الحروب المالية الأميركية .. أداة للإخضاع الاستعماري – 1 من 2

إنّ إفتقار الحروب الأميركية ببُعدها المالي- الإقتصادي لأيّ إطارٍ قانونيّ دولي شاملٍ مُتفقٍ عليه، يُحدّد شرعيتها، يؤكّد على أنّها إحدى الأدوات الإخضاعية – بأبعادٍ إستعماريّة.

لم يتغيّر جوهرُ العقل الإستعماري، وإنّما اختلفت الأدوات المُستخدَمة والظروف. ويبقى الكاشف الواضح هو الغطرسة المرتكزة على القوّة بأيّ شكل أو أسلوب اعتُمدت، والهدف يكمن في التحكّم بالشعوب ومقدّراتها. فإمّا “الإمتثال” لقواعد وإجراءات المُتحكّمين (دول وأسواق كبرى) بالنظام العالمي، وإمّا أخذ الشعوب (دول وأسواق صغرى) رهينةً لـ”إبتزاز” حكّامهم وإخضاعهم لشروط وهمِ “المساواة والسيادة” وإشعارهم بأنّهم باتوا خارج اللعبة الدولية.

مبدأ “الإمتثال” الصارخ اليوم، وإن تمثّلت أهدافه بتعزيز “الشمول المالي” الذي بات من الغايات الرئيسية للتنظيم المالي الوطني والدولي، فإنّ عدم الإمتثال يجعل من “الارتهان” نتيجةً حتميّةً للأنظمة السياسية التي تدور في فلك القوى المُهيمنة لا سيما وأنّ عدم الإمتثال يوازي الإزاحة عن الخارطة العالمية. فيما يبقى التفاوت الهائل في المقدّرات الإقتصادية بين الدول- الأسواق الصغرى، لعب الدور الأبرز في إفساح المجال أمام الدول- الأسواق الكبرى لكي تصوغ منفردةً النظام الدولي المعاصر.

“الحروب المالية الأميركية”

يُضيء كتاب “الحروب المالية الأميركية” على كيفية الإمتثال للقواعد والإجراءات المالية الدولية والأجنبية في القانون المالي الدولي. الكتاب صادر عن دار الفارابي في بيروت خلال شهر كانون الأول / ديسمبر 2021، من تأليف الباحث اللبناني في القانون المالي الدولي الدكتور أحمد سويدان.

الكتاب يشتمل على إناراتٍ يتسّع شُعاعها ليُغطّي المبادئ الأساسية للقانون المالي الدولي، يُعين في فهم الإجراءات المالية الأحادية من ضمن الحرب المالية الأميركية وتداعياتها على مستوى النظام الدولي المعاصر. ويصبّ في خانة الكتب المرجعية المرموقة علمية المعايير والمُحكمة، التي تُشكّل ركيزةً صلبةً في حقل دراسات القانون النقدي والمالي الدولي، وفهم أُسس الحروب المالية وأدواتها وسلاحها ومآلاتها، وتُعين- حتماً- في رسم خريطة مواجهة علمية وحقيقية لهذه الحروب وتداعياتها.

الأهمية والأسلوب

أهمية الدراسة تكمن في أنّها، وفي زمن المعلومات “المُضلّلة” و”المعلّبة” وتسفيه الحقائق والاستثمار السياسي الفارغ، تغوص في رحلة بحثٍ دقيقة للغاية حول كيف استثمرت الولايات المتحدة هيمنتها المالية وأنظمة الدفع المرتبطة بعملتها لتشكيل النظام الدولي، وصولاً إلى فرض إملاءاتها ومعاقبة كل من يرفض الامتثال لها. دقّة البحث، تستدعي دقّة في القراءة لتشكيل فهمٍ موضوعي.

