في سياق مُعتقدات الدفن أكثر أهميةً للمصريين من الأفكار الأخلاقية-الدينية عنه.
كانت الأساطير المصرية واسعة النطاق، ولكن تم الحفاظ على جزءٍ صغيرٍ منها حتى يومنا هذا. لقد عكست أفكار المصريين الدينية. تُساعد الأساطير على رؤية التطور التدريجي للدين المصري نفسه وتحديد الديانات المحلية التي تنافست مع بعضها من أجل الهيمنة، بشكلٍ أوضح. كان لدى المصريين العديد من الأساطير حول نشأة الكون، تعارضت مع بعضها البعض. كان لكل منطقة أسطورتها الخاصة حول الخلق التي لَعِبَ فيها الاله المحلّي الدور الرئيسي. عَزَت أقدم هذه الأساطير خلق العالم الى الاله المحلي بتاح الذي حلّ محل حورَس وتحوت وآالهة أُخرى، وحتى أنه خلقهم كذلك.
عزا كهنة هليوبوليس خلق العالم الى اله الشمس رَعّ. وفقاً لقصة خلق الكون في هليوبوليس، وُلِدّ رَعّ نفسه من والده (نو) Nun الفوضى البدائية. رَعّ تزاوج مع نفسه في هذه الفوضى البدائية وخَلَق الهاً أعلى تلو الآخر، وكذلك البشر والحيوانات. أنجب الاله شو (اله الهواء) و وزوجته تفنوت، وجيب (اله الأرض) ونوت (الهة السماء) وآلهة أُخرى من “التسعة العُظماء” وُلِدوا من هذين الزوجين. خَلَق رَعّ الناس من دموعه. كانت الشمس احدى عيني رَعّ، والقمر عينه الأُخرى. تُمثل قصة خلق الكون في هليوبوليس بالتالي، سلسلة من التجسيدات، جنباً الى جنب مع أفكار الخلق المُشترك. وفقاً لأسطورةٍ أُخرى، تعانق نوت وجيب (الأرض والسماء) وقام الاله شو بفصلهما برفع نوت عالياً وانزال جيب الى الأسفل. على عكس مُعظَم الشعوب الأُخرى، اعتبر المصريون السماء أُنثى والأرض ذكراً. انعكست الآراء التي نشأت في المُجتمع الأمومي في هذا، على الرغم من أساطير هليوبوليس الشمسية عموماً كانت نتاجاً أساسياً لايديولوجيا المُجتمع البطرياركي.
كانت هناك مفاهيم متنوعة تماماً حول نشوء الكون والبشر. يعتقد عَبَدَة الاله خنوم في جنوب مصر أن هذا الاله خلق الناس على عجلة الفخّار(هـ). تأثّر هذا المفهوم بتطور الحِرَف. هناك أيضاً علاماتٍ على وجود أسطورة حول البيضة الكبيرة التي ولّدت الشمس، وربما العالم كله. ربما كانت هذه واحدة من أكثر الأفكار الكونية قِدَماً عند المصريين.
كانت الشمس بالنسبة للمصريين ذات أهمية قُصوى في التجسيد الأسطوري للظواهر الطبيعية. كانت أساطيرهم حول الشمس متنوعة كثيراً. في احدى الأساطير، حاربت الشمس، على شكل قطة ضخمة، ثُعباناً ضخماً ومُريعاً. في أسطورةٍ أُخرى، عكس القتال بين رَعّ (الشمس) وثعبانٍ تحت الأرض حركة الشمس على مدى 24 ساعة وغروبها في الأفق. اعتقد المصريون أن الشمس تقوم برحلتها اليومية في قاربٍ خشبي (كانت المراكب وسيلة النقل الرئيسية في مصر، وهي دولة تمتد على طول وادٍ نهري). تم تجسيد الشمس أيضاً على شكل حيواناتٍ مُختلفة: خنفساء scarab beetle، صقر، أفعى، قطة. لقد ذكرنا العلاقة بين الشمس ونشأة الكون، وأشرنا الى الأفكار حول العالم الآخر.
