الاستِغرَاب في مُوَازَاة الاستِشرَاق صُورَة الغَرب في الشَّرق

إنّ العَالَم وَاحد تَختَلِف اتِّجَاهات بُوصَلته بِحَسب مَوقِع إنسَانه على الكُرَة الأرضيّة. رُسِمَت الجُغرافيّات تَصِف الشَّرق بِإشْرَاقة الشَّمس وغَربها بِغِيَاب ذلك النَّجم النَّاري المُضيء. وأصبَح البَشَر يَتَلَمَّسون وُجودهم بِحَرَكيَّة الأرض حَول نَفسها ويُنَظِّمُون حَياتهم، وقُوت يَومهم وإنتَاجيّتهم بِدَوران المَعمُورة المُستَمِر حَول نُور الشَّمس مُكتَنِفَة نفسها التِقَاءً بِقَمَرها، بَدره وهِلَاله. وبِمَلمُوسيَّة الاتِّجاهات في الأرض ومُحيطها، ابتَكَر الإنسان بِإدراكه مَعنىً لِمَواقِع الشَّرق والغَرب الجغرافيَّة، أخرَجها مِن الخَرائط الأطلسيّة، لِيُكَوِّن لها حُدود وشَخصيّات وهَويّات، يُقَيِّمها مِن مَنظُوره، الذي هو الآخَر تَكَوَّن وتَطَوَّر وتَحَوَّل بِنَاءً على ظُروفه، وبيئته المُحيطة الطَّبيعيّة -مِن مُناخ وجغرافيا- والرّمزيات. فَيَزدهر تَارَّة ويَركُد تارّة أُخرى. وأصبح لِلشَخصيَّات والهَويَّات في الإدراك أدوار تُحَدَّد مَلامِحها في سَرديّات أطَّرَتها عَوامِل -خَلَقها الإنسان- سِيَاسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وعَابِرة لِلحُدود.

هَكذا استَشرَق الغَرب مُنذ بِدَاية اكتشافه لِلشَّرق مِن مَكانه، ولا يَزال يَستَشرِق في مَسيرَة استِمراريّة العَالَم الثقافيَّة وبينها، والتكنولوجيّة والبيولوجيّة. أمّا الشَّرق فاستغرَب بِطَريقَته حَسب الظُّروف التي مَرّ بها عَبر التَّاريخ حين كان فَاعِل تَارَّة ومَفعُول به تَارَّات أُخَر.

استَشرَق الغَرب وتَوَجَّه نَحوَ الشَّرق بِعِلمه وتِجَارته وسِلَاحه، واستَعمَر بِإرهَابه، ويَتَحَكَّم ويُعَولِم. وأمّا الشّرق، فاستَغرَب بِفُتوحَاته بِدَايَة، وكَمَّل مِشوار استِغرَابه كَمُستَعمَر، ومُحتَلّ ومُتَحَكَّم به، وُصولاً إلى مُجتمع مُعَولَم من الدَّرجة الأخيرَة في الوَقت الحَاضِر. وبَين مُثَقَّفِيه وجَاهِليه وأغنيائه وفُقَرائِه، تَتَراوَح نَظرة الشَّرق العربي إلى الغَرب بين الإعجاب به إلى دَرَجة التَّألِيه، وبين الغَضَب عليه إلى دَرَجة الإرهاب، وبين مَنطَقَة التَّعامُل معه باعتِدَال الوَسَطيَّة ومُحاولَة المَوضوعيّة بِوَاقِعيَّة، وأخيرًا بين تَقليده أو تَقليد غَيره -كَمُعجَب أو كَغَاضِب- التّقليد الأعمى الذي يُغَيِّب أصالَة الهَويَّة وفَخر اللُّغَة الأُم.

هُنا يَتَمَحوَر رَدّ فِعل الشَّرق على الاستشراق -بِأنواعه ومُستوياته وتَطَوّراته عبر التَّاريخ- بِأشكَال جَميعها مُقاوِمَة له أو لِذَاته حَسب إدراكه الفِطري والثّقافي. فَمِنها المُقَاوَمة السّلميّة لِلغَرب، مِن خلال التَّواصُل معه وأخذ المُفيد الإيجَابي والاستِيحَاء مِنه في التَّطوير الذَّاتي، ورَفض سَرديّاته السُّلطَويّة المُتَحَكِّمَة، ومُحَاوَلة التَّحاوُر معه ضِدّها أو مُقَاطَعته. ومنها المُقَاوَمة المُتَطَرِّفَة المُنغَلِقَة على نَفسها، والتي تَرُدّ -مِن جهة أخرى- بِالعُنف والإرهاب عليه وعلى نفسها وذَويها في طَريق مَسدُود لِلجَميع. والمُقَاوَمة الأخيرة هي المُنصَهِرَة استِسلامًا لاستبداديّة الغَرب، يَتَوَهَّم مُمَثِّلوها بِأنَّهُم أصبحوا جُزءًا لا يَتَجَزَّأ مِن الغَرب، ومُمَاثِلون لِذَوِيه، ومُتَسَاوُون مع شُعوبه مِن خِلَال انسِلَاخِهم عَن أُصولهم وأصَالتهم وثَقافتهم التي سُوُّوا فيها، والتي تَأمَّلت أن يَبنُوها، ويَصُونُوها ويُوصِلُوها مع الآخَر المُختَلِف بِحِكمَة الحِوَار والحِفَاظ على الهَويَّة. إلّا أنّ هَؤُلاء تَرَكُوها وَحيدة حَزينة مَقمُوعَة ومَحبُوسَة في بَرَاثِن جَاهِليها مِن جِهَة ومُستَعمِريها الذين يُقَدِّرُون خَيرات طَبيعَتها مِن جِهَة أُخرى، ويَطمَعُون فيها، ويَستَسيغُون استغلالها واستِعبَاد ذَويها لِخِدمَة مَصَالِحهم على حِسَاب سِلميِّيها وعَنيفيها ومُنصَهِريها.

