قبور طه حسين والعقاد ويحيى حقي وغيرهم من أعلام مصر مهددة بالزوال.
أثار توجه الحكومة المصرية إلى إزالة المقابر التاريخية في القاهرة حفيظة المثقفين المصريين، الذين يُجمعون على ضرورة إيجاد حلول بديلة لهدم جزء يعتبرونه هاما وأساسيا في تاريخ مصر. وفي هذا التحقيق نتساءل مع عدد من المثقفين المصريين عن سبب الإصرار على إزالة المقابر التاريخية بما تحمله من قداسة إنسانية وأيضا قيمة أثرية فنية جمالية لن تتكرر.
ماذا يتبقى من الإنسان غير رفاته، رفات استقر لأكثر من أحد عشر قرنا تزلزل منامه الأخير حركة البلدوزر. فقد أثار ما يسمى تطوير القاهرة حفيظة الكثيرين، وجعلنا نقول إنه للمرة الأولى منذ فترة طويلة يضج الرأي العام سخطا على حدث، ويعود ذلك إلى تعارضه مع الاحترام الذي يكنه المصريون للأموات ووعيهم التاريخي بقيمة المدافن.
يدرك المصريون كذلك أنه في ظل الأزمات الأخيرة فإن الخط الأخير للكرامة والإنسانية سقط مع هدم مقابر الموتى، إن قوة الدولة تزحف على ما تبقى من صبر الناس ووعي التاريخ وجمال المدينة.
حسام الحداد: إزالة المقابر خسارة فادحة لتراث البلاد الثقافي والتاريخي
تنكيل بحرمة الأموات
بداية يقول الدكتور نبيل بهجت أستاذ علوم المسرح “تلك المقابر التي تهدم الآن أقدم من الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى. إن ما يحدث الآن ليس خلافا في وجهة نظر وليس اختلافا على استحقاق ما، إنه عصف بمبادئ تأسست عليها مصر وتشكل بها المجتمع. فمصر لا تمتلك منتجا بحجم التراث والتاريخ، وعظمة القاهرة وإعجازها يكمنان في تجاور العصور داخل حيز المكان الواحد؛ تلك الميزة التي صنعت مدنا كروما وباريس”.
ويضيف “إننا لسنا كمدن ‘الترانزيت’ حديثة التأسيس وليس مجال تميزنا أن يكون لدينا (ما هو) أكبر أو أضخم، لأننا بالفعل لدينا ما يغبطنا عليه العالم كله، لذا فإنني استحلفكم بما يقسم به المصريون لبيان عظمة المقابر واحترام الرفات فـ’علشان عضم التربة’ لا تسلبوا مصر روحها. إن إزالة الجبانات التاريخية اختلاس لرأس مال مصر المعنوي. لقد نجت جبانات القاهرة التاريخية من الغزاة على مر التاريخ، فلم يجرؤ أي منهم على أن يمد يده إليها. نجت من حروب المماليك والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز والحرب العالمية الأولى والثانية وثلاث حروب أخيرة دخلتها مصر لتبقى رغم ذلك كله أثرا ينبض بالحيوية، فهل يعقل أن نهدمها اليوم؟”.
ويوضح أن هذه المقابر تمتلك إمكانيات يمكن توظيفها في خدمة الدخل القومي من خلال عمل حصر على أساس العصر والشخصية والطراز، وتصنيف مقابر الأعلام والنبلاء، وتلك التي تحمل طرازا معماريا مميزا وذات الشواهد القديمة وتحويلها إلى مزار سياحي يضم مسارات للأدباء والأعلام والفنانين والقادة ورجال الدولة والشخصيات البارزة، وتُفتح خلاله محلات لبيع مصنفاتهم وتذكارات من إبداعاتهم، وكذلك تطوير المنطقة لتصبح رئة جديدة للقاهرة بعد دراستها وتصنيفها والنظر في مخرجات التصنيف. ويشدد على أنه من البديهي أن نقر بأن أي مشروع سيقام على تلك الأرض لن يعوض القيمة التاريخية والجمالية والمعنوية لتلك الجبانات.
عمر صوفي: هدم مقابر ذات قيمة تاريخية وتراثية اعتداء على ذاكرة أمة
ويضيف “إن معظم آثارنا التي نفخر بها كانت مقابر لذلك من الممكن خلق مساحات أثرية جديدة من خلال تلك الجبانات، ووضع خطة تنموية لنشاط سياحي وثقافي وديني وتاريخي وفني. إن ما يحدث تدمير لن يمكن إصلاحه وسنحيا بحسرته كلما تذكرناه. إن حفاظنا على رفات بناة الوطن وتقديرهم لهو أبلغ ما يدفع الأجيال إلى الحذو حذوهم؛ فمصر هي صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ عبدالباسط عبدالصمد وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وقلم حافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي وريشة محمود سعيد وإزميل محمود مختار وغيرهم. إن القيمة الكبرى لمصر تكمن في رموزها الذين أسهموا في تأسيس كل شيء تقريبا في منطقتنا العربية، وامتد أثرهم إلى أبعد من ذلك فعندما تدرس قبور هؤلاء ما هي الرسالة التي نتركها للأجيال. إن الإطاحة بتلك الذاكرة هو نسف لرأس مال مصر المعنوي الذي هو جزء من مكانتها وسيادتها وريادتها”.
