قضية الطفل المغربي ريان تظهر مدى مقدرة تحكم وسائل التواصل الاجتماعي في أولويات وسائل الإعلام التقليدية.
لطالما عبرت وسائل الإعلام عن كونها أدوات تنقل المعرفة على نطاق واسع وتحاول الانسجام مع متطلبات بيئتها ومحيطها في عالم يضج بالحركة والصراعات والتحديات والمنافسة، وهي بين الموضوعية وعدم الانحياز تنشد التوازن حتى لا توضع ضمن إطار بعينه، كما تحاول الميل الواضح إلى جهة التمويل تارة وتنشد الاستقلالية حتى لا تحتسب على أجندة جهة ما تارة أخرى.
وتعمل وسائل الإعلام وفق قيم إخبارية اعتادت أن تؤطر بها قصصها وتقاريرها عما يدور حولها من وقائع وأحداث يتخذها الإعلاميون كموجهات إرشادية لاختيار ما هو جدير بالنشر، وتساعدهم في ذلك سرعة الإنجاز والانتظام في العمل الإعلامي المرهق، حيث يقال “لولا الروتين لهلك الصحافيون من التعب”. وبين البُعدين الزماني والمكاني لأخبار الصراعات والأزمات وأخبار النخب من الدول وأصحاب الشهرة والمال والنفوذ تقع الاهتمامات الإنسانية في ذيل القائمة حيث يضمّنها الإعلاميون في قصصهم الإخبارية لأغراض المشاركة في المسابقات الصحافية التي تنظمها المنظمات الصحافية والإعلامية لأفضل موضوع في الجانب الإنساني مثلاً أو لأغراض التقييم في العمل آخر العام.
وقد يدفع السبق الصحافي والمنافسة المهنية بين وسائل الإعلام والإعلاميين أنفسهم إلى الجري وراء القيم الإخبارية التي يعطيها المنافس للقصة الخبرية مثل وكالات الأنباء العالمية أو كبار الصحافيين أو المؤثرين الجدد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي.
وإثر دخول هذه المنصات التفاعلية حلبة السباقات الخبرية سارعت وسائل الإعلام وعلى استحياء إلى تبني القيم الإخبارية المجمدة لديها “الاهتمامات الإنسانية”، مثلاً: أظهرت قضية الطفل المغربي ريان مدى مقدرة تحكم وسائل التواصل الاجتماعي في أولويات وسائل الإعلام التقليدية، بل أفرزت بوضوح تمكن تلك الوسائط من ترتيب أولويات الأجندة بالنسبة إلى وسائل الإعلام التي سارعت بكل ما لها من جاهزية إلى تسليط الضوء على الحادثة ساعات وساعات من البث الحي واللقاءات المباشرة مع أطراف الحدث من مسعفين وغيرهم، بل حركت تلك الوسائط المياه الراكدة لأخلاقيات المهنة ودفعت النقابات والجمعيات المنظمة للعمل الإعلامي إلى ضرورة الإسراع في السيطرة على تدفق المعلومات من المصادر إلى الجمهور المتعطش لمعرفة المزيد والمزيد عن تلك الحالة. والسؤال هنا: ما الذي دفع الإعلام التقليدي إلى تناول تلك القضية المأساوية بهذه الكثافة؟ وهو الذي عرفناه مقلاً في مثل تلك الموضوعات حيث يدفن العشرات من الأطفال تحث الثلوج في مخيمات اللاجئين، وتنتهك أعراض النساء أمام مرأى أطفالهن وربما يتعرض الملايين من أطفال الشوارع إلى الاعتداءات الجنسية والعمالة الرخيصة وغير ذلك.
قضايا وقضايا نسي الإعلام التقليدي أن يضعها في أولوياته منذ وقت طويل حيث كثر المسكوت عنه من فساد السلطة والاتجار بالبشر وبالأعضاء وتلوث البيئة وفساد التعليم وغير ذلك، أين نحن من قيم التنمية وبناء الإنسان والحالات المشرقة والنماذج الإنسانية الناجحة؟ هل يجدون أن تلك الموضوعات لا تجذب المعلنين أم أنها لا ترضي أصحاب القرار؟
إن المهتمين بتحليل أولويات القيم الخبرية في وسائل الإعلام يجدون تسيدا كبيرا لصالح قيمة الصراعات والأخبار السلبية على عرش الأولوية وفق قاعدة: Bad News Is Good News.
بالطبع من وجهة نظر علم النفس التطوري يرجعُ اهتمام الجمهور بالأخبار السلبية إلى نظام الإدراك البشري ووظائف الدماغ التي تكاد تميز بصعوبة بين المحفزات الإعلامية التي يشحنها الإعلاميون بقوة في رسائلهم الإخبارية وبين المحفزات الحقيقية الواقعية، وتبعاً لذلك يبدأ الفرد في اتخاذ ردود الفعل العاطفية بخلق التحفيز السلبي “المعتدل”، ويقال إن الأخبار الإعلامية السلبية تقع ضمن هذه الفئة وهو ما يفسر شعبيتها الكبيرة.
المؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي جعلوا القضايا الإنسانية هاجساً لأفراد المجتمع ودفعوهم إلى التفكير فيها أكثر ومناقشتها ومعالجتها، حيث يجد المتصفح لتلك المنصات هجوماً مرتداً من قبل المهتمين بالإعلام والإعلاميين أنفسهم في خطابات تتقاذف التهم ضمن الفريق الواحد حول ما فعله الإعلام بالناس حيث فتح الباب ولم يغلقه، طفل آخر يقلد مشهد ريان، وصور وصور من ناشطين حول من أباد الطفولة في مهدها، الفقر وبيع الأطفال ببعض المئات من الدولارات، وأمهات بديلات، قضايا غائبة عن أولويات الإعلام.
ما تجدر الإشارة إليه هو أن الضغوط المهنية وتلك الذاتية التي يتعرض لها الإعلاميون تدفعهم في الكثير من الأحيان إلى تقديم قصص خبرية تتعارض مع أخلاقيات المهنة فهم لا يريدون تكبيل أنفسهم بتوجيهات ملزمة تعرقل عملهم في مقابل الحفاظ على وجودهم في السوق الإعلامية التي تتطور بسرعة شديدة جعلت من وكالات الأنباء نفسها أكثر انفتاحاً على مشاركات الجمهور وقصصه الإنسانية وأجبرت الكثير من الإعلاميين على الانفتاح على الجمهور وسماع ملاحظاته.
وفي خضم المنافسة وسرعة الوصول إلى المتلقي برز مفهوم صناع المحتوى الجدد من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، والذين يحتاجون بالطبع إلى معرفة وإلمام واسعيْن وثقافة إعلامية واهتمام مباشر بقضايا المجتمع الملحة وتقديم رسائل هادفة بعيدة عن الأخبار الكاذبة وانتقاء الأخبار بصورة مدروسة وانتقالهم من بث المحتوى الترفيهي التسويقي إلى الاهتمام بالجوانب الثانية، لاسيما الموضوعات السياسية والاجتماعية والإنسانية، فهم لا يحتاجون إلى أخذ أذونات عمل كغيرهم من الإعلاميين في وسائل الإعلام أو في سرعة الوصول إلى الجمهور ونقل الحدث بشكل لحظي آني، وينقصهم أحياناً توخي الدقة والمصداقية التي باتوا ينشدونها بوعي متزايد مؤخراً.
أخيراً هل أحرج الإعلام نفسه في قضية ريان؟ سؤال يطرح بقوة على الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، سؤال جاءت إجابته من قبل المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي الذين سارعوا إلى تناول القصة وحيثياتها، خصوصاً بعد فهمهم لعبة الإعلام الجديد، ومن أين يبدأ الطريق إلى عقل الجمهور المتعطش لمعرفة ما يحدث حوله من قضايا تهم مجتمعه وإنسانيته وضرورات حياته.
د. سامية هاشم – أستاذة الإعلام في الجامعة الأميركية في الإمارات / العرب اللندنية