مِن هَذا نَستَنتِج أنّ الشَّرق العَربي يَستَغرِب في الغَرب وإليه وتجاهه مُندَمِجًا، مُنفَصِلاً أو مُنصَهِرًا في إطار علاقة طَويلة الأمَد مع غَرب يَستَكشِف الشَّرق بِأقَليَّة حِوَاريّة تُعطينا الأمَل في إنقاذ عالَم بين-ثَقافي بَنَّاء، وبِأكثَريَّة فَوقيّة، عُنصُريّة واستعماريّة تُؤمِن بالتَّضاد لِإنجَاز التّفَوُّق والتَّقَدُّم!

فَالمُجتمعات الشَّرقيّة العَربيّة تَعيش حَالة استغراب مُتَناقِد ومُتَنَاقِض في انفِصَام الأنا بين الأصيل والدَّخيل، بين الوَصل والفَصل، وبين الحوار المُستَحيل والصّراع القَاضي، وبين الأخلاقيّة وزَيفها، وبين الازدهارات ومُصطَنَعها، وبين الوَعي وادِّعَائه وعَدَمه على إطلاق الأنانيَّة، ورَجعيَّة التّفكير والتّصمِيم على اعتِقًاد المعرفة فوق جَميع الأُلَفَاء وبِأَمر المُستَعمِر المُعَولِم!

على قَتَامَة المَشهَد بين-الثقافي الحَالي اليوم، إلَّا أنّ فُرصة العَالَم الشَّرقي العربي مَوجودة لِخَلق استغراب مَشَيِّد يَنشُل الشَّرق مِن وَحله التَّواصُلي، ومُمكِن أن يَفتَح أبواب تَفَاعُل جديدة مع المُستَشرِق المُعَولِم الحاضِر، الذي يَحتَلّ كُلّ زَوايا المَشهَد العَالمي ويُخفِق في امتحان الحِوَار بين الشَّرق والغَرب بِجَدارة بين-ثقافيَّة فَاتِكَة بِالبَشَريّة.

يَكمُن أمَل الاستغراب العَمَّار في تَعريف العَالَم العربي بالهويَّة الثَّقافيّة الأصِيلَة ولُغَته الأُم الأصليَّة، التي بَناها المجتمع بِيَدَيه لِيَعيش ويَبتَكِر ويَزدَهِر في الوُجود، والتي يُحَاوِل الاستعمار مَحوها مِن الذَّاكِرة، ويُحَاوِل المُنصَهِر في الغَرب تَنَاسيها، ونَسيَتها الشُّعوب المَدحُورَة في انشِغَالها في التَّعَايُش مع أزمات إنسانيَّة أهليَّة، وامبرياليّة كُولونياليّة انتدابيّة حديثة، وعَولَمَاتيّة، وتكنولوجيّة وبيولوجيّة مَا بَعد حَديثة.

فَعَلى المجتمعات العربية العَمَل المُشتَرَك بِكُلّ فِئاتها واتِّجاهاتها وقُدراتها -بِغَنَاء تَبايُن تَنَوُّعيَّتها- إلى إعَادَة بِنَاء ذات شَرقيّة جديدة، تُؤَسِّس على مَجِيد المَاضي، وتأخُذ مِن الحَاضِر أفضَله وتَستَشرِف مُستَقبلات تَنهَض بالأجيال الخَصبة الصَّاعِدَة، تُعيد الثِّقَة بِالنَّفس، افتخارًا بالهويَّة واللُّغَة الأُم وانطلاقًا إلى التَّواصُل مع الآخَر والآخرين نَحو إنشَاء استغراب عَمّار يُوَازِي الاستشراق، يَرُدّ عليه ويُحَاوره.

د. رزان جدعان – كاتبة اردنية

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
10 + 11 =