انتهت القمة الأفريقية المصغرة التي عُقدت مؤخرا تحت رعاية جنوب أفريقيا فى اطار المساعى لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الثلاث مصر و السودان و أثيوبيا بخصوص قواعد ملء و تشغيل سد النهضة إلى مجرد وعود بإستنئاف المفاوضات دون التوصل الى اتفاق مٌلزم بهذا الشأن
عقب ذلك تصريح وزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندارجاشيو بإتمام بلاده المرحلة الأولى من ملء خزان السد، مشيرا أن نهر النيل أصبح بحيرة أثيوبية و أنه لا تراجع عن حق أثيوبيا فى التنمية فى إشارة جديدة لعرقلة المفاوضات و ربما انتهائها دون نتائج مرضية لدولتى المصب. تعثر مفاوضات سد النهضة ليس أمرًا جديدًا، فتاريخ مفاوضات السد مليء بالعثرات بل أن العلاقات الثنائية بين أثيوبيا كدولة منبع ومصر كدولة مصب شهدت توترا مكتوما حينا ومعلنا أحيانا أخرى على امتداد العقود الماضية.فبينما تؤكد مصر على حقوقها المكتسبة في مياه النيل من خلال الاتفاقيات التي تحفظ نصيب مصر في مياه النيل ,أعلنت أثيوبيا رفضها الدائم لأتفاقية 1929 واتفاقية 1959 في جميع عهودها السياسية
وفى عام 2010 وقعت أثيوبيا على اتفاقية عنتيبى والتي تنص على عدم الإعتراف بحصة مصر والسودان التاريخية في مياه النهر ( تقليل حصة مصر من 55.5 الى 40 مليار متر مكعب سنويا) .وفى ابريل 2014 أعلنت اثيوبيا انطلاق بناء سد النهضة بمواصفات فنية مغايرة تماما عن تلك التي كانت تتفاوض بشأنها مع مصر والسودان قبل يناير 2011، أهمها رفع سعة السد التخزينية للسد من 14 الى 74 مليار متر مكعب من المياه ، دون أن تخطر مصر بحقيقة الدراسات الفنية المتعلقة بالسد، مخالفة بذلك مقتضيات مبدأ الإخطار المسبق عند إقامة المشروعات المائية على الأنهار الدولية، مستغلة في ذلك حالة الاضطراب داخل مصر نتيجة لتبعات ثورة 25 يناير، مما يشكل في حقيقته انتهاكا جسيما لمبادئ حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية، وأيضا مبدأ عدم الإضرار.
وفى مايو 2017 اندلع الخلاف بين الدول الثلاث حول الدراسات الفنية الخاصة بالسد, مع انتشار المزاعم بأن أثيوبيا سوف تقوم بملء خزانات السد خلال 3 أعوام بدلا من 7 أعوام بما يتعارض مع اعلان المبادئ الذى تم إعلانه بين مصر وأثيوبيا والسودان في يوليو 2015 وهو مبدأ الحق بالإنتفاع بمياه النهر دون التسبب في الضرر الجسيم للدول المشاطئة الأخرى. وتبدو مخاوف مصر في محلها حيث أن الإصرار على ملء السد بهذه السرعة سيعرض الأمن المائى لمصر لمخاطر جسام مع الأخذ في الإعتبار وجود مصر تحت خط الفقر المائى المحدد علميا وعالميا ب “1000 متر مكعب” حيث أن نصيب الفرد حاليا حوالى “650 متر مكعب”. و استمرت الخلافات حول التقارير الفنية و قواعد ملء و تشغيل السد الى الآن
والواقع أن الغياب المصرى عن أفريقيا كان له تأثير سلبى واضح على مواقف وتوجهات بعض الدول المؤثرة في ملف مياه النيل وخصوصا السودان. ففي أواخر عهد الرئيس مبارك تم اهمال افريقيا لصالح قضايا فلسطين والعراق ولبنان بينما تصاعد الدور الأثيوبى سياسيا من خلال الوساطة في الأزمتين السياسيتين في كينيا و زيمبابوي عقب الانتخابات الرئاسية في البلدين في 2007-2008. كذلك لعبت أثيوبيا دورا إيجابيا في النزاع الحدودى بين شمال وجنوب السودان على منطقة أبيى الغنية بالنفظ من خلال ارسال قوات حفظ السلام الأثيوبية كحل مؤقت حتى قيام استفتاء أبيى.وتعاظم الدور الأثيوبى في أفريقيا أكثر من خلال التدخل العسكرى لمكافