في مطلع الثورة السورية عام ٢٠١١، يوم احتشد شباب مدينة حمص وشاباتها في محاولة استشفاف لإمكانيات الارتقاء إلى الحرية، بعد عقود وأجيال من القمع والكبت والإسكات، ويوم عمد نظام القتل إلى الفتك بهم تصاعدياً، خرج حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، من موقعه «الأخلاقي» الذي ناله، من وجهة نظر العديد من السوريين كما اللبنانيين، لصراحته المفترضة ووضوحه وتضحياته، لينبئ مستمعيه ومشاهديه، باسماً، بأنه قد اتصل بمن يثق به في سوريا، وحصل منه على التأكيد أنه لا شيء يجري في حمص. المسألة، وفق حسن نصر الله، كانت مبالغات وحسب، فيما سوف يمسي حرباً كونية على سوريا، ويستدعي تدخل حزب الله لإنقاذ نظام الاستبداد، قلب الأمة النابض، وإن التبس تحديد ماهية هذه الأمة وهويتها.
يعتنق «الممانعون» اليوم ابتسامة حسن نصر الله الحمصية، وتأكيده الكاذب بأن ما يحدث ليس إلا فقاعات إعلامية، في حرب شعواء تشنّها دول الغرب وأتباعها على الجمهورية الإسلامية في إيران.
حيث المسألة اصطفافات قطعية وعصبيات فئوية، فالكذب واجب لتضليل العدو ولحشد التأييد في صفوف «الحاضنة». أما عندما يكون الزعم أن المسألة هي قضية حق يجسّده المحور المقاوم، فثمة إشكالية لا بد للصادقين ضمن جمهور «المقاومة» هذه من أن يواجهوها. إيران ليست على ما يرام، والسبب ليس الخارج المعادي، بل الداخل الإيراني الرافض لنظام الحكم الذي يعوّل عليه جمهور المقاومة هذا. فالسؤال، بعد أن ازدادت صعوبة التنصل، متى يشعر هؤلاء «الممانعون» الصادقون بالحرج؟
لم يعد بالإمكان نسج الروايات والسرديات التي تمنح الاطمئنان، أو حتى تتوخى الأعذار. لم يعد من السهل التلطي خلف الحديث البالي عن خطايا الغرب واستعماره للحجر واستعباده للبشر، لتحويل الموضوع وتجنب المساءلة. لم يعد ممكناً الكلام عن التوجه شرقاً، وعن الالتقاء والتحالف مع من سوف يخلف الغرب من دول الصيغ البديلة.
بل الجلي أنه، في نهاية المطاف، لا تبدو هذه «الصيغ البديلة» صالحة لأن يقتدى بها. لم تكن كذلك يوماً. مع ذلك، فقد مضت العقود والتأكيدات تتوالى ليس أن الأحادية القطبية والتي تسلّقت إليها الولايات المتحدة (دون وجه حق، زعماً) سائرة إلى زوال وحسب، بل أن النموذج الغربي القائم على مرجعية الحريات وسيادة المواطن قد بان فساده ونفاقه، وتشتّت وتبدّد وأفلس، وأن العالم يرتقي إلى النماذج الفذّة التي تقدمّها الصين، وروسيا، وإيران.
«الرجل القوي الحاسب المحتسب» هناك، ونظام «الكفاءة والمسؤولية العامة» هنالك، و «ولاية الفقيه المرشد» ها هنا.
غير أن حسابات الرجل القوي في روسيا تجرّ بلاده وجارته، التي توقع اجتياحها بسهولة ليتبين أنها لقمة يعجز عن ابتلاعها، وربما معها العالم، إلى الخراب. ولا يبدو جمهور «الكفاءة» في الصين راضياً عن نجاعة ضائعة لقيادته في إدارة الأزمة الصحية، إذ هو يخرج ضارباً عرض الحائط بقواعد هيبة الدولة وأبوية القائد، في مظاهرات واحتجاجات على مدى البلاد، تطالب برفع القيود، وبتنحية من فرضها.
أما في إيران، فإما أن هذا النظام قد ترهّل وعجز عن استشفاف أحوال شعبه، أو أن خصومه، والذين في إعلامه كان من المفترض أنهم يقتربون من سقوطهم النهائي، قد فاقوه دهاء وحنكة، فإذ بهم يحركّون كامل شرائح المجتمع وفئاته كالدمى، على غفلة من أجهزة أمنية فضفاضة أرهقت كاهل المواطن بأساليب السيطرة الشمولية. هو فشل للنظام في الحالتين.
