بلغت تظاهرات طلبة الجامعات الأميركية المطالبة بوقف الحرب على فيتنام ذِروتها في السنوات الأخيرة من عقد الستينيات من القرن الماضي، واستمرت صعودًا وهبوطًا حتى عام 1973، حين وقعت الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية اتفاق سلام في باريس، ما لبث أن انهار، وحسمت الحرب لصالح الفيتناميين عام 1975 ودخل الفيتناميون الشماليون سايغون عاصمة الجنوب منتصرين، وفر الأميركيون على عجل تاركين وراءهم طائراتهم وسلاحهم.
اليوم، يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟
هزيمة فرنسا
ولعل مراجعة سريعة لأهم فواصل الحرب الفيتنامية تفيدنا في استخلاص عِبَرٍ تفيد الأمة، وتستفزّها من سُباتها الدهري، فتدرك أن الارتماء تحت أقدام أميركا والغرب مآله استعباد، ثم اضمحلال، ثم عدم. أو لم يُؤْثِرْ كثير من العبيد عبر التاريخ العبودية على الحرية، لطول ارتسافهم في القيود؟
بدأ التدخل الأميركي في فيتنام عقب الهزيمة المدوية لفرنسا الإمبريالية في معركة “ديان بيان فو” بقيادة الجنرال “غياب” في مايو/أيار 1954 وسيطرة الشيوعيين على شمال فيتنام. بعد تلك المعركة عقد مؤتمر للسلام في جنيف في يوليو/تموز 1954 قسمت البلاد فيه شمالًا وجنوبًا طبقًا لخط العرض 17، فأصبح الشمال جمهورية بقيادة “هو شي منه”، وظلّ الجنوب تحت حكم الإمبراطور “باو” ولو اسميًا.
هذا هو ما تفعله الإمبريالية دومًا، قد تخسر المعركة الفاصلة لكنها ترفض التسليم، وتتشبث بوجودها الكولونيالي عبر حكام وكيانات تابعة تسيرها عن بُعد.
لم يدم حكم الإمبراطور في الجنوب طويلًا، إذ انقلب عليه السياسي المناهض للشيوعية بقوّة “نغو دن ديم”، وأعلن قيام جمهورية فيتنام.
كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي اليساري بقيادة الاتحاد السوفياتي، والرأسمالي الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة، تتزايد حدتها كل عام بعد الحرب الكورية، وتتفجر حروبًا ساخنة بالوكالة هنا وهناك.
كان سيد البيت الأبيض عام 1955 هو دوايت آيزنهاور، الجنرال الذي قاد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، وهزمها بشراكة حاسمة مع الاتحاد السوفياتي.
رئيس فاسد
ورغم أن آيزنهاور خاض ما يمكن أن يسميه البعض حرب تحرير ضد النازية بالشراكة مع السوفيات، فإنه كان من المؤمنين بـ “نظرية الدومينو” التي تقول إن انتصار الشيوعية في بلد ما، بمنطقة ما من العالم سيؤدي إلى سقوط متتابع لبقية البلدان في الفلك السوفياتي، ولذلك ينبغي التصدي بقوة لأي احتمال كهذا. هذا، عدا عن أن أميركا المنتصرة كانت عزيمتها وروحها الإمبريالية متحفزة للتوسع والهيمنة في العالم كله مهما كلف الأمر.
عام 1955 أصبح آيزنهاور نصيرًا قويًا لسلطات فيتنام الجنوبية ورئيسها الفاسد حتى النخاع “نغو دن ديم”، مع أن أميركا كانت قبل ذلك تقدم عونًا استشاريًا محدودًا للجنوب، ومع أن آيزنهاور كان يعلم أن “ديم” يقود سلطة مجرمة سجنت، وعذبت، وقتلت مئات الألوف من الفيتناميين الجنوبيين، كُثْرٌ منهم لم يكونوا شيوعيين، بل كانوا مجرد فلاحين بسطاء قتلوا بتدريب ومساعدة عسكرية واستخباراتية أميركية.
اندلعت ثورة “الفيت كونغ” عام 1957 واشتدّ زخمها، وبحلول عام 1961 كان في البيت الأبيض رئيس جديد شاب أحبه الأميركيون، وتوقع كثير من الناس في العالم أن يجري على يديه تغيير في بعض سياسات أميركا الرأسمالية الكولونيالية.
كان “جون أف كينيدي” من المؤمنين أيضًا بنظرية الدومينو سالفة الذكر، فقرر زيادة الدعم لفيتنام الجنوبية، وبحلول عام 1962 ارتفع عديد القوات الأميركية هناك من 800 جندي إلى 9000.
غير أنّ القدر لم يمهل كينيدي إذ اغتيل في نوفمبر/تشرين الثاني 1963 في مدينة دالاس بولاية تكساس بعد ثلاثة أسابيع من انقلاب عسكري أطاح الدكتاتور “ديم” في سايغون.
قرر ليندون جونسون الذي خلف كينيدي في البيت الأبيض تصعيد الحرب ضد “الفيت كونغ” وفيتنام الشمالية وأرسل مئات الألوف من الجنود بقيادة الجنرال ويليام وست مورلاند، وبحلول عام 1967 وصل عديدهم إلى 500000. وامتدت الغارات الجوية الأميركية إلى لاوس المجاورة التي ألقت عليها الطائرات الأميركية مليوني طن من القنابل، فأصبحت لاوس أكثر بلد قُصِفَ بعدد من القنابل بالنسبة للفرد الواحد من السكان. وربما ظلت كذلك إلى أن قصفت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول قطاع غزة بأكثر من ذلك بكثير نسبة لعدد السكان.