ويحذر الشاعر جمال القصاص من أن إزالة المقابر التاريخية جريمة لا تغتفر، ويقول إن ذلك “ليس في مصر فحسب وإنما في أي مكان وزمان، لأنه ببساطة يؤكد واقع الأنظمة الحاكمة الفاسدة، وأن تنكيلها بحرمة الأموات وإزالة مقابرهم لا ينفصلان عن تنكيلها بالأحياء وهدم منازلهم، واغتصاب أراضيهم، من أجل إنشاء كوبري، لا يغني ولا يسمن من جوع في فض الاختناق المروي المزمن الذي تعاني منه العاصمة القاهرة منذ عقود، ويحتاج إلى رؤية وتخطيط أعمق، على المدى الطويل، بعيدا عن هذه الحلول السريعة والمكلفة”.
ويضيف “وسط كل هذا هل يعقل أن تصبح بين ليلة وضحاها مقابر أعلام ومشاهير الكتاب والشعراء، والتي أصبحت رمزا لتاريخ ووجدان أمة، مهددة بوباء الإزالة؟ أي جنون، بل أي جريمة ارتكبها طه حسين عميد الأدب العربي، كي تقض السلطات الحاكمة مضجعه، وتصبح مقبرته محاصرة بهذه الطريقة الشنعاء، وبالمثل مقبرة رائد مدرسة الأحياء في الشعر العربي، الشاعر محمود سامي البارودي، رب السيف والقلم، وغيرهما من أعلام الثقافة والفكر، ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي”.
ويتابع “الكثير من هذه المقابر التاريخية تعد تحفة معمارية نادرة، منها على سبيل المثال مقابر الأسرة العلوية (أسرة محمد علي)، بمقابر الإمام الشافعي في القاهرة. لقد زرت هذه المقابر، وأحسست بهذا الجمال، وكأن بيننا صلاة سرية، غير مكتوبة، شعرت بدبيبها يغمرني جسدا وروحا. وفي ظل هذا العبث أخشى على الأهرامات، درة الحضارة الفرعونية العريقة، أن يطولها هذا الفساد، باعتبارها أكبر “جبانة” رعت الملوك، وتولت حراستهم في رحلتهم إلى الحياة الأخرى بعد الموت.
نبيل بهجت: إزالة الجبانات التاريخية اختلاس لرأس مال مصر المعنوي
مقبرة أرثر رامبو
يقول الشاعر والكاتب سمير درويش “ثمة أنظمة -لا أقول دولا- لا تعرف قيمة الثقافة ولا المثقفين، تعتبر الثقافة ترفيها ووسائل آمنة لتضييع الوقت، هي لا تعرف قيمة النابهين من أبنائها في العموم، هذه الأنظمة تستطيع أن تنبهها، أن تعلمها، أن تُفهمها أن الحضارات تقوم على أكتاف المميزين في كل المجالات، والمثقفين بشكل خاص لأنهم المنوط بهم فتح آفاق العقول، وأن تذكرها بأن الغاية الأولى والأساسية لأية حضارة، ولأي تطور علمي أو تكنولوجي هي الإنسان نفسه ورفاهيته. لكن ثمة أنظمة ‘غشيمة’ تخطت مراحل الدكتاتورية والاستبداد والعناد والوهم بامتلاك اليقين، تخطتها إلى مرحلة اعتبار أن كل شيء يقف في طريقها لا يجب أن يوجد. هذا بالضبط ما يفعله هادمو القبور، الذين يقولون في ضمائرهم إن الحي أبقى من الميت، وإن زراعة كوبري يختصر المسافة بين نقطتين أفضل من مقبرة يرقد فيها طه حسين أو غيره”.
ويوضح “في المنطق الهندسي ثمة خطوط متعددة يمكن أن توصل بين نقطتين، حسابات متعددة يفهمها الإنشائيون، النابهون وغير النابهين، هؤلاء يعرفون أن التخطيطات ليست سوى مجموعة من البدائل التي يتم وضعها على أساس أن الأرض ليست فضاء دائما، لكن هناك من لا يرى إلا الخط المستقيم المختصر الأوحد، هو لا يقيم وزنا لكل ما لا يحتاجه هو، بمنطقه الضيق الأحادي قليل الحيلة، وبأوامره التي يعرف كيف يحميها بالقوة المفرطة”.
