محمد النبي الولادة والنشأة

المثير في تأريخ حياة النبي محمد قبل البعثة والنبوة هي غياب جزء مهم من حياته الخاصة والأجتماعية للفترة الممتدة ما بين وفاة والدته وهو في السادسة من العمر وحتى فترة الشباب، وقبيل زواجه من السيدة خديجة وما قيل عنها غير أشتغاله راعيا للأغنام كما تزعم الروايات التي كتبت لاحقا في عصر التدوين والكتابة بدأ من أواسط عصر الدولة الأموية..

من النادر جدا أن نجد صورة ولو جزئية تمثل الجزء الأهم من هذا المبحث المتعلق بنشأة النبي محمد الأولى على قر من الموثوقية والقرب التأريخي لها، فغالب ما ورد في هذا الشأن كتب بعد أكثر من مئة وخمسن عاما على ولادته ونشأته وتأريخه الخاص، عن طريق روايات وأشعار وأحيانا تفسيرات تأريخية لبعض النصوص القرآنية، والمجمل فيها أما التعظيم والتقديس إن كانت إسلامية تصل لحد الخرافة كما في قصة الملكان اللذان شقا صدرة وأستخراج قلبه وغسله ثم إعادته لمحله، أو التنكيل والتشويه والكذب والتحريض كما رد في النصوص التأريخية اللاتينية التي كتبت في القرن الثامن الميلادي والمعروفتين تأريخيا، وهما أقدم صورتين معروفتين نسجتهما المخيلة المسيحية اللاتينية الغربية زوراً عنه. أعدَّ أستاذ تاريخ العصور الوسطى الأوروبية، البروفسيور كينيث باكستر وولف، دراسة تناولت الكتاب المعنون: “أقدمُ سير حياةٍ لاتينية لمحمد” Medieval Latin Lives of Muhammad الصادر عن مكتبة العصور الوسيطة في “دمبارتون أوكس” أيار/مايو 2018، حلَّل فيها السيرتين، واعتبرهما مزيفتين عن عَمْد. ما تفاصيل ما جاء في السيرتين؟ وما الظروف والملابسات الدينية والسياسية حول كتابتهما؟ وما المنهجية التي اتُبعت في كتابتهما؟ .
لا يمكن الأعتماد على كلا الطريقين في بناء صورة ما عن حياة النبي في مرحلة ما قبل البعث والنبوة، ولكنهما بالتأكيد يؤكدان ما تحاول بعض الكتابات من الإشارة إلى أن شخصية النبي محمد وحتى وجوده مجرد وهم تأريخي مصطنع، وصل الحد عن البعض بإنكار وجود الإسلام كدين قبل فترة حكم هشام بن عبد الملك، في تعميم وتشويه للتأريخ بدواعي لم تعد تخفى على أحد، لكن تبقى حاجتنا قائمة للبحث والتحري بين النتف التأريخية للبحث عن ما يمكن الأعتماد عليه ولو جزئيا لتكوين تلك الصورة المطلوبة بحيادية تامة وبتجرد عن الميل التقديسي المبالغ به أو التطرف في الإنكار والكراهية.
المصدر الذي يمكن الأعتماد على مصداقيته وجديته في توضيح جوانب من حياة النبي، هي بعض النصوص الواردة في القرآن والتي على قلتها تعطي ملامح عن هذه الحياة وعن الظروف التي عاشها النبي غي مكة، فمثلا ما ورد بسورة الضحى وفي لمحة تنافي الكثير مما ورد في السير والأخبار عن حياته ووضعه الأجتماعي، تثبت خطل وزيف تلك الروايات على كثرتها وشيوعها، النص يقول (ألم يجدك يتيما فأوى* ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى) هذه التفاصيل تؤكد أن النبي الذي نشأ يتيما وهو ما زال في بطن أمه، لم يترك كبقية الأيتام للظروف وللمجتمع وأحكامه، بل كان هناك من تدبر أمره وأواه ليعيش حياة كريمة في ظل عائلة أرستقراطية ذات مكانة أجتماعية وتجارية ودينية مميزة، فلم تشكل فترة اليتم عنده مشكلة ولا أثرت في حياته كما يتأثر اليتامى غالبا خاصة مع فقدانه والدته بعد ست سنوات من فقدان الأب.
