بالحق أو بالباطل مرت تجربة “ارحل” الأولى بسلام ثم تحولت إلى تراجيديا وصارت هي الأزمة وها هي الآن اضطراب مطبق لأنها تُخرّب كل محاولة للنجاة ناجحة كانت أو فاشلة.
هناك حاجة لبعض العقل في تونس، وليس كله بالضرورة. الأزمة الاقتصادية، وحالة الضياع، ومشاعر الفشل، والحيرة والاختناق، تدفع الكثيرين إلى أن يصابوا بحالة من الهوس. أحيانا خطيرة. وهو ما يتطلب استدراكا لبعض العقل. وبحكم أن الأزمة طالت. فإن هذا الاستدراك لم يعد يكفي. صارت تونس بحاجة إلى دورة تدريبية حول كيف يمكن إخراج العقل من خزانة الملابس وارتداؤه من جانب الذين، كلما نهضوا من النوم، قالوا: ارحل، ارحل. وعندما يرحل، قالوا للذي يأتي بعده: ارحل، ارحل. فإذا رحل هو الآخر، قالوا للذي بعده: ارحل، ارحل. ولو رحل الرئيس الحالي، فلا توجد ضمانات، بأن مجموعات أخرى من الذين أصابهم الهوس، سوف لن يخرجوا للرئيس التالي، منتخبا كان أو غير ذلك، ليقولوا له: ارحل، ارحل.
السؤال هو: طيّب، وبعدين؟
وحيث أن كل الأجوبة الأخرى سوف تكون مصابة بالخلل نفسه، فهناك جواب واحد معقول: إقامة دورات تدريبية جماعية حول فائدة التحلّي بالعقل.. إلى أن يعي المرء أن هناك معايير للممارسة الديمقراطية، وليفهم أن شعبه إذا انتخب رئيسا، لمدة محددة، فيجب أن يتركه يعمل. وعندما يخطئ، يصبر عليه حتى تنتهي مدة ولايته، فلا ينتخبه في المرة الثانية. لا أن يظل يقول له: ارحل، ارحل. على الأقل من أجل أن يحفظ حق الرئيس التالي، بألا يواجه الوضع نفسه.
“مرض ارحل” تظهر له أعراض بين الأحزاب السياسية، من قبيل التوتر، والانفعال الزائد عن اللزوم، وعدم احترام القواعد الدستورية، والسعي إلى السطو على المشاعر العامة
ما نراه هو اضطراب فعلي، من دون مبالغة. وهو ناجم عن أزمة لم تعرف البلاد كيف تخرج منها. فتحولت إلى سبب لاندلاع حالة من حالات الإصابة الجماعية، مثيرة للعدوى. تنتقل من مجموعة من الناس إلى أخرى، لتردّد: ارحل، ارحل.
الرئيس قيس سعيد لا يعرف في الحقيقة إلى أين يجب أن يرحل. فهو مكلف بأداء مسؤولية رسمية، وتم انتخابه إليها كما لم ينتخب رئيس آخر في تونس.
والرجل يؤدي مسؤولياته كـ”وظيفة عمومية” إلى درجة أنه كان لا يرغب في أن يبيت في قصر الرئاسة. كان يريد أن يبيت في منزله، ويأتي إلى “الدوام” ويعود كما يفعل أي موظف آخر. بمعنى أنه، واقعيا، كان يريد أن “يرحل” بعد نهاية الدوام الرسمي كل يوم. سوى أن هناك من أجبره على أن يبقى في القصر توفيرا للتكاليف ولأسباب أمنية. وقد فعل، امتثالا للمنطق؛ منطق المسؤولية، لا منطق الرغبات.
لا يستطيع الرئيس سعيّد الزعم أنه فعل كل شيء على نحو صحيح. ولكنه واجه أزمة معقدة ومتداخلة، وحاول أن يفك تشابكات خيوطها. كانت له تصوراته للحل. وهو منتخب على أساسها أصلا. قد لا تعجبك. هذا أمر مفهوم. وقد ترى أنها تصورات خاطئة. وهذا أمر مفهوم أيضا. أو أنه يمكن إدارة الأزمة بطريقة أخرى، أو فهم أسباب غير الأسباب التي ينطلق منها. ولكن في النهاية، يجب أن تتركه يعمل. هذا حق بديهي من حقوق الانتخاب. إذا لم تجد في نفسك الرغبة في مساعدته، فلا توجد مشكلة. دعه يخطئ. انتظر النتائج ليراها بنفسه ويراها الذين انتخبوه.
من المفيد لك كسياسي أن تقول له، إنك لم تنجح مع الأسف، وإنه كان بوسعك معالجة الأزمة بطريقة أخرى. ولكن، ليس من المفيد لك، أنت بالذات، أن تطالبه بالرحيل في منتصف مدته. لأنك سوف تتعرض إلى الشيء نفسه، بينما أنت أيضا بحاجة إلى أن تمارس حقك على امتداد المدة التي اُنتخبت لها.