جمال القصاص: المقابر التاريخية تحف معمارية نادرة إزالتها جريمة
وتابع “الأنظمة التي تحترم الناس، أحياء وأمواتا، توظف رجالا يمتلكون الخيال الذي يساعدهم على إيجاد بدائل قريبة جدا من التصور الأول المراد تنفيذه، وتوظف نابهين آخرين يرممون المقابر -خصوصا التي يرقد فيها أفذاذ أمثال طه حسين والعقاد ويحيى حقي- ويحولونها إلى مزارات للسياحة الداخلية والخارجية، ليتباهوا بأفذاذهم بين الأمم، هؤلاء الذين يدركون أن الأنظمة الغشيمة ترحل في نهاية المطاف، ويبقى الأفذاذ دائما من أمثال طه حسين والعقاد. لكن آفة هذه الأنظمة أنها توظف من لا يعرفون التاريخ والثقافة والحضارة والحريات والخصوصيات”.
ويؤكد الكاتب والروائي نشأت المصري أن الأماكن لها حضور وشخصية وقدرة على النطق على مدى العصور. الأماكن حياة أخرى للبشر والجماعات. ولا بد أن نحرص عليها حين تتعلق بعالم أو أديب أو شخصية نبيلة أثرت في المجتمع وتاريخه الأدبي أو الفني أو السياسي أو الاقتصادي. الإبقاء على المكان، بل وترميمه وصيانته، إحياء لصاحبه وتذكير به على مدى القرون. كما أنه يقدم قدوة دائما للأجيال المقبلة. وكما يقال الأماكن تتنفس ولها حرمتها النسبية وجلال ذكراها.
ويضيف “الأماكن في الموروث الشعبي والأهازيج الشعبية لها أهمية وشجون. حتى في القرى نجد أثرا أو مسجدا صغيرا أو ضريحا لأحد رجال القرية الأخيار يحاط بالرعاية والتوقير، كميراث ثقافي، فما بالنا بمقابر تخص أعلام الأمة. يمكن أن تصبح مزارا مهما يضيف لسمعتنا الثقافية ويتحول إلى مزار سياحي له حصاده الاقتصادي.
ويذكر مثلا واحدا يخص أرثر رامبو الشاعر الفرنسي الأشهر، فرغم مرور عقود طويلة على وفاته تحاط مقبرته بهالة من الاعتزاز والفخر حتى أن رجلا بتشجيع من الدولة أقام مقرا مجاورا للمقبرة يتلقى خطابات المعجبين بأشعار رامبو وتهانيهم لروحه في مناسباته المعروفة. ويتلقى هذا المكان عددا زاخرا من الخطابات كل عام. ويقوم الرجل المحب لرامبو بالرد على هذه الرسائل نيابة عن رامبو. لا بد أن تحترم الدولة هذه الأماكن التي تحيي ذاكرة الوطن وعطاء الأمة، فالوطن بلا ذاكرة ليس وطنا.
سمير درويش: يمكن تحويل المقابر إلى مزارات للسياحة الداخلية والخارجية
ذاكرة الوطن
يرى الباحث في شؤون الإسلام السياسي حسام الحداد أن إزالة المقابر التاريخية في مصر تتم أحيانا بسبب عوامل مختلفة مثل الإهمال والتلوث والتآكل، ولكن الآن تتم إزالتها بسبب المشاركة في مشاريع البناء الحديثة أو التوسع العمراني في المناطق المجاورة للمواقع الأثرية، الأمر الذي يشكل خسارة فادحة لتراث البلاد الثقافي والتاريخي، ويؤثر بشكل سلبي على السياحة والاقتصاد المحلي.
ويشدد على أنه من المفترض أن تهتم الحكومة المصرية بحماية المواقع الأثرية والتاريخية في البلاد، وتعمل على تطوير إستراتيجيات للحفاظ عليها وإعادة تأهيلها وترميمها وفتحها للزوار، وذلك من خلال التعاون مع المنظمات الدولية والمحلية المختصة في هذا المجال وليس هدمها لتوسعة طريق أو ما شابه.
ويتابع قائلا إن “إزالة المقابر التاريخية في مصر قد تؤدي إلى آثار سلبية عديدة، من بينها: أولا يتمثل التراث الثقافي والتاريخي في المقابر التاريخية بمصر في إرث ثقافي وتاريخي ثمين، وبالتالي فقدانه يؤثر على هوية البلاد وتاريخها ويفقدها جزءا من تاريخها العريق. وثانيا تعتبر المقابر التاريخية في مصر أحد أهم المعالم السياحية في البلاد، وبالتالي تؤثر إزالتها على السياحة بشكل كبير، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع عدد السياح الزائرين لمصر وتأثير سلبي على الاقتصاد المحلي”.
