عاطلون عن العمل في تونس اختاروا ممارسة التجارة العشوائية في شوارع المدن بحثا رزق لعائلاتهم، لكن هذه البسطات التي يزداد انتشارها خلال شهر رمضان شوهت المظهر العام للمدينة وخاصة العاصمة وقطعت رزق أصحاب المحلات الذين يدفعون الضرائب ويعانون من ركود تجارتهم.
تونس – لا يزال نشاط الباعة المتجولين في شوارع العاصمة تونس يثير الجدل، بسبب تداعياته الاجتماعية والاقتصادية. وبينما ترى أطراف أن هؤلاء يفسدون المشهد العام للمدينة، ينتصر الكثير للمطالبة بممارسة نشاطهم في ظلّ تردي الأوضاع وندرة فرص التشغيل، ما يطرح بجدية سبل تقنين ذلك النشاط، فضلا عن الآليات الممكنة لتهذيب مظهر العاصمة وتجنيبه ذلك النشاط العشوائي.
وتواجه السلطات صعوبات كثيرة في التصدي لظاهرة البيع العشوائي التي تفاقمت نتيجة الانفلات الأمني منذ ثورة 2011، حيث يعرض المئات من الباعة سلعا متنوعة في شوارع العاصمة أغلبها صينية مقلدة، وصارت بعض الساحات أسواقا فوضوية تعطل حركة المرور وتسيء إلى جمال المدينة.
وينشر الباعة المتجوّلون سلعهم على مقربة من شارع الحبيب بورقيبة، أكبر الشوارع الرئيسية في العاصمة، خصوصا في شارع شارل ديغول ونهج إسبانيا والأنهج الفرعية وعلى الطريق أيضا، في تحد لشرطة البلدية وللقانون.
أصحاب المحلات يهددون بغلق متاجرهم وعرض سلعهم على قارعة الطريق، مطالبين بإعفائهم نهائيا من دفع الضرائب
ويعتبر شهر رمضان الموسم الأبرز للباعة المتجولين، حيث تزدهر فيه تجارتهم مما يساعدهم على تأمين قسط من المال يجابهون به أعباء الحياة، وهم المعيلون لأسر فقيرة بعد أن أجبرتهم البطالة على هذا الاختيار الذي جعلهم عرضة لملاحقات الشرطة بشكل يومي مقابل تشكي أصحاب المحلات الذين يعانون بدورهم من الركود الاقتصادي.
وتتكرر عمليات الكر والفر بين رجال الشرطة والباعة يوميا، وتحدث فوضى في الشوارع، فيرتبك المارة وينزعج الزبائن خاصة الذين ينوون شراء بعض السلع.
وقالت رئيسة بلدية تونس سعاد عبدالرحيم، في تصريح خاص بـ”العرب”، إن “الظاهرة موجودة في العاصمة وتشكّل مشكلة كبيرة بخصوص الكرّ والفرّ بين رجال الشرطة البلدية”.
وأضافت “لا بدّ من تقنين هذا النشاط بتدشين فضاءات جديدة، ونتفاوض الآن مع بلدية العمران الأعلى لتوفير مساحة تخصص لإنشاء سوق، تحتوي على 400 نقطة بيع، كذلك سنعمل على توفير سوق أخرى في منطقة المنصف باي، بعدما أثّر نشاط الباعة سلبا على مشهد العاصمة”.
دعوات إلى تقنين التجارة العشوائية وتنظيمها في فضاءات جديدة.
وتابعت “كل فرد من حقه أن يدافع عن كسب قوت يومه، ولكن النشاط أثر أيضا على المجال الاقتصادي، ونحن جهاز تنفيذي، ونسعى للبحث عن حلول مناسبة لذلك لتجنب التصادم الأمني مع الباعة”.
ويعتبر جهاز الشرطة البيئية أحد الأساليب العملية التي تعتمدها الدولة لمحاربة كل مظاهر الفوضى التي تكتسح شوارع المدن التونسية وتتجاوز القانون.
ويرى مسؤولون سابقون أن البلديات والمحافظات تحرص على تطبيق القانون من خلال شن حملات متتالية لمواجهة أوضاع الفوضى والاستغلال غير المشروع للرصيف من قبل الباعة، وأكّدوا أنهم وضعوا خططا وبرامج واضحة تهدف إلى التصدي للظاهرة، لكنها لم تحقق النتائج المرجوّة.