جسّد المصريون السماء اما على شكل أُنثى-الالهة نوت (تم تصويرها وكأن أصابع يديها وقدميها فقط على الأرض، أما ظهرها فيرتفع مقوساً وكأنه السماء)، أو على شكل بقرة (رُسِمَت قوارب تحمل الشمس والقمر والنجوم على جسد بقرة).
جسّد المصريون العديد من الظواهر الطبيعية الأُخرى في السماء وعلى الأرض: القمر والهواء والأرض والنيل والصحراء. على النقيض من الظروف الطبيعية المواتية لنهر النيل الذي تم تجسيده على أنها معبودةٌ خيّرة، فان كل ما يتعلّق بقوى الصحراء المُدمرة أدت الى ظهور صور آلهة شيطانية عدائية: سيث وسيخميت.
كان سيث الشرير بارزاً في الأساطير المصرية. كان، في أسطورة أوزوريس، هو الأخ الماكر المسؤول عن مقتل أوزوريس. اكتُشِفَت عام 1931 احدى الأساطير التي تحدّثت عن نزاعٍ بين سيث وحورَس حول ميراث أوزوريس. تعكس هذه الأسطورة ليس فقط ظاهرة طبيعية معروفة (الصراع بين الصحراء وخصوبة وديان الأنهار)، ولكن تعكس أيضاً دوافع اجتماعية: فقد حارَبَ ابن اوزوريس أخوه من أجل ورثته (العائلة في مقابل العشيرة).
كانت الأساطير حول أبطال الثقافة شائعة جداً أيضاً، لكن كان جميع أبطال الثقافة عند المصريين آلهة. كان من بينهم اله هيرموبوليس تحّوت، اله العُلماء والكَتَبة الذين اخترعوا العلوم وجمعوا الكتب المُقدّسة. كانت خصائص بطل الثقافة واضحةً أيضاً في تشعبات وتعقيدات صورة اوزوريس: تقول الأسطورة أن أوزوريس كان ملك مصر، وقد علّم الناس الحراثة والبستنة وزراعة العنب. اندمجت صورة بطل الثقافة وصورة اله الخصوبة والزراعة في شخصية واحدة.
لعبت ممارسة السحر دوراً رئيسياً في الدين المصري. نحن نعلم، وفقاً للعديد من النصوص والآثار، أن السحر كان يُستَخدَم في كل مجال من مجالات الحياة وفي كل فترة من التاريخ المصري. كان السحر الدوائي، كما هو الحال عادةً، مُرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالطب. كان الطب المصري، وخاصةً الوصفات الدوائية، متطورة نسبياً، لكنه لجأ كثيراً الى الصيغ السحرية. حتى الأطروحات الطبيعة الأكثر عمليةً (بردية ايبرس) Ebers Papyrus الشهيرة (الأسرة الثانية عشر، 2000 قبل الميلاد) لا تحتوي على وصفات دوائية مُختلفة وحسب، بل تضمنت أيضاً تعويذات سحرية ضد العديد من الأمراض، أما الكتابات الأُخرى احتوت على أكثر من ذلك. خلال عصر الدولة الجديدة (منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد)، توقّف الطب المصري عن التقدم، وكان يعتمد بشكلٍ أساسي على المفاهيم السحرية وأساليب المداواة، كان سبب ذلك يعود الى أن الممارسة الطبية كانت تتم بشكلٍ رئيسي من قِبَل الكهنة. كما تم استخدام السحر الوقائي. كان القصد من العديد من الممارسات السحرية والتعاويذ منع لدغات الثعابين والحشرات السامة وللحماية من التماسيح والوحوش المفترسة المختلفة. تم استخدام تعويذات وعقاقير لأغراض وقائية من شتى أنواع الشرور. كما تم استخدام سحر الطَقس، على سبيل المثال لمُحاربة أعداء الشمس. تم وصف احدى هذه الطقوس في كتاب أبوفيس، وأبوفيس هي أفعىً ضخمة وعدوٌ لرَعّ. كان الكهنة يقرأون هذا الكتاب في معبد طيبة يومياً مصحوباً بترديد التعويذات والطقوس السحرية (لجعل الشمس تُشرق). استخدم المصريون أيضاً السحر الأسود: كانوا يتمتمون بتمنيات حاقدة وسيئة على صورة العدو الشمعية. كما كان سحر الدفن المصري معروفاً جيداً وهو نظام من الوسائل السحرية لضمان حياة الميت الرغيدة في العالم الآخر. لم تكن المفاهيم السحرية عند المصريين موجودةً بشكلٍ نقيٍ على الأغلب، ولكن كصور معقدة عن الآلهة.