قواعد اللعب لا تتغير والفريق في منتصف الملعب. هذا عمل غير منصف لك أنت، عندما تدخل الملعب.
بالحق أو بالباطل، لقد مرت تجربة “ارحل” الأولى بسلام. تحولت إلى تراجيديا. صارت هي الأزمة. ثم طالت وتشابكت وتعقدت. ثم تحولت إلى مهزلة. وها هي الآن اضطراب مطبق. لأنها تُخرّب كل محاولة للنجاة، ناجحة كانت أو فاشلة.
المعايير الديمقراطية تحتاج أن تُحترم. وهناك ما أصبح تقاليد مخملية بين الناس، من قبيل أن الرئيس المنتخب، لا يسمع نقدا على امتداد المئة يوم الأولى من حكمه. وهناك سببان لذلك. الأول، هو لإتاحة الفرصة للرئيس المنتخب أن يرتب أوراقه ويحدّد أولوياته ويرسم خططه، بعيدا عن أجواء المنافسة والصخب السياسي أو الاختلافات الأيديولوجية. والثاني، هو لإتاحة الفرصة للمعارضة بأن تهدأ. فتعيد ترتيب أوراقها أيضا على أساس معارضة إيجابية، لا معارضة تخريبية. والقاعدة الأساس في هذه “الإيجابية” هي احترام حق الطرف الآخر بأن يعمل وفقا لخياراته. ولكن ليس من دون تدقيق ومساءلة.
ما نراه هو اضطراب فعلي، من دون مبالغة. وهو ناجم عن أزمة لم تعرف البلاد كيف تخرج منها. فتحولت إلى سبب لاندلاع حالة من حالات الإصابة الجماعية، مثيرة للعدوى
في أحد أقرب الأمثلة الانتخابية، لم يحصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا على نحو 27 في المئة من الأصوات، من بين 12 مترشحا في جولة الانتخابات الأولى التي جرت في أبريل من العام الماضي. أي أن ثلاثة أرباع الفرنسيين كانوا يفضلون رئيسا آخر. وعندما جرت الجولة الثانية فقد تم انتخابه من جانب 58 في المئة من الفرنسيين.
ولقد عورض الكثير من سياساته. وأدت إلى اندلاع إضرابات وتظاهرات لم تتوقف حتى الآن، حول هذا الشأن أو ذاك. ولكن لم تسمع عاقلا يقول له: ارحل.
يوجد مرضى نفسيون كثر في فرنسا. اليمين الفرنسي المتطرف كله مريض، ويحتاج المصابون بأوبئة العنصرية ومعاداة الإسلام إلى علاج. ولكن لا يوجد مصابون يجرؤون على القول لرئيسهم، أعجبهم أم لم يعجبهم، ارحل. سيقول حينئذ: إلى أين يجب أن أرحل، ولقد ابتليت طوعا بهذه المسؤولية؟
“مرض ارحل” تظهر له أعراض بين الأحزاب السياسية، من قبيل التوتر، والانفعال الزائد عن اللزوم، وعدم احترام القواعد الدستورية، والسعي إلى السطو على المشاعر العامة، وارتفاع درجة الحرارة إلى ما فوق الأربعين، واحتقان في الحنجرة، والتهاب اللوزتين، ويصاب بعض المرضى بارتعاش في الأعضاء، وترتفع لديهم معدلات الغل والحقد النفسي، وضيق في التنفس.
سوف يقال إن الرئيس سعيّد أراد أن يقلب الطاولة على الأحزاب كلها. حسنا. هناك أزمة في البلاد. وثبت بالدليل القاطع أن فوضى الأحزاب ونزاعاتها ومراميها للهيمنة على مقدرات الدولة، جعلت من نفسها جزءا من الأزمة.
لقد بدت تونس بعد العام 2011، دولة قيد التفكيك. الأحزاب، تحت ذرائع الديمقراطية، حاولت تأبيد هذا التفكيك. هذا واحد من أهم مصادر الأزمة.
قد لا يكون الرئيس سعيد نجح في إدارته للعلاقة مع الأحزاب. ولكنه أراد الفصل بين هذه الأحزاب وبين الدولة. أراد إعادة بنائها ككيان مؤسسي مستقل. الأحزاب التي عارضته، قالت له: ارحل، لأجل أن تعود إلى ما دأبت عليه. لم تر الفاصل الواجب بينها وبين الدولة كمؤسسة إدارة مدنية مستقلة. أرادت أن تعود لتستولي على الدولة حتى ولو كانت خرابا. حلها الوحيد كان: ارحل. وحله الوحيد كان: ارحلوا أنتم.
علي الصراف – كاتب عراقي