تصاعد عدد القتلى الأميركيين في المعارك البرية، وازداد الرفض بين الجنود للانخراط في حرب لم يكونوا على ثقة من أسباب وجيهة لها، وبلغ عدد من هجروا الخدمة في الفترة من 1966- 1973 أكثر من نصف مليون مطلوب للخدمة.
وفي الشارع الأميركي تصاعدت الموجات المناهضة للحرب بمشاركة مئات الألوف أمام البنتاغون، والناس يشاهدون على شاشات التلفزة أن من يقتلون من المدنيين في فيتنام أكثر بكثير من المقاتلين، خلافًا لما تدعيه بيانات وزارة الدفاع الأميركية في مؤتمراتها الصحفية، تمامًا كما تزعم آلة الدعاية الإسرائيلية اليوم والإعلام الغربي والعربي المتصهين.
نقطة تحول
وفي 31 يناير/كانون الثاني شنت قوات “الفيت كونغ” وقوات فيتنام الشمالية ما يعرف بهجوم “تيت” على 100 مدينة وبلدة في فيتنام الشمالية بمشاركة 70000 مقاتل وجندي وبقيادة الجنرال “فو غيان غياب”، الذي هزم الفرنسيين في معركة “ديان بيان فو” الشهيرة، عام 1954.
وكما كانت تلك المعركة نقطة تحول في الوجود الاستعماري الفرنسي في الهند الصينية، كان هجوم ” تيت” نقطة تحول في حرب فيتنام عمقت الهزيمة النفسية للولايات المتحدة. ولعل ما يذكرنا به اليوم هجوم “تيت” هو “طوفان الأقصى” وما أحدثه من زلزلة في إسرائيل وآلتها العسكرية وفي العواصم الغربية، وبعض العواصم العربية الداعمة لإسرائيل.
اضطر جونسون للتراجع في ضوء الاحتجاجات المتعاظمة ضد الحرب، وقرّر في مايو/أيار 1968 وقف قصف هانوي وفيتنام الشمالية، وبدأ مفاوضات مع الشماليين في باريس، سرعان ما تعثّرت.
فاز ريتشارد نيكسون في العام نفسه بانتخابات الرئاسة الأميركية، بينما كان عدد القتلى الأميركيين يتصاعد، ولا يتوقف سيل النعوش العائدة من ميادين القتال. قرر نيكسون ما سمّاه “فتنمة” الحرب، والبدء بسحب الجنود الأميركيين، والاستمرار بدعم الجنوبيين بالسلاح والعتاد والتدريب. واستأنف في عام 1968 مفاوضات السلام في باريس بموازاة مفاوضات سرية كان يجريها وزير الخارجية الشهير هنري كيسنجر مع الفيتناميين.
لم يتزحزح قائد فيتنام الشمالية “هو شي منه” عن موقفه المطالب بالانسحاب الأميركي التام من دون شروط، فتوقفت المفاوضات. وفي السنوات التالية تعاظمت أهوال الحرب، وازدادت أعداد القتلى والمذابح للمدنيين، وبلغت المظاهرات المناهضة للحرب ذروتها حين كشفت مذبحة قرية “ماي لاي”، التي قتل فيها الجنود الأميركيون 400 فيتنامي معظمهم من النساء والأطفال.
كان زخم المظاهرات المناهضة للحرب يتصاعد، وخاصة بين طلبة الجامعات الأميركية، وانقسم الأميركيون بين معارض للحرب يريد الحدّ من تجاوزات الإدارة وصلفها، ومؤيد يرى في ذلك تنكرًا للوطن، بل خيانة له. وبتزايد عدد الجنود العائدين من ميادين القتال تزايد سخط من ظلوا في فيتنام من الجنود، وزاد عدد من فرّوا منهم من الخدمة إلى مئات الألوف بحلول عام 1973.
وتصاعدت مظاهرات الجامعات حين غزت القوات الأميركية في عام 1970 كمبوديا المجاورة لفيتنام، وقتل ستة من الطلاب في جامعة “كِنْت” بولاية أوهايو، وجامعة جاكسون في الميسيسبي.
وفي خريف 1972 وقّع هنري كيسنجر والفيتناميون الشماليون مسوّدة اتفاق سلام رفضها الجنوبيون، وتبع ذلك غارات على هانوي وميناء هايفونغ، وكأن الولايات المتحدة أرادت منها أن تقول للعالم إنها ستوقّع اتفاق سلام مع الشماليين من موقع القوة. ثم وقع الاتفاق في يناير/كانون الثاني 1973، منهيًا حالة الحرب بين الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية، لكن الحرب مع الجنوب استمرّت، إلى أن دخل الشماليون سايغون في 30 أبريل/نيسان 1973 وسمّوها “هو شي منه”.
خسر الأميركيون في فيتنام أكثر من 58 ألف جندي، وقتلوا ما يقارب ثلاثة ملايين فيتنامي، وجرحوا ثلاثة ملايين آخرين، وشردوا 12 مليونًا لكن الأمة الفيتنامية رفضت الاستسلام وانتصرت.
فلو أنّ العرب يتعاملون مع القضية الفلسطينية على أنها قضية أمة لاختلف الحال عما هو عليه الآن، خاصة بعد معركة “طوفان الأقصى” التي قدّم فيها الفلسطينيون ما يستطيعون، وما زالوا يقدمون. ما بعد “طوفان الأقصى” أصبحت الظروف مهيأة لنصر نتمنّاه، وللحديث بقية في المقال التالي.$
أحمد الشيخ – رئيس تحرير قناة الجزيرة سابقا / الجزيرة