لعب الكهنوت دوراً هائلاً في الحياة الدينية في مصر، لا سيما في الفترة المتأخرة، ولم يتطور دُفعةً واحدة. خلال فترة الدولة القديمة كان الكهنوت صغيراً من حيث العدد. كان النبلاء والرؤساء المحليين هم من يمارسون الطقوس الدينية، وكان الفرعون، في مركز الدولة هو من يفعل هذا أيضاً. تصرّف الكهنة نيابةً عن الفرعون، أي باسمه. كان هناك تأثير متزايد فقط من قِبَل مؤسسات الكهنوت في المعابد الرئيسية مثل معبد بتاح في ممفيس ورَعّ في هليوبوليس. انبثقت أقدم النصوص اللاهوتية المعروفة عن تلك المؤسسات الكهنوتية. لكن في تلك الفترة كانت هناك بالفعل مراكز عبادة تحوز على العديد من المُمتلكات بسبب العطايا للملك. كانت في الأساس معابد مُرتبطة بالمقابر.
خلال عصر الدولة الوسطى، ظل وضع الكهنة على حاله، كان هناك عدد قليل منهم، وكان مُعظمهم من النبلاء.
في الفترة ما بين عام 1700-1570 قبل الميلاد، وبالارتباط بتفاقم المشاعر الاثنية لدى السكان المصريين، وغياب الملوك أو تقلّص سلطتهم، صار الكهنوت أكثر قوةً، ومستقلين الى حدٍ ما عن السلطة الزمنية. خلال الأسرة الثامنة عشرة (القرنين السادس عشر والرابع عشر قبل الميلاد) صارت الكهانة وراثية. اتحد الكهنة في معابد تحت أقواهم، أي كاهن معبد آمون في طيبة: أصبحت طيبة مرةً أُخرى عاصمةً للدولة المُنتعشة. برز الكاهن الأعلى لآمون في التسلسل الهرمي السياسي. جلبت الفتوحات العظيمة للفراعنة في الأسرة الثامنة عشرة وفرةً من الثروة المنهوبة ونُقِلً جزء كبير منها الى المعابد. اعتمد الفراعنة على الكهنوت في صراعهم من أجل دعم الطبقة الأرستقراطية الزمنية واسترضاءها بالهدايا والكنوز الجزيلة. بذل الفراعنة جُهداً كبيراً لبناء المعابد وتوسيعها خاصةً في طيبة. نتيجةً للحملات الآسيوية للملك تحتمس الثالث Thutmose III، احتل معبد آمون في طيبة ثلاث مُدن في جنوب لبنان، بالاضافة الى مساحة كبيرة من الأراضي في مصر نفسها. في عهد الملك امنتحوتب الثالث Amenhotep III، نمت قوة الكهنة لدرجة أنه حتى الملوك صاروا يخافون منهم.
قام ابنه الملك امنحوتب الرابع (1419-1402 قبل الميلاد) بمحاولة جرئية لا مثيل لها تقريباً لتخليص نفسه من رقابة الكهنة وهزيمة سلطتهم. حاول في البداية الاعتماد على كهنة هليوبوليس لمواجهة كهنة آمون، لكن بعد أن واجه المقاومة اتخذ اجراءاتٍ أكثر حزماً: ألغى عبادة جميع الآلهة في الدولة، وأمر باغلاق جميع معابدهم ونصّب الهاً جديداً (آتون، قرص الشمس وأشعتها الواهبة للحياة). أعلن نفسه الكاهن الأعلى لهذا الاله الواحد والجديد، وأعاد تسمية نفسه أخناتون (ارضاءاً لآتون). ترَك طيبة ونقل مقر اقامته الى مدينة اخيتاتون Akhetaton الجديدة. اعتمد اخناتون في سياساته على بعض الطبقات الوسطى التي عانت من استبداد الطبقة الأرستقراطية والكهنوت. كان الاصلاح الديني، في الواقع، خطوةً سياسية، وكاد هذا الاصلاح نفسه، أن يرقى الى مستوى ثورة. لكن ظروف هذا الاصلاح كانت ضعيفة. كان الكهنوت القديم مُتحالفاً مع النبلاء واعتمد على قطاعاتٍ مُعينة من الجماهير، وظل يتمتع بسلطةٍ كبيرة. تمكن الكهنوت من تنظيم مقاومةٍ ضعيفة، ولكن عنيدة ضد الفرعون المُصلح. كانت العبادة الرسمية المركزية الجديدة موجودةً فقط عندما كان اخناتون على قيد الحياة. أُجبِرَ من خلفوه السلطة على الاستسلام مرةً أُخرى لتأثير كهنوت طيبة واستعادة عبادة الآلهة القديمة والتخلص من عبادة آتون. كان اسم الفرعون المُهرطق ملعوناً، وصار الكهنوت، بعد انتصارهم هذا، أقوى من ذي قبل.
صار الكهنوت أكثر قوةً، وأصبحت الحكومة الزمنية أضعف في نفس الوقت. فقد فراعنة الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين (منتصف القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد) قوتهم تدريجياً، واضطروا الى الاعتماد على الكهنة ودفع المزيد من الأراضي والتبرعات لهم. كان رمسيس الثالث كريماً بشكلٍ خاص مع الكهنة. تحتوي (بُردية هاريس) Harris Papyrus الكبيرة على قائمة من التبرعات الهائلة الى المعابد. كانت المعابد المصرية، بحلول نهاية عهده، تمتلك ما يقرب من 3000 كيلو متراً مُربعاً من الأراضي الزراعية، أي حوالي 15% من جميع الأراضي المزروعة. تمتلك المعابد في طيبة وحدها 2393 كيلومتراً مُربعاً من الأرض. كانت المعابد تمتلك 103175 عبداً وقنّاً بما في ذلك 81322 خادماً لمعبد طيبة وأكثر من 490000 رأساً من الماشية. تلقّى كهنة آمون سنوياً من عبيدهم وأقنانهم حوالي 310000 كيساً من الحبوب و25000 جرة نبيذ ومئات من رؤوس الماشية ومئات آلاف الطيور وحوالي 1000 كيلوغرام من الفضة و52 كيلوغراماً من الذهب وكثير غير ذلك.
بالاضافة الى تبرعات الفرعون للمعابد، جميع الكهنة ايضاً جزيةً كبيرةً من المؤمنين. اصبحت المعابد قوةً اقتصاديةً يُحسب لها الحساب في البلاد، واستمرت السلطة السياسية للكهنوت في النمو. كان فراعنة الأسرة العشرين دُمىً في يد الكاهن الأعلى في طيبة الذي ظل مركزه وراثياً لفترةٍ طويلة. تولّى كاهن طيبة عام 1050 قبل الميلاد، رسمياً، السلطة الزمنية العُليا. ومع ذلك، وبسبب التدهور العام لمصر،فان سلطته اقتصرت في الأمر الواقع على منطقة طيبة. كان لمصر السُفلى قادتها. استمر حكم الكهنوت في طيبة بتذبذبه ما بين صعود وهبوط قوته حوالي 400 سنة، حتى الفتح الآشوري عام 617 قبل الميلاد.