من الروايات المرسلة والتي أخذت مأخذ اليقين عن كل المسلمين أولا وأصبحت وكأنها حقيقة تأريخية هي أن النبي محمد كان يرعى الغنم ليعيش كبقية الفقراء في مكة، والحقيقة الدامغة التي تنافي وتقاطع هذه الرواية هي قول القرآن (فوجدك عائلا فأغنى)، فالنبي الذي كان جده سيد البطحاء وزعيم قريش وسادن الكعبة ومن ثم من بعده عمه وكفيله أبو طالب ووفقا للأحكام والقيم القريشية التي تعتز بها بيوتات مكة لا يمكن أن يدعوا أبنهم أن يكون راعيا للأغنام وكأنه لا عشيره له ولا أهل، أضافة إلى أن للنبي سهم من سهام جده عبد المطلب ورثها عن أبيه والتي تؤكد المصادر التأريخية أن اقتسام السدانة والمهمات لأخرى بعد وفاة عبد المطلب قسمت على أولاده بالتساوي، وهذا ما يشير له النص (ووجدك عائلا فأغنى)، فلم يكن محمدا قبل النبوة لا فقيرا ولا راعيا للغنم بل عاش معززا مكرما ذا سعة من المال كما وصفها القرآن بالغنى.
أيضا الروايات التي أوردت أشتغال النبي محمد برعي الغنم لم ترد فيها الزمن ولا المكان ولا الأشخاص الذي كان يرعى غنهم، وهذا يقدح أيضا بقيمة الرواية علما أن مكة وما حولها لم تشتهر برعي الغنام كونها في وادي غير ذي زرع، لكنها تشتهر برعي الإبل والذي له المختصين به من الأعراب والبدو، إنما وردت الرواية لشأن أخر تحقيرا وتهوينا من مكانة محمد بين قومه خاصة أن مرسلها ليس معروفا ولا ممن يثق بروايته.
المثير في تأريخ حياة النبي محمد قبل البعثة والنبوة هي غياب جزء مهم من حياته الخاصة والأجتماعية للفترة الممتدة ما بين وفاة والدته وهو في السادسة من العمر وحتى فترة الشباب، وقبيل زواجه من السيدة خديجة وما قيل عنها غير أشتغاله راعيا للأغنام كما تزعم الروايات التي كتبت لاحقا في عصر التدوين والكتابة بدأ من أواسط عصر الدولة الأموية، هذا الغياب والذي يشكل في الحقيقة الجزء الأهم من تشكيل وبلورة شخصيته، وهي التي تقدر بحوالي ربع قرن من الزمن وبعيدا عما قيل أنه كان قد رافق عمه أو بعض قوافل التجار برحلتها للشام والتي كما قيل شكلت له نافذة على عالم الديانات التوحيدية المنتشرة في فلسطين خصوصا والشام عموما، هذه الفترة بأعتقادي هي الأساس الذي يجب التركيز عليه في بحث جاد وعميق، لا سيما تلك الإشارات التي ذكرت أنه ألتقى فيها قيصر روما أو ممثلا عنه.
كما إن هذه الرحلات لو صحت تأريخيا تؤكد من جانب أخر أنه لم يكن إذا بعيدا عن فهم العقائد وربما دراستها بالشكل الذي كون له ملامح دينية خاصة مع أنه أصلا من بيئة أسرية يعتنق غالبيتها أنهم كانوا من الأحناف الذين بقوا على دين إبراهيم وإسماعيل وحافظوا على تلك العقيدة دون تأثر أو أعتناق ديانة أهل مكة ومنها عبادة الأصنام المنتشرة فيها وفي معظم الجزيرة أنذاك، هذا يعطينا صورة أخرى على تلك الشخصية التي ستكون لاحقا محور للديانة الموعودة في الكتب الدينية القديمة، فقضية كونه كان موحدا وليس مشركا بعقيدته الدينية يمكنها أن تفسر ما ذكره الرواة من أنه كثيرا ما ألتقى بالرهبان والقساوسة وزيارته للأديرة والكنائس المسيحية، حتى أن هناك روايات تزعم أنه كان على ديانة اليهود النسطارية دون أن تقدم دليلا ماديا وحجة ممكن الركون لها.
