واضح أنَّ الحرب ليست فقط في أوكرانيا، ولكنها أيضًا في اليمن. إذن ماذا نقصد حينما نقول إنَّ الحرب في أوكرانيا والجوع في اليمن؟
نقصد أنَّ الحرب في أوكرانيا فاقمت من الجوع في اليمن، وأنَّ الجوع في اليمن أشد وطأة منه في أوكرانيا. الجوع في اليمن شامل، فباستثناء الفئة الضئيلة المتاجرة بالخراب، فانَّ الجوع يعصر بعنف بطون ثلاثين مليون يمني. ولذلك فأن الجوع أشد وطأة من الحرب المحصورة في مناطق بعينها، بل أنَّ التجويع، الذي تعاضدت في تنفيذه قِوَى الخراب الداخلية والخارجية، ضد الشعب اليمني هو أشد أنواع الحروب قسوة.
في أوكرانيا ثمة حرب طاحنة، تسببت به النخب الفاشية وحلف شمال الأطلسي، الناتو، ولكن أوكرانيا مفتوحة على الخارج، والمساعدات الخارجية وافرة، والأرض الأوكرانية زاخرة بالمنتجات الزراعية من كل صنف ولاسيما القمح، وأوكرانيا حتى في ظروف الحرب المُهلكة فوق أراضيها لديها فائض كبير من القمح، ويمكنها تصديره إذا توفرت الظروف اللوجستية الملائمة للتصدير عبر البحر الأسود.
وفي المقابل، فالأوضاع في اليمن مختلفة، فسماء اليمن مغلقة وحدوده البرية والبحرية مقفلة وأرضه مقفرة، والمساعدات الخارجية التي تصل إلى اليمنيين بين وقت وآخر ضئيلة، وتوزع بشكل غير عادل، والإنتاج الزراعي شحيح، وليس لدي اليمن ما يمكن أن يُصَدِّرُه سوى البشر الذين لا يجدون منفذًا للهروب من جحيم الحرب والخراب والجوع. و عندما يفلح بعض اليمنيين، بالتحايل على الحصار، ويخرجون من وطنهم فأنهم لا يجدون من يستقبلهم أو يشتري قوة عملهم أو يرثي لبؤسهم في عالمٍ فائض بالمآسي البشرية التي تصنعها قِوَى الهيمنة الإمبريالية. اليمنيون الذين كانوا في الماضي البعيد يُصَدِّرُونَ القمح والبن والعنب والجلود، ويعتمد عليهم الجيران، هم اليوم، في هذه المرحلة المظلمة من تاريخهم، يعتمدون على استيراد 95% من حاجاتهم الحيوية من الخارج لأنَّ أرضهم المُستباحة من الخارج والمحكومة، بالجهل، من الداخل، أصبحت مزروعة بالقات والألغام.
اليوم الشعب اليمني المحاصر بالموت وقوى الظلام، تتحكم في مصيره من الداخل قِوَى التخلف المحلية التي تتنافس في السعي إلى الهيمنة على السلطة وكسب المغانم، وليست التنافس على الزراعة والصناعة، وتتحكم فيه من الخارج قِوَى التخلف العدوانية الإقليمية التي تتنافس في السعي إلى التوسع والسيطرة على الأرض اليمنية.