ويضيف “ثالثا تعتبر المقابر التاريخية مصادر هامة للأبحاث الأثرية والتاريخية، وإزالتها تؤدي إلى فقدان هذه المصادر ويتعذر على الباحثين الوصول إليها ودراسة تفاصيلها ومعرفة المزيد عن تاريخ مصر العريق. ومن الممكن أن تؤدي إزالة المقابر التاريخية في مصر إلى تدمير البيئة الطبيعية المحيطة بها، مثل إزالة الأشجار والنباتات وتخريب التضاريس، وهذا يؤثر على البيئة والحياة البرية المحلية ويؤدي إلى تخريب الطبيعة. وأخيرا عندما تتم إزالة المقابر التاريخية في مصر من دون موافقة السكان المحليين أو دون تعويضات ملائمة لهم، فهذا يشكل انتهاكا لحقوقهم ويؤثر على معيشتهم والعلاقات بينهم وبين الحكومة”.
نشأت المصري: يجب تحويل المقابر إلى مزار مهم يضيف لسمعتنا الثقافية
ويشدد الروائي عمر صوفي على أن للمقابر مكانة جليلة في نفوس المصريين على مدى آلاف السنين، ومعظم ما تبقى لنا من آثار مصر القديمة عبارة عن مقابر، وما الأهرامات ووادي الملوك والملكات إلا شواهد خالدة على هذه المكانة الوجدانية المقدسة. بل يحرص المصري أحيانا على بناء قبره قبل منزله، وعلى دفن ذويه في موطنه حتى لو وافاهم الأجل خارج مصر”.
ويتابع “من ثم فإن هدم مقابر ذات قيمة تاريخية وتراثية أو لشخصيات وطنية أو ثقافية مؤثرة، هو اعتداء على ذاكرة أمة وصميم وجدانها، إذ تحرص الدول على تكريم عظمائها في مقابر تليق بمكانتهم مثل مقابر وستمنستر آبي، وهايجيت في بريطانيا، لا أن تقوم بتجريفها وبعضها يعود إلى بداية دخول الإسلام مصر، مثلما حدث مع مقابر العز بن عبدالسلام ويحيى حقي وأحمد لطفي السيد والبارودي وغيرهم. إن عملية التطوير مطلوبة وإزالة العشوائيات الخطرة في المساكن والمقابر ضرورية، لكن يجب إحداث توازن بين التحديث والحفاظ على الموروثات التاريخية ذات الدلالة الأثرية والثقافية والوجدانية المهمة ومنها المقابر التاريخية”.
ويعلن الروائي محمد الشاذلي أنه ضد هدم المقابر التاريخية. ويضيف “هي جزء أساسي من ذاكرة الوطن. وهي بشكل أو بآخر واحدة من القوى الناعمة. ولكن توجد إشكاليات عدة: أولاها تحديد صفة ‘تاريخية’ وليست كل المقابر تاريخية. والحوار العام بين الفعاليات الثقافية، وهو لم يجر أبدا، كان بوسعه، وربما مازال بوسعه، تحديد صفة التاريخية للمقابر المقصودة”.
ويقول “هناك إشكالية أخرى خاصة بالتحديث وإعادة التنظيم، وهي شائكة وشديدة التعقيد، والسؤال الذي كان ينبغي الإجابة عليه ابتداء هو: كيف تُمكن المواءمة بين التخطيط والتطوير العمراني والحفاظ في نفس الوقت على المقابر التاريخية والمقامات وتعظيم عوائدها الوجدانية والثقافية، وإدخالها في نطاق التنمية الثقافية والمتحفية، بما يحمله من مردود ربحي مستدام؟”.
ويتابع “لقد كان يمكن لأستاذة العمران تقديم اقتراحات في هذا الشأن، الذي نلاحظه هو التنصل اليومي من عبء المسؤولية، وعند كل صراخ ترد محافظة القاهرة بالنفي. لدينا إشكالية أخرى في إدارة ملف الرأي العام، حيث يكون خارج الحسبان، وعندما يحتج الرأي العام بوسائله، يتحرك المسؤولون بالرد والتوضيح. هذه أزمة عدم ثقة متبادلة تخلق بانتظام فجوة معرفية وتحول جماليات وأفكارا إلى قلب العمل السياسي بتعقيداته ومراميه. وربما لم ينته الوقت بعد للعودة إلى حوار مجتمعي حول هذه القضية الخطيرة”.
محمد الحمامصي – كاتب مصري / العرب اللندنية