لا بد لشخصية مثل محمد الغني والتاجر وأبن الطبقة الأرستقراطية التي وفرت له ظروفا مثالية للإطلاع والبحث والتأمل في الموضوع الديني وتأثيرات مكة الزاخرة بالديانات الشركية والتوحيدية معا، وما يشكل من وجود للكعبة بيت الله كما يعتقد العرب من أثر نفسي وعقلي على تكوين وتشكيل معتقده الديني الخاص، جعله على تماس حقيقي مع الدين ومع فهم العقائد لا سيما أنه لم يكن منخرطا في نشاط أخر كما تظهر من الروايات الواردة إلينا عبر المصادر التأريخية التي أرخت وكتبت عنه وعن مكة ومجتمعها وإن كانت متأخرة في التدوين.
هناك شاهدين تاريخيين محفورين على الصخر تمثل كل واحدة منهما دليلا دامغا على أن النبي محمد خلافا للمروي عنه من أنه لم يخرج من مكة في المرحلة المكية ولا عن المدينة (يثرب) لاحقا حتى وفاته، سوى المناطق التي قاد فيها حملاته العسكرية التي سميت بالغزوات التي دارت في معظمها بين مكة والمدينة وما حولهما وأبعدها غزوة تبوك، الشاهدين هما نقش (جبل سلع) في المدينة المنورة والذي أثار الأنتباه له الكاتب الهندي محمد حميد الله في نهايات الثلاثينات من القرن الماضي، والنقش الأخر الذي أكتشف حديثا قبل شهر تموز عام 2019 في منطقة جبلة السورية على بوابة مغارة فيها، كلا النقشين يمثلان نمط واحد من الكتابة في أسم النبي محمد مرة مقرونا باسم أبيه عبدا ومرة مقرونا بلقبه الديني (رسول الله) .
هذان النقشان والذي يعود كليهما لفترة الرسالة والثاني ربما يكون أقدم من الأول بفترة زمنية (العهد المكي) بينما يعود النقش الثاني للفترة الثانية من حياته في المدينة، وبالمقارنة بطريقة الكتابة ونوع الخط ورسمه يؤكد الباحثون على أنهما يجزمون بأن كلا النقشين يعودان للنبي محمد شخصيا وبخط يده، وهذا ينسف الكثير من الروايات والتشكيكات المؤيدة مثلا أن النبي محمد لم يصل في عهد نبوته إلى هذه المنطقة القصية من بلاد الشام وقريبا جدا من القسطنطينية، وتؤكد بشكل قاطع أخر أن مكان النبي محمد الأصلي هو المدينة على عكس تأكيدات المشككين من أنه لو صح ظهور الإسلام ونبيه محمد لا بد أن يكون جنون الأردن أو في العراق حسب رواية البعض، وأيضا يؤكد وجود هذين النقشين أن النبي محمد قبل وبعد البعثة كان كثير الأسفار والتنقلات من وإلى الشام، والنقطة الأخرى توكد بعض الملاحظات المهملة ورغم من تدوينها أنه كان على تواصل أبعد مما رسمته السيرة الرسمية المكتوبة في العهدين الأموي والعباسي، وهذا يدلل على أفتراض أن محمدا الشاب وقبل البعثة والنبوة كان عارفا ومطلعا على الكثير من الأماكن والثقافات الدينية الأخرى.
هذا الأكتشاف الجديد وتعزيزا للاكتشاف الذي سبقه في جبل سلع يمكن أن يمنحنا شيئا من الضوء على ما طمس من أخبار ومعلومات تخص الفترة السابقة عن البعثة، وتظهر لنا صورة الرجل المثقف العارف هدفه والمتيقن من جدية عمله وأطلاعه الواسع على أحوال الأمم والديانات السابقة، عكس الصورة السائدة والضبابية التي يثيرها خصوم وأعداء الإسلام وحتى كتب السيرة الإسلامية التي بدأت أولا بسيرة أبن سحق وما أثرت في بقية السير التي أستمدت مادتها التأريخية منها أو سارت على منهجها وطريقة الكتابة، ففي كل هذه التدوينات هناك فجوات كبيرة تمتد لسنين طويلة ليس من المؤكد ذكر فيها المؤرخون شيئا عنه سوى أفتراضات وكلام عام تظهر النبي وكأنه رجل عاش على هامش الحياة لا يعرف ولا يدري ما يدور حوله فقيرا ويتيما منعزلا بنفسه عما يجري من حوله.

عباس علي العلي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
24 − 20 =