اليمنيون يعانون الحرب والجوع والموت. اليمن يستورد 3.3 مليون طن من القمح من أستراليا، وأمريكا، وروسيا، وأوكرانيا. وضمن هذا الرَّقَم المهول، يعتمد اليمنيون على القمح الروسي بنسبة 27%، وعلى القمح الأوكراني بنسبة 7%. والأمر المؤكد هو أن اليمن لن يتمكن، بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، من الحصول على القمح الأوكراني لاعتبارات لوجستية تحول دون تصدير القمح الأوكراني. كما أنَّ الأمر المرجح هو أنَّ اليمن لن يتمكن من شراء القمح الروسي، بسبب ارتفاع الطلب عليه. وهذا يعني، ببساطة، أنَّ اليمن قد لا يتمكن من شراء القمح من روسيا، أو أستراليا أو أمريكا، من جرّاءِ ارتفاع أسعار القمح في السوق العالمية، بنسبة 30%، لا سيّما وأن اليمن حصل هذا العام على 1.3 مليار دولار فقط من مجموع التعهدات الدولية المالية للدول المانحة المُقدَّرة بحوالي 4.2 مليار دولار أما الوديعة السُّعُودية الإماراتية التي تُقدَّر بحوالي 3 مليار دولار، و قُصد بها التحكم بضبط سعر الدولار، لمَّا تصل بعد، و عندما تصل فأنها لن تُحدِث تغيرًا ملموسًا لأنها مجرد وديعة مُقيّدة بشروط صارمة، وليست هِبَّة مجانية، يمكن التصرف بها من قبل ذوي الشأن، بما يُلبي الاحتياجات الحيويِّة لليمنيين. وهذا يعني أنَّ الحرب في أوكرانيا والجوع والموت في اليمن، ولكن اليمنيين مغيبون عن إدراك أبعاد المأساة التي تعصف بحياتهم، غارقون في الجهل، يَتَلَوَّوْنَ ألمًا من الجوع، ونخبهم السياسية مشغولة ببث الكراهيَة والبغضاء بين اليمنيين وخدمة أعدائهم، والعالم مشغول عنهم بغيرهم، كأنَّ اليمن ليس جزءًا من العالم المعاصر!
الوضع في اليمن ينذر بالخطر، والعالم مشغول عن اليمن بالحرب في أوكرانيا وبالملف النووي الإيراني، وبارتفاع أسعار الطاقة وغير ذلك من الأمور. وإذا كان العالم غير مبالٍ بما يجري في اليمن، فما هو، يا تُرَى، واجب اليمنيين في هذا الظرف المفصلي من تاريخ وطنهم وتاريخ العالم؟ هل هو مواصلة التحريض على الكراهيَة، ثم مواصلة الحرب ضد بعضهم البعض خدمة لممولي الموت؟ هل على اليمنيين أن يشاركوا العالم همومه، وتجاهل همومهم الوطنية حتى يصلوا إلى مرحلتي الموت والتعفن؟
لقد أشارت بعض الهيئات التابعة للأمم المتحدة أنَّ سبعة عشر مليون إنسان في اليمن يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، ورأى بعض الخبراء أنّ هذا العدد مرشح للارتفاع إلى تسعة عشر مليونًا في النصف الثاني من العام الحالي وأنَّ عدد الذين يعانون مستويات طارئة من الجوع القاتل سيصلون بحلول ديسمبر من هذا العام إلى 7.3 مليون إنسان.
إذن ما الذي يجب أن نعمله إزاء الأزمة القائمة والقاتمة و الكارثة الوشيكة في اليمن؟
إنَّ الأمر الإنساني العاجل والواجب الوطني النبيل في هذه المرحلة الحرجة ينبغي أنْ يتلخص في السعي الجاد لتمديد مدّة الهدنة لسنة أو أكثر، وجعل الناس يحسون بقيمة السلام بعد التجربة الطويلة والقاسية للحرب. كما ينبغي العمل من أجل إزالة الحواجز بين المدن والمناطق اليمنية، وحث الناس على التضامن في مواجهة صُناع الحرب والخراب والجوع، و فتح الحِوار بين مختلف القِوَى السياسية والنخب الفكرية، بغية البحث عن السُبل الكفيلة لتمكين الشعب اليمني من تحقيق السلام الدائم وخلق المناخ الملائم الذي يتيح له اختيار نمط الحكم الرشيد، والحكام الوطنيين والمؤهلين الذين يمكنهم أن يحرروا الشعب من الجوع و والعبودية و يثبتوا الاستقلال و الاستقرار ويرسوا أسس المواطنة المتساوية و يضمنوا تحقيق العدالة والتقدم.