قد يُفهم أنّ الدراسة تنحاز بخُلاصاتها أو تعكس تفهّماً أو حتى تعطي مبرّراً لبعض السياسات والإجراءات الأميركية بحقّ دولٍ وكياناتٍ وأسواقٍ وأطرافٍ مختلفة. فالقراءة التي تحتاجها الدراسة، تستوجب دقّةً في الفهم وتشريحاً للمعطيات المقدّمة بعيداً عن “عواطف” السياسة.

تبحث الدراسة في أصل الإجراءات المالية الأميركية وشكلها وقوّتها القانونية وتداعيات عدم الإمتثال لها، سواء كإجراءات وطنية أم إجراءات دولية، وليس الإحاطة بتفاصيل الإجراءات المذكورة. وإزاء ذلك، يقول الباحث:”لو كنّا أحسنّا إدارة مواردنا لكانت حالنا أفضل بكثير من الخضوع لمعادلة الامتثال”.

يتألّف الكتاب من 568 صفحة، تمتدّ الدراسة على 536 منها، إلى جانب لائحة طويلة من المراجع الأصيلة، تجعل من الدراسة تُضاهي بأهميتها الدراسات الغربية المرموقة في ظلّ افتقار حقل الدراسات العربية إلى دراساتٍ قانونية جادّة وشاملة في الشأن. وقد أحال الافتقار للمراجع العربية، الباحث الى المصادر الأصلية والمعاصرة المتوافرة باللغات الأجنبية، للتمكّن من إبراز الإجراءات النقدية والمالية الدولية في أصل نشأتها من الزاوية القانونية، وتبيان تداخلها مع الإجراءات الوطنية للدولة – السوق الأكبر باختلاف مراحل النظام النقدي والمالي الدولي.

فكان من الملفت وجود كتابين فقط لا غير ضمن الكتب العربية المرجعية المعتمدة، بينما لائحة الكتب المرجعية الأجنبية تجاوز عددها المئة، فضلاً عن عدد الدوريات الأجنبية، ودراسات وتقارير وأوراق عمل متخصّصة أجنبية، مقابل ثلاثة تقارير عربية فقط لا غير، إضافة إلى عدد كبير من المنشورات في المواقع الالكترونية ومواقع المنظمات الدولية والقرارت الدولية ذات الصلة بالدراسة.

وغياب المراجع العربية أمرٌ يُفسّر سبب استخدام الباحث للمصطلحات الأساسية بلغتها الأصلية-الانكليزية، ليتبيّن أنّ هناك الكثير من المصطلحات التي يتمّ تدوالها في هذا الشأن غير دقيقة واستخدامها غير علمي.

تتميّز الدراسة بتقاطعٍ حيويّ في مجالات معرفية مختلفة من فلسفة وعلوم مالية وتاريخ واقتصاد وقانون وحتى جغرافيا أحياناً، يُضفي تشويقاً لفهم مقاربة تبدو معقّدة للوهلة الأولى. وهو تقاطع كان لا بُدّ من الإلمام بموضوعاتها وحُسن استخدام معطياتها وحقائقها قبل النفاذ الى المجال القانوني منها.

المزج السلس، في ربط مجالات معرفية مختلفة نتاج الغنى المعلوماتي الهائل الذي تحتويه الدراسة. مزجٌ يجعل المادة المالية- القانونية حيويّة رغم قالبها الجاف في الأساس، ويجعل الدراسة تتسمّ بالشمولية بعيداً عن نظريات المؤامرة وخاصة في مقاربة الحروب المالية الأميركية التي تشهد الكثير من “التمييع”.