وأفاد عمر منصور، محافظ تونس السابق، بأن “المشكلة تعد من أكبر المآسي في العاصمة، وإن كنّا نتفهم أنه نشاط لكسب القوت ومورد رزق، لكنّه أساء كثيرا لصورة العاصمة، وخلقت عشوائية النشاط مشاكل أخرى مثل غلق المنافذ أمام المغازات الكبرى وتعطيل نشاطها”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “في فترة تقلّدي منصب المحافظ عملت على توفير فضاءات للباعة المتجوّلين بمساعدة البلدية حتى يمارسون فيها نشاطهم بطرق قانونية، وجلست معهم، ودعونا إلى التنظيم، لكن البرنامج لم يكتمل”، لافتا إلى أن “هناك حالة من الفوضى تغطي كل مظاهر الجمال في العاصمة”.
انتشار التجار العشوائيين يهدد الاقتصاد انتشار التجار العشوائيين يهدد الاقتصاد
ودعا عمر منصور إلى “ضرورة توفير فضاءات مهيئة حتى يتعود المواطن على زيارتها واقتناء حاجياته منها”.
وعجزت الحكومات المتعاقبة عن احتواء التجارة العشوائية، مقابل ازدياد غير مسبوق لعدد الباعة وتفاقم الظاهرة بشكل تدريجي، في ظل ارتفاع معدلات البطالة في البلاد، ما دفع أصحاب المحلات في الكثير من الأحيان إلى التهديد بغلق متاجرهم وعرض سلعهم على قارعة الطريق، مطالبين بإعفائهم نهائيا من دفع الضرائب.
وتتصاعد تشكيات التجّار في تونس بعد تنامي نشاط التجارة الموازية التي تسببت في التقليل من الكميات المعروضة في الأسواق المنظمة قانونيا، وزادت من مستوى التدهور الاقتصادي، بعد استقواء المهربين على الدولة.
وأفاد خميس ميتاتو، رئيس غرفة مصنّعي الأحذية بالجامعة الوطنية للجلود والأحذية، بأن “النشاط العشوائي أثر بشكل كبير على الاقتصاد ومداخل الدولة، فتوسعت السوق الموازية، ووصلت إلى نسبة 75 في المئة في مجال الجلود والأحذية، وغياب الدور الرقابي للدولة فاقم الظاهرة”.
وقال لـ”العرب”، “الاقتصاد أصبح مترديا ووزارة التجارة غائبة، وهؤلاء يلجأون إلى الاستقواء على الدولة فتصعب عملية مراقبتهم”، لافتا إلى “الدولة لم تقدم الدعم اللازم للمؤسسات الصغرى والمتوسطة إثر تداعيات جائحة كورونا، ونحن نواصل دفع الأداءات”.
وشدّد ميتاتو على “ضرورة توفّر قرار سياسي قوي لتنظيم مسالك التوزيع في البلاد”.
وتؤكد العديد من الأطراف أن انتشار التجار العشوائيين في الأسواق الشعبية وأنهج المدن يمثل تهديدا حقيقيا للاقتصاد المحلي باعتبار أن السلع التي يعرضونها تتأتى أساسا من التهريب، كما توجه الانتقادات لهذه الظواهر لكونها تساهم في نشر الفوضى والأوساخ، وهو ما يشوّه مظهر المدن التونسية عموما.
بضائع رخيصة
وسبق أن طالبت المنظمة الرئيسية لأرباب العمل في تونس الحكومات المتعاقبة بعد 2011 بضرورة مقاومة التجارة الموازية والباعة المتجولين غير المرخص لهم في العاصمة تونس، محذرة من أن نشاط هؤلاء بات يهدد العديد من تجار العاصمة الرسميين بالإفلاس.
ودفع ارتفاع نسبة البطالة في تونس خلال السنوات الأخيرة الآلاف من الشباب إلى امتهان التجارة الموازية وفرش الأرصفة بالسلع المتنوعة، بحثا عن لقمة العيش لهم ولعائلاتهم.
وأظهرت بيانات للمعهد التونسي للإحصاء ارتفاع معدل البطالة في السوق المحلية إلى 18.4 في المئة خلال الربع الثالث من 2021، مقابل 17.9 في المئة خلال الربع الثاني من العام نفسه.
وظهر نشاط الباعة المتجولين قبل سنة 1991، حيث كانت كل الأنشطة التجارية خاضعة لنظام الترخيص، سواء التجارة الداخلية أو الخارجية، ثم تم تحرير قطاع التجارة الداخلية، مما أفرز أرضية خصبة لنمو ظاهرة التجارة الموازية، بينما كان الغرض من تحرير الأنشطة التجارية خدمة الاقتصاد الوطني، لكن عدم توفير ضوابط لإنجاح هذه السياسة أدى إلى ظهور العديد من السلبيات.
ومثّل البائع المتجول أحد شرارات الثورة التونسية التي بنى عليها الشباب أحلاما كبيرة، على غرار الشغل والحرية والكرامة، لكن السياسات “الفاشلة” لحكومات ما بعد 2011 عصفت بتلك الأحلام.
خالد هدوي – العرب اللندية