بعد أكثر من تسعة أسابيع على وفاة مهسا أميني، فتاة الـ ٢٢ ربيعاً، والتي أراد جبروت الدولة الإسلامية أن يؤدبها لتجرئها على ارتداء سيء للحجاب، فأودى بحياتها، وكشف من حيث لم يشأ الجمر الذي كان مشتعلاً تحت رماد القمع، أصبح ممكناً وصف ما يجري في إيران بالانتفاضة. مئات القتلى، آلاف المعتقلين، نبرة تزداد ارتفاعاً للتهديد والوعيد. ومع ذلك، هم يخرجون.
تشهد إيران سنوياً، منذ ٢٠١٧، احتجاجات ومظاهرات وأعمال شغب غاضبة، يقابلها النظام بالقمع والقتل والاعتقال، وبأحكام الإعدام وبتهم العمالة والخيانة. هي موجة جديدة من الاحتجاجات بعد أن كان النظام قد واجه «الحركة الخضراء» عام ٢٠٠٩ في أعقاب الانتخابات الرئاسية، يوم غلبت القناعات بأن السلطات قد أقدمت على التزوير لمنع صعود مرشح الإصلاح.
على أنه ثمة فارق أساسي بين ٢٠٠٩ و٢٠٢٢. كان لمن اعترض واحتشد وتظاهر عام ٢٠٠٩ رسالة واضحة للسلطات، وهي أن «احترموا صوتنا وقرارنا، وحققوا وعد الثورة بالإنصاف». ففي مقدمة من انتفض عام ٢٠٠٩ اصطف رجال ونساء من الذين شاركوا في ثورة ١٩٧٩، بردائها الإسلامي وبجسدها الوطني الإيراني.
أما اليوم فإن معظم من يحتج هو من جيل جديد، لم يشهد الثورة ولم تستوعبه طقوس تعظيم قائدها الأول وتبجيل خلفه الحالي. فإذا كان ثمة رسالة يوجهها هؤلاء إلى أهل النظام الحاكم، والذين ازدادوا تقوقعاً وعزلة (وفساداً) على مدى الأعوام، فهي أنه مع مقتل مهسا أميني قد طفح الكيل. اذهبوا وثورتكم وقمعكم إلى الجحيم، ودعونا نعيش كما يعيش غيرنا في سائر البلدان. حجابكم ليس لستر «عورتنا»، ولا نقرّ بها عورة، بل لإذلالنا وإخضاعنا. إرحلوا وحجابكم، إرحلوا وعماماتكم.
انتفاضة إيران قد تكون الضربة القاضية للنظام، أو قد تنجح الجمهورية الإسلامية في الإبحار في هذا الواقع العالمي الذي لا يريد سقوطها، وتؤجل مواجهتها الحتمية مع مجتمعها إلى جولة أخرى. ولكنه تأجيل للمحتّم. هذا نظام لم يعد قادراً على إسكات المطالبة بالحرية. الجمهورية الإسلامية تزداد تفتت وكهولة والمجتمع الإيراني يزداد قوة وشباباً. مهسا أميني قد لا تكون من يسقط حكم المرشد. على أنه ثمة غيرها، شابات وشبان، سوف يتمّون المهمة.
إلى أن يتحقق ذلك، مؤسفة هي القطيعة التي أرساها محور المقاومة بين المجتمع الإيراني وسائر مجتمعات المنطقة، ولا سيما منها الرازحة تحت حكم أتباع نظام ولاية الفقيه. لا يلام الشباب الإيراني إذ ينفر من أية إشارة إلى لبنان، فلسطين، سوريا، العراق، اليمن، فيما إعلام النظام الذي يقمعه وينكر عليه مساحة التنفس يظهر مجتمعات هذه الدول وكأنها في صف ولاية الفقيه، ويتحدث عن دعمها وإمدادها، فيما الإيرانيون أنفسهم بحالة العوز.
والنفور هنا ليس عرضياً. ثمة أشباح فكرية ترهق منازل الجانبين، واستعلائيات مسكينة تنفخ غرور كل منهما بالعبثية الشاطحة، وتصويرات تسطيحية غالباً ما يجهل قائلها مضمونها، كلها تتلاقى لمضاعفة النفور.