تباينت الوظائف الدينية للكهنة بشكلٍ كبير، خاصةً في الفترة اللاحقة. أقام الكهنة طقوساً وقرابين دينية. أُقيمت كل عام ستون احتفالاً دينياً في المعابد في طيبة. بالاضافة الى عبادة الآلهة، كان الكهنة مسؤولين عن طقوس الدفن المُعقدة: التحنيط وطقوس الدفن وسحر الدفن بصيغه المُعقدة وكتاباته الخاصة والاشارف على المقابر وطقوس الاطعام. كل هذا شكّل أداةً مُهمةً لممارسة النفوذ.
كان للكهنة المسؤولين عن الايديولوجيا تأثير قوي على جميع جوانب الشؤون الفكرية في مصر. تأثرت الفنون بشدة بالدين. وهذا يُفسّر الى حد كبير التقليد الراكد الذي أعاق التطور الحر للرسم والعمار. كان على الفنانين، وخاصةً أولئك الذين يعملون في المعابد أن يسيروا وفق التشريعات المعمول بها. في الكتابة، انعكس تأثير الكهنة في وفرة الأدب الديني والأسطوري واللاهوتي الصرف. أما موقف الكهنوت من بدايات المساعي العلمية في مصر، فان الآراء تختلف حول هذا الموضوع. وقد بالغ المؤرخ اليوناني هيرودوت وآخرين في تضخيم معارف الكهنة المصريين، وذكروا أنه كان هناك نوع من العلم السري. لكن هذا الرأي، بينما لا يزال يؤيده البعض، لا أساس له من الصحة. كان للكهنة المصريين، بالطبع، علاقة بمجالات المعرفة مثل الطب، لكنهم كانوا على الأرجح يضرون بتطورها بسبب طُرقهم السحرية. كان الكهنة ذوي معرفة جيدة بعلم الفلك. يبدو أن الكهنة لم يتحكموا بالرياضيات وفروعها المختلفة ، على الأقل في الفترة الكلاسيكية. ان الرأي التقليدي القائل بأن الكهنة المصريين كانوا حُكماء بشدّة هو رأي مُبالغ به.
تميّزت الديانة المصرية بنزعتها المُحافظة الشديدة. ومع ذلك، لم يتغير هذا الوضع بتغيّر الظروف التاريخية. كان الخط العام للتطور، أولاً، هو الاندماج التدريجي للعبادات المحلية وتوحيدها في عبادة الدولة للآلهة المصرية واسعة النطاق وكهنوت مُنظّم. لكن استمرت العبادات والمعتقدات والعادات المحلية المُنفصلة حتى النهاية. ثانياً تألّف خط التطور العام من حقيقة أنه مع تنامي التناقضات الاجتماعية، أصبح الدور الطبقي والقمعي للدين أقوى من أي وقتٍ مضى، وازدادت قوة الكهنوت، وأصبحت طبقةً مُنغلقة كجزءٍ من الطبقة الحاكمة. ثالثاً، كان هناك اتجاه تدريجي، وان كان ضعيفاً، للتغلّب على العُزلة القومية للدين المصري. وقد عَكَسَ ذلك توسّع العلاقات السياسية والثقافية الدولية لمصر.
منذ أيام الدولة الوسطى، مع نمو وتوسّع مصر ودخولها في علاقاتٍ مع الأمم المجاورة، بدأت الآلهة الغريبة بالظهور في البانثيون المصري. كان هذا هو الحال، على سبيل المثال، مع الاله النوبي بيس Bes والالهة الليبية نيث. خلال حقبة الفتوحات العظيمة للأسرة الثامنة عشرة، ظهرت آلهة شعوب آسيا: بعل Baal، عشتروت Astarte الخ. خلال فترة الأسرة السادسة عشرة (اسرة سايس)، عندما كانت السياسة عبارة عن احياء قومي، تعرّضت العبادات الغريبة للقمع وسعت الحكومة لاحياء عبادة الآلهة المصرية الصرف. ومع ذلك، فان هذا، لم يوقف لفترة طويلة عملية الامتزاج الشامل ببآلهة والعبادات. بقدر ما دخلت آلهة أُخرى في البانثيون المصري حدث العكس أيضاً: كانت الآلهة المصرية تُعبَد في أماكن أُخرى (كان آمون واوزوريس وايزيس وآلهة أُخرى تُعبَد في فينيقيا وسوريا وحتى اليونان).
