أكاد أجزم أن تشويه المفاهيم بات هو السائد، والعبث بكل ما هو جميل، وإفسادة هو القاعدة!
ما بين القبول والتفاني لفكرة الاحتفاء بيوم المرأة، والرفض القاطع لهذا اليوم وجهتي نظر، بالجوهر لا يخدمون المرأة في شيء، بل على العكس.
المبالغة بالتكريم والاحتفاء، التنصيب والتظاهر بالاهتمام وتبادل المواقع، محاولة الخروج من عباءة الذكورية واستنكار المرأة ودورها في المجتمع، هذا العبث بالشكل والمظهر دون محاولة الولوج الى باطن الاشياء، ليس فيه تكريمًا بشيء. ليس المطلوب من الذكر أن يتظاهر بأجمل الصور في هذا اليوم وعلى المراة أن ترفض الترقيع والتمثيل، ما نطالب به هو نهج وتغيير حقيقي نعي تمامًا ارتباطة الوثيق بالتغيير الجذري بالمجتمع كامل واستقلاله وسيادته، فهذا اليوم لم ولن يكن لنا كما نريد وكلنا في المخرز باع وذراع.
في الجهة المقابلة من هم أكثر صدقًا ووضوحًا، يرفضون هذا اليوم ويعلنون ذكوريتهم بفظاظه، بنكته، صار بدنا نادي الرجال لننادي بحقوق الرجل التي ضاعت منا، فأصبحتم أنتن كل شيء زيادة. ولربما الأكثر انسجامًا مع ذاته هو ذلك الرجل الذي لا يعنيه الموضوع في شيء، لا تعليق ولا تهنئة ولا أدنى اكتراث.
في فكر الحكيم.. جورج حبش
في فترة ليست بالبعيدة قرأت للرفيقة المناضلة الدكتورة مريم أبو دقة الكثير عن جورج حبش، حكيم الثورة، كيف كان له نهجًا ثابتًا راسخًا في تكريم المرأة، احتفظت حينها بما خطت إلى يومي هذا، كلما ضاقت بي المواقف وتعجبتها، أعود لقراءته وأمني نفسي بالتغيير لأنني ابنة هذه المدرسة..
تذكر الرفيقة مريم في تدوينتها ما حققته المرأة في صفوف تنظيم الجبهة الشعبية من انجازات سياسية وعسكرية على حد سواء، مشيرة إلى دور الأسيرات والمناضلات والسياسيات في اثبات وجودهن وحضورهن، وتشكر دور الحكيم الداعم الأكبر لهن، تسرد العديد من النقاط التي كانت محط اهتمامه طوال العام وليس في الثامن من آذار فقط…
تقول الدكتورة مريم في تدوينتها…. كان الحكيم يحرص في الثامن من آذار أن يتواصل مع أعضاء المكتب السياسي للمشاركة في احتفالات المرأة وأن يكون أول من يهنئ رفيقاته في أماكن تجمعهن، حيث كان قرار الجبهة الثامن من آذار يوم عطلة مدفوعة الأجر للرفيقات، ويحرص على حضور احتفالات وندوات ومهرجانات المرأة، وشديد الحرص على زيارة أسر الشهداء والأسرى في كل المناسبات والتواصل معهم والسؤال عن أحوالهم واحتياجاتهم. كان قمة في التواضع وشديد الاحترام للمرأة وتكريمها في التعامل معها… أو السماع لمشاكلها ومساعدتها.
حكم الجبهة قانون عدم تعدد الزوجات إلا للضرورة القصوى ورفض ظلم الزوجة أو الأخت أو الرفيقة أو أي امرأة، وفي حال الشجار بين الزوج والزوجة كان يتدخل الحزب في محاولة جادة للإصلاح بينهما وإذا تعذر يكون دعم المرأة وتأمين احتياجاتها وأطفالها أولوية. كان من الأسس محاسبة الرفيق الذي يؤذى المرأة زوجة – أخت- رفيقه- امرأة عادية، ومن أهم وأول عناصر التقييم الموقف من المرأة وانسجام الفكرة والسلوك.
شجع الحكيم الأم التي تنجب طفلين أو أكثر وذلك بمساعدتها في أعباء الحياة. شرع لهن إجازة أمومة للمتفرغات في التنظيم، مدفوعة الأجر، وأصر على أن تتوفر حضانات الأطفال لفترة طويلة تصل إلى 12 ساعة في اليوم، تُسهل على الرفيقات العاملات أمور حياتهن الأسرية، كما حرص على تقديم الدعم المعنوي اللازم لهن أمام الأهل والعائلة تكريمًا لهن وتقديرًا.
وتشير الرفيقه مريم على دور الحكيم في وصول الكثير من الرفيقات لمواقع مهمة، ضمن استراتيجية ومنهج لمشاركة المرأة في القرار. ومن واقع إيمانه بتحرر الأرض وبناء الدولة، فكان يحفز الرفيقات على اكمال تعليمهن الجامعي وانخراطهن بعجلة الإنتاج، وكان يقول: “المناضل مهم ولكن كم هو أكثر أهمية أن يكون المناضل أكاديمي.. لأننا في مرحلة الدولة نحتاج إلى من يبني الوطن، نساء ورجال”.
اهتمامه في أدق التفاصيل ودرايته لتركيبة المرأة، جعلت منه حريصًا على زيارة الرفيقات المبعدات عن أهلهن، فكان لهن وطن وعائلة. كان لا يغيب عن باله سؤال أي رفيق عن زوجته أو أمه أو أخته…
وتكمل تدوينتها مؤكدة على مكانة المرأة الفلسطينية في الداخل، مكانتها الخاصة في قلب الحكيم، مدركًا بشاعة جرائم الاحتلال ودورها المتعاظم في مركز الفعل المباشر، فكان شديد التأثر بهمومها والاهتمام بدعمها ومتابعة أخبارها. ولم يكن هذا الاهتماما شوفينيًا، بل ظهر جليًا في مهرجان تأبين الشهيدة تغريد البطمة، والذي بدأ فيه الحكيم يلوح بكلتا يديه وقبل يديه كان قلبه ينتفض غضبا على استشهاد رفيقتنا المناضلة تغريد البطمة وما هي إلا دقائق معدودة من كلمات الحكيم عن الشهيدة والمرأة ودورها حتى داهمت قلبه الجلطة التي عرضت حياته للموت، ونقل الحكيم إلى العلاج فورًا … هذه الحادثة تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك عمق وصدق إيمان الحكيم بقضية المرأة وحقها المشروع بممارسة دورها الكامل، دون أن يرسمه لها أحد.
لا يختصر دور الحكيم في قضايا المرأة بالنموذج الذي قدمه داخل الجبهة الشعبية، بل في أفكاره وطروحاته الفكرية وتوجهاته التي أغنت سيرة المرأة الفلسطينية والعربية عمومًا، فكان موضع حب وتقدير من النساء العربيات ومن عرفنه من الأمميات وهن كثر. لقد قدم نموذجًا حقيقيًا للإنسانية في أسرته، مع زوجته وبناته، ليكون قدوة لكل رفاقة ورفيقاته، مرددًا عبارته “لا يمكن أن يكون الإنسان ثوريًا، إلا إذا كان إنسانًا”، فكان له ما أراد وأكثر.
كان الحكيم اشتراكيًا مؤمنًا بالمساواة بين الرجل والمرأة طوال العام، وليس فقط في الثامن من آذار.
نستذكر هذه القامات والقصص لنمسك درب النضال كما يجب أن يكون، ونقوى على ما يمر بنا من أزمات واختلالات في المفاهيم والرؤى، فزمن الكبار لا ينتهي، وانجازاتهم تبقى منارة الطريق، فهل ما زال هنا من يحمل الشعلة؟