وفيما تأخذ “هوامش” الدراسة حيّزاً مُلفتاً من حيث الشكل، يتبيّن أنّ مضمونها يتمتّع بأهمية إستثنائية. فمضمون “الهوامش” يحتوي معلومات أساسية تارةً تُعين القارئ على تشكيل إحاطةٍ أوسع وفهم أشمل لمسائل ذات صلة بالدراسة المُقدّمَة، وتُضمر طوراً، همزاً حيال قضية، هنا وهناك، قد تُمهّد لفتح باب البحث حيالها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ولدى مقاربة ملف التهرّب الضريبي في العالم، وكون الملف يتطلّب مبحثاً مالياً مستقلاً يخرج عن نطاق الدراسة، يلفت الباحث الى البلد سويسرا حيث “السيادة وحكم القانون مرنان إلى أقصى درجة تسمح باجتذاب أكبر قدر من الأموال وتفريخ المنطمات الدولية”. سويسرا البلد الذي لا يُذكر إسمه إلاّ و”الحياد” قرينه و”الإنسانية” تلازم ذكره، يوجز الباحث واقعه بالقول: “جنيف كمقرّ للمنظمات الدولية هي سوق بناه الانتهازيون ليبيع فيه الأقوياء الضعفاء وهم المساواة والمشاركة، وفي السوق ملاهٍ كثيرة أيضاً، منها “حقوق الانسان” و”الإنسانية”، يتبادل الأدوار فيها القاتل مع ضحيته، ويعتاش منها تافهون كُثر، يلوكون الكلام ذاته بلا كلل أو ملل، كما يلوك الجائع معدته ليسلى بعصائرها وينام”.

قولٌ، وإن كان البعض يعدّه “استطراداً”، غير أنّه، ولا شكّ، من الأهمية في مكان يجعل من إعادة تشكيل فهمٍ موضوعي حول دول وأطراف وما تخفيه من أدوار مشبوهة ضرورة لا بُدّ منها، بدلاً من التسليم “الساذج” لكلّ ما يتمّ التسويق له من عناوين برّاقة تتخذ من “الإنسانية” شمّاعةً لتبرير ارتكاب الفظائع بحقّ الإنسان وبغطاءٍ دولي.

قد يؤخذ على الباحث سويدان تكلّفه في أسلوب الكتابة المعتمد، فالجمل الطويلة والمُركّبة وإن كان البعض قد لا يستسيغها، غير أنّ هذا التكلّف يستحيلُ سلاسةً حين يُلحظ احترام عقل القارئ في جعله شريكاً في رحلة البحث واستخلاص النتائج الموضوعية من الدراسة المُقدّمَة. فأسلوب الباحث في الكتابة، يكشف عن بلاغةٍ أدبيةٍ ورصانةٍ فكريةٍ يتمتّع بها، وقدرةٍ على تقديم فكرة معقّدة في قالبٍ مترابطٍ وواضح بدل اللجوء الى إطالة الشرح والاستطراد. وهو أسلوب أبعد ما يكون عن أسلوب “التلقين” و”الحشو”. ويُحسب للباحث بأسلوب الكتابة المعتمد، قدرته على “تطويع” اللغة والمواد البحثية الجافة وأدبياتها المعقّدة، ليشارك القارئ المتخصّص وغير المتخصّص بالقانون المالي الدولي، ما يعكس اهتماماً بضمان أن يتفاعل أيّ قارئ مع مضمون الكتاب، ما قد يفتح آفاقاً بحثية جديدة لذوي الاهتمام بالقضايا ذات الشأن.

الإشكالية والمنهجية:

تتميّز الدراسة القانونية- السياسية المقدّمَة في كتاب “الحروب المالية الأميركية”، باتباع منهجية بحثية تتسمّ بالدّقة في طرح الإشكالية ومعالجة الفرضية البحثية بموضوعية مع تقديم إحاطةٍ وافية وشاملةٍ للخلفية التاريخية ذات الصلة تُعين في فهم واقع ٍ مالي- سياسي معاصر معقّد ومتشابك في حيثياته.

تتمحور الإشكالية الرئيسية حول الأسباب التي توجب على المؤسسات المالية في بلد ما أن تمتثل للقوانين والإجراءات المالية التي تقرّها دولة أخرى، وما يمكن أن ينتج عن عدم الامتثال، والوقوف عند المسؤوليات المترتبة عليه، فضلاً عن موقع “الإجراءات” في القانون الدولي. لتنطلق فرضيات البحث، من إشكالية التفاوت الحاصل حول أهمية العملات الوطنية وأسواقها المالية بعيداً عن المساواة السيادية التي يقرّها القانون الدولي، وما يشكّله، التفاوت المذكور من دينامية تتطور من خلالها بنية النظام النقدي والمالي الدولي وإجراءاته، ومن كون القطاع الخاص المالي كان وسيبقى المقرّر الأساس في كل ما يتعلّق بالتنظيم النقدي والمالي، سواء على المستوى الوطني أم الدولي.

فمن خلال “التفاوت الثلاثي” المذكور ودوره، يوضح الباحث سويدان أنّ “الأسواق الصغرى، تكون محكومةً بالإمتثال للإجراءات التي تقرّرها الأسواق الكبرى، سواء كإجراءات وطنية محضة أم كإجراءات دولية، وبعيداً عن قاعدة المساواة في السيادة ومبدأ الالتزام الرضائي لقبول الموجبات الدولية اللذين لا مكان لهما في القانون النقدي والمالي الدولي”.

الإشكاليات المتداخلة والتساؤلات المتشعبّة التي تطرحها الدراسة، أوجبت الاعتماد على مناهج بحثية أساسية. فكان “المنهج التاريخي” لرصد القَونَنة المتزايدة للتعاون النقدي والمالي الدولي وتعاملاته ومؤسساته مع مرور الزمن. وانطلاقاً من أنّ القانون الدولي المعاصر يعود في جذوره الحديثة إلى أوروبا القرن التاسع عشر ونشأة الدولة الأمة فيها، اتخذ الباحث هذه المرحلة التاريخية كمرجعية تأسيسية لعرض تطور القواعد النقدية والمالية الدولية. في الموازاة تمّ اعتماد “المنهج القانوني المُؤَسَّسي” في دراسة المنظمات والهيئات النقدية والمالية الدولية للوقوف على بنيتها التنظيمية وعلاقاتها في ما بينها، فيما تمّ رصد التغيرات في البُنى التنظيمية لهذه المنظمات والهيئات وأدواتها القانونية ربطاً بالأزمات المالية الدولية التي كانت السبب في نشأتها وتطور آليات عملها. كما تمّ اعتماد “المنهج المقارن” في دراسة الأنظمة المالية الوطنية، وتقديمها كأمثلة على الامتثال للإجراءات المالية الدولية، سواء في بنيتها التنظيمية أم في إجراءاتها التنظيمية والرقابية في قطاعها المالي.

أقسام الدراسة:

تحاول الدراسة تقديم ربط لكلّ الأبعاد السياسية والاقتصادية ذات الصلة أو التأثير في مفهوم القانون المالي الدولي، وتقديم مزيد من الأبعاد ذات الصلة بمفهوم “السيادة المالية”. لذا، تنقسم الدراسة إلى قسمين، ويُقسم كل قسمٍ إلى فصلين.

تجدر الإشارة، إلى أنّ الكتاب يحتاج إلى إضاءات أوسع وأشمل، نظراً لأهمية الدراسة وضخامتها فضلاً عن منهجيتها الدقيقة والمنحى التخصّصي الذي تتخذه. لذا، سيتم التركيز على بعض من أبرز العناوين التي تعالجها الدراسة في قسميها، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

أولاً: السيادة النقدية والمالية

القسم الأول من الدراسة يأتي تحت عنوان، “السيادة النقدية والمالية وتطور النظام النقدي والمالي الدولي المعاصر”. وينقسم الى فصلين، الأول هو السيادة النقدية والمالية انطلاقاً من أنّ الدولة هي مرتكز التنظيم الدولي المعاصر، أمّا الثاني فهو تطوّر النظام النقدي والمالي الدول.

وإذ يُشكّل “النقد” أو “العملة”، المرتكز الأساسي للتعاملات النقدية والمالية ونظامها القانوني سواء على المستوى الوطني أو الدولي، فإنّ ” السيادة النقدية” هي “حقّ الدول في تحديد العملة المستخدمة داخل حدودها”. وفيما يُقرّ القانون الدولي بسيادة الدولة على نقدها الوطني وبالنتيجة على الآثار الداخلية والخارجية لنظامها النقدي والمالي، يُشدّد الباحث على أنّ النظام الدولي لا يمكنه أن يقوم أو أن يستمر إلاّ من خلال تأمين التعاون الاقتصادي بين مكوّناته كمدخل لتأمين حاجات الشعوب وضمان تفاعلها المتبادل.

أمّا في ما يتعلّق بلبنان، كمنموذج للأسواق- الدول الصغرى تتطرّق إليه الدراسة، فـ”العملة” اتخذت مكانها في صلب النصوص الدستورية والتشريعية الوطنية وفق قانون النقد والتسليف وتعديلاته التي نصّت على أنّ “إصدار النقد امتياز للدولة دون سواها”، كما في المادة الأولى، وفقرتها الثامنة من دستور الولايات المتحدة الأميركية التي أعطت الكونغرس اختصاص إصدار النقد، حيث تنحصر بالسلطة الفدرالية دون أي من الولايات سلطة الإصدار.

وتستقلّ الدولة بموجب القانون الدولي بممارسة صلاحيات مختلفة تجاه عملتها تنظّمها بموجب قانونها الوطني. صلاحياتٌ تتعدّى تداعياتها في أحيان كثيرة حدود جغرافيتها السيادية، وتعتبر وثيقة الصلة أيضاً بسياستها الخارجية في ظل اعتقاد راسخ لدى الكثير من الدول بأنّ لها حقاً في منع أعدائها، أو من لا يجاري مصالحها، من التعامل بعملتها. “الحق في منع أعدائها”، يُعدّ بحسب الباحث، قضية إشكالية في القانون الدولي، لاسيما لناحية خرقه لقاعدة المساواة بين الأفراد، وقد يتخذ أشكالاً متنوعة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تجميد الأصول المالية العائدة للمواطنين الأجانب، وهو السلوك التي تلجأ إليه الولايات المتحدة الأميركية باستمرار.

وإن كان حقّ الدولة في اعتماد نقد وطني بها يقابله حقها في ممارسة سيادتها النقدية من خلال اعتماد عملة دولة أخرى لتكون بمنزلة عملتها الوطنية، يلفت الباحث إلى أنّ ممارسة الدولة لسيادتها النقدية على هذا النحو، تظهر تداعياتها في مدى قدرتها على انتهاج سياسية مالية مستقلة. سياسة، تُعبّر عن السيادة المالية للدولة، وتتلازم مع حقها في تقرير الإجراءات المناسبة لتنظيم التعاملات المالية في نطاقها السيادي وفرض تنفيذها، بالإضافة الى الإشراف والرقابة على عمل المؤسسات المالية على اختلافها، والتي يتشكّل من مجموعها النظام المالي الوطني، وفق ما يشرح الباحث سويدان.

أمّا النظام، فهو “عبارة عن شبكات متداخلة تتكوّن من تشكيلات لكيانات مختلفة- بنوك، صناديق، متعاملين، بنوك مركزية، غرف مقاصة ومؤسسات وساطة مالية متنوعة. وبذلك، فإنّ “أيّاً من الصعوبات التي قد تواجه أياً من عقد هذه الشبكات المالية يمكنها أن تنقل عدم الاستقرار الى الشبكات الأخرى بسهولة، وبالتالي تهديد استقرار النظام المالي بكامله”. ويشدّد الباحث على أنّ تحقيق الاستقرار يبقى متعذّراً من دون الحفاظ على مقتضيات الشفافية والنزاهة على مختلف مستويات النظام المالي ومكوّناته وتعاملاته، وفي مقدمتها مكافحة الجرائم المالية.

أمّا لتأمين الاستقرار في النظام المالي الوطني، فلا بُدّ من اتخاذ إجراءات تنظيمية، وفق الدراسة، منها: تحديد الدولة للشروط التأسيسية للبنوك ورأسمالها ومالكيها وأصول ممارستها لعملها وتصفيتها وإعلان إفلاسها وتنظيم تعاملها مع البنوك الأجنبية، ووضع القيود على حركة الأموال من وإلى نطاقها السيادي واتخاذ ما يلزم لحماية النظام المصرفي.

فالإجراءات التنظيمية، بحسب الدراسة، لا يمكنها أن تحفظ الى ما لا نهاية الاستقرار المالي الوطني وأن تحول دون وقوع الأزمات المالية، ولا سيما على ضوء ارتباط الإجراءات بالسياسات المالية التي تتبعها الحكومات والتداخل المتزايد والاعتماد المتبادل بين المؤسسات المالية.

أزمة القطاع المصرفي اللبناني، يبقى المثال الأحدث والأفجع. أزمةٌ يُحذّر الباحث سويدان من أن تودي بلبنان الى أزمة مالية غير مسبوقة عالمياً من حيث مبلغ تداعياتها، والتي قد تصل الى حدّ انفراط عقد الدولة ومؤسساتها القانونية وفي صدارتها العملة الوطنية وما يرتبط بذلك من سيناريوهات قد تكون غير منظورة أيضاً في مدى وحشيتها.

وفي ظل تزايد الشكوك إزاء قدرة الدولة اللبنانية على القيام بموجباتها وسداد ديونها وخدمتها، يخلص الباحث الى نتيجة مفادها “أنّ الدولة قد استولت على أموال المودعين من خلال المصارف، وأنّ المصارف ومالكيها، ومنهم من هو جزء من الفساد الداخلي المُقونن، قد حققت أرباحاً طائلة من خلال سياسة الإنفاق الحكومية والفوائد المرتفعة على الدين الداخلي. وإزاء تزايد عدم الثقة بالقطاع المصرفي من قبل المواطنين نيتجة الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها البنوك من تلقائها ومن دون مسوّغ قانوني، وإن تكن مُبرّرة بجزء منها من الناحية المالية للحدّ من مخاطر الهلع لدى المودعين لسحب أموالهم، فإنّه لن يكون أمام الدولة إلاّ أن تتوجّه الى الاستدانة من الخارج. الاستدانة التي يزيد من كلفتها انخفاض التصنيف الائتماني للبنان ومؤسساته المالية بسبب العجز ذاته المستفحل في الميزانية العامة، ولاسيما بعد قرار الحكومة اللبنانية مطلع العام 2020 بعدم سداد مستحقاتها من إصدارات اليوروبوند، الأمر الذي سيرتّب أعباءً إضافية على المواطنين تُعيق من استعادة النشاط الاقتصادي لدورته الطبيعية إن لم تقترن بخطة نهوض نقدية ومالية واقتصادية فعّالة.”

وإزاء قرار عدم سداد المستحقات من “اليوروبوند”، يشير الباحث إلى أنّ القرار أملته اعتبارات سياسية بعضها شعبوي ومتسرّع أكثر منها اعتبارات مالية ونقدية صرف، معتبراً أنّ الأجدى، كان أن يجري السداد ومن ثم الاقتراض مجدداً لتأمين السيولة التي يحتاجها الاقتصاد الوطني والمالية العامة بالتوازي مع إجراءات مالية واقتصادية إصلاحية حقيقية.

العولمة المالية وأثرها على ممارسة السلطات السيادية

يناقش الباحث سويدان في مفهوم السيادة النقدية في ظلّ العولمة المالية. ويستفيض في شرح الأزمات المالية وأسبابها وتداعياتها، وكيفية تطوّر أدوات وعمليات الأسواق المالية المختلفة، وصولاً الى هيمنة الدولار في التعاملات المالية وسيطرة الولايات المتحدة على العالم سياسياً واقتصادياُ.

ومن جُملة ما تخلص إليه الدراسة، في الشأن، أنّه ومن واقع مركزية الدولار كعملة وطنية وكمنتج مالي وطغيانه في التعاملات المالية الدولية وعامل الجذب الذي تمثّله السوق الأميركية، ستتحكّم الولايات المتحدة على نحو استثنائي بحركة الأموال حول العالم.

وهو أمر، وبحسب المعطيات والحقائق العلمية المُقدّمة، ستستغلّه الولايات المتحدة، على سبيل المثال، من أجل تحديد وتوجيه الإجراءات الدولية ذات الصلة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب ووضعها موضع التنفيذ، انطلاقاً من اعتماد هذه الإجراءات على متابعة حركة الأموال. كما ستستغلّه من أجل تحقيق أغراض سياسية أخرى تحت ذرائع وعناوين مختلفة، منها الحفاظ على نزاهة النظام المالي الدولي، ومنع استخدامه بما يخالف مصالحها ومصالح حلفائها من خلال فرض العقوبات على الدول التي لا تماشي سياستها الخارجية، والمؤسسات والأفراد القادمين منها أو المتعاملين معها.

من أبرز الإجراءات الأميركية على هذا الصعيد ما يُعرف ب”باتريوت أكت” PATRIOT Act الذي أقرّه الكونغرس في أعقاب أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001، ومنح من خلاله أجهزة إنفاذ القانون المختلفة في الولايات المتحدة صلاحيات واسعة في ما يتعلق بالحسابات الأجنبية في المصارف الأميركية، إضافة الى فرضه موجبات متعددة على المؤسسات المالية الأجنية التي تتعامل مع المصارف الأميركية. قانون تُضاف إليه، وبحسب الدراسة، القوانين والأوامر التنفيذية التي يصدرها الرئيس والمتضمّنة عقوبات أُحادية ضدّ العديد ممن لهم على علاقة بهذه الدول، ومنها ايران وكوبا وفنزويلا وغيرها، وكيانات غير دولتية على علاقة بهذه الدول أو تمسّ بمصالح الولايات المتحدة أو حلفائها كحزب الله في لبنان والمؤسسات والأفراد المرتبطين به.

ستمضي الولايات المتحدة أبعد من ذلك، في استغلال هيمنتها المالية واعتمادها لإجراءات تقوّض سيادة الدول الأخرى. ويلفت الباحث إلى أنّ الولايات المتحدة ستكون الدولة الأولى في العالم التي تتبنّى مبدأ “الاختصاص الضريبي العالمي” من خلال إقرارها عام 2010 لقانون الامتثال الضريبي للحسابات المالية خارج الولايات المتحدة، والمعروف ب”فاكتا” FACTA. ويوضح الباحث أنّ “المبدأ” يستند الى أنّه لا يمكن حصر فرض الضريبة على الشخص بوجوده أو وجود أمواله داخل الولايات المتحدة وإنّما على أساس صلة المواطنة التي تخوّله الاستفادة في المقابل هو وممتلكاته من حماية الدولة الأميركية في أيّ مكان من العالم.

الأثر الأخطر لهذه الهيمنة، وفق الباحث سويدان، يكمن في عدم إمكانية مساءلة الدولة المُهيمنة عن أي أذى قد تسبّبه إجراءاتها بالنسبة للاستقرار المالي الدولي. وبذلك، “يتبلور النظام القانوني المالي الدولي على أساس حماية مصالح الأسواق الكبرى وشرعنة جرائم الكبار في مقابل شيطنة الأسواق الصغرى وملاحقة جرائم الصغار”.

ياسمين قعيق كاتبة لبنانية / الميادين نت

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

فيلم One more shot: جهاز الأمن الداخلي الأميركي يخطط لقتل الرئيس وكبار المسؤولين.. فيديو

ضابط سابق يريد الإنتقام من السلطات الأميركية مستعيناً بعدد من المرتزقة وضباط ناقمين على الأوضاع السائدة راغبين في الإطاحة بالرئيس وأعوانه خلال حفل جماهيري يلقي خلاله خطاباً مهماً يحدد فيه ملامج سياسية جديدة ينوي اعتمادها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
23 × 3 =