كان لهذه الظاهرة، التي أدت الى التوفيق بين المعتقدات الدينية، تأثير قوي بشكل خاص في الفترتين الهلنستية والرومانية. لقد عكست الأزمة المُبكّرة للدول العبودية والدول المعزولة في البحر الأبيض المتوسط.
على الرغم من قوة الآيديولوجيا الدينية في مصر، كانت هناك بعض علامات التفكير الحر والنهج الناقد للعقيدة الدينية. عَكَسَ التفكير الحر تفاقم التناقضات الاجتماعية والاحتجاج غير المُنظّم ضد المُجتمع الاستغلالي. كان هذا الاحتجاج واضحاً ايضاً بين بعض فئات الطبقات ذات الامتيازات. ان اشنودة عازف القيثارة The Song of the Harp Player، وهي عمل أدبي خلال الدولة الوسطى، عَكَسَت بشكلٍ واضحٍ أمزجة التفكير الحر. أعرب مؤلفها عن شكٍ واضحٍ باستمرار وجود الروح بعد الموت.
عبّرت بعض فئات الطبقة الحاكمة عن هذا الشك. أما بالنسبة للجماهير والعبيد والفلاحين، فقد اقترن احتجاجهم على الاضطهاد الاجتماعي أحياناً مع العداء للدين. اتضح هذا من خلال (بردية ليدن) Leyden papyruses الشهيرة التي وصفت الانتفاضات الاجتماعية الكُبرى في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. لم تتوقف حشود المتمردين عند المعابد، بل قامت بتدميرها. اشتكى كاتب هذه البردية من فتح المتمردين للهرم ورمي المومياوات وممتلكاتها على شكل أكوام. على ما يبدو، تم اخلاء معابد الآلهة وتوقف الناس عن تقديم القرابين والتبرعات خلال التمرد. وناشد كاتب البردية الناس الى استئناف العبادة والعودة الى تقديم القرابين والصلوات.

مالك ابوعليا

الكاتب: سيرجي الكساندروفيتش توكاريف – ترجمة مالك أبوعليا

أ- أكثرها شُهرةً مثل ثُلاثية ايزيس-أوزوريس- حورَس.
ب- نُلاحظ التشابه مع فكرة (القرين) الاسلامية، والتي يبدو أنها أُخِذَت من الديانة المصرية القديمة.
جـ- نُلاحظ أيضاً تشابه هذه الأفكار المصرية القديمة مع العقائد الاسلامية عن يوم القيامة والحساب.
د- يُذكرنا هذا بـ(أهوال يوم القيامة) الاسلامية.
هـ- هناك تشابه بين قصة الفخار المصرية، وقصة الطين والفخّار الاسلامية في خلق البشر.

ترجمة للفصل السادس عشر من كتاب:
History of Religion, Sergei Tokarev, Translated From Russian To English by Paula Garb, Progress Publishers, Published 1986, Translated 1989.
Chapter Sixteen: Religion in Ancient Egypt

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

يرحم الله الرحماء.. فلنكن رحماء.. عن المغرب وليبيا نتحدث

لم يمضِ يوم واحد على الزلزال المريع الذي ضرب المغرب في العاشر من سبتمبر العام الحالي 2023 والذي وقع ضحيته الآلاف من الضحايا.. حتى فوجئ العالم بخبر سيلٍ جارف ضرب ليبيا وخلّف بدوره الآلاف من الضحايا والمنكوبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
27 + 12 =