المستفيدون من هذا النفور كثر، إنما ليس الأمر من اجتراحهم، وأن عملوا على مضاعفته قدر مستطاعهم.
ورغم المساعي المستمرة، من أكثر من جهة، إلى وضع العوائق في التواصل بين المجتمعات، واستدعاء التاريخ بأشكال ممسوخة تنتصر للفئويات وتعتمد على ازدراء سجل الآخر، وافتراض جواهر متناقضة بين «الفرس» و «العرب»، وخوض الانتصاريات واستثارة العصبيات، فإن التعارض هو وهمٌ يتوق إلى التفكيك.
الفرس ليسوا «مجوساً». بالإجمال طبعاً، إذ ثمة قلة ضئيلة ممن لا يزال على دين زرادشت. وعلى أي حال طوبى للمجوس. والفرس ليسوا غرباء عن الإسلام أو دخلاء عليه، بل أجدادهم من صلب من صاغه وأسسه وصنّفه. والإسلام المعني هنا ليس التشيع، والذي جاء إيران متأخراً كدين رسمي، بل إسلام الجمهور ثم إسلام أهل السنة والجماعة، ومساهمة «الفرس» الأساسية فيه تجيز القول مجازاً بأن الإسلام «السني»، بحاكمياته وأحكامه، هو الإسلام «الساساني». والتواصل بين «الفرس» و «العرب» لا يقتصر على الأبعاد الدينية والسياسية والفكرية، بل التمازج العرقي يجعل من الكثير من «العرب» أقرب إلى «الفرس» منهم إلى غيرهم من «العرب»، والكثير من «الفرس» أقرب إلى «العرب» منهم إلى غيرهم من «الفرس». وهكذا معهم حال الأكراد والأرمن والسريان والأتراك واليونان، وإن أغضب الأمر دعاة النقاء القومي في كل جانب. التفكيك العميق لجلاء هذه المعطيات هو مهمة مطلوبة بعد أن تهدأ العاصفة، أو قبلها كفاية إن تأخر هدوئها.
رغم الخلفية المفرّقة وغلبة الدعائيات بمضامينها الانتقائية السلبية، فإن العديد من الإيرانيين تماهوا مع ثورات المنطقة وانتفاضتها، من القاهرة وتونس عام ٢٠١١ إلى بغداد وبيروت عام ٢٠١٩. رغم كل التعكير، وحتى لو فرضاً كانت مقومات التواصل والتقاطع العرقي واللغوي والثقافي والديني والفكري معدومة، فإن الإدراك يبقى متحققاً بأن قضية الحرية واحدة. ثمة بوادر إيجابية في استجابات تماهٍ من جوار إيران مع مجتمعها المنتفض، مع دور بارز في هذا الصدد من جانب الحركات النسائية والنسوية، كما الكردية.
هي جسور كانت مقطوعة، عرضاً وعمداً، والجلي أن أوان إعادة مدّها قد أتى. قد لا يشعر الممانعون بالحرج يوم يكون النظام الذي يناصرهم يظلم أهله ومجتمعه خلف الستار. على أن الصادق منهم لا بد أن يواجه الخيار الصعب. إما أن يرضى بالقمع وزعم المؤامرة الكونية، أو أن يدرك أن شعار «نساء، حياة، حرية» هو الحد الأدنى الذي تطالب به الشابة الإيرانية، كما الشاب، في مواجهة القمع والإذلال والموت، وأنه مستفيد على حسابهم. أعنية قصيرة من الشاب الإيراني شروين حاجي پور، بعنوان «براي» تختزل هذه المطالب، وتستحق الإنصات إليها. سواء عبرها، أو من خلال المد العارم لأخبار الانتفاضة الإيرانية، والتي لا يستطيع زعم التلفيق والمؤامرة الكونية أن يصدّها، عسى أن تتفتح عقول الممانعين الصادقين وقلوبهم لرؤية الواقع. لا بأس معها ألا يصرّحوا بالحرج. على أن الرجاء، كل الرجاء، أن يشعروا به وإن بسريرتهم.
حسن منيمنة – مدير مؤسسة بدائل الشرق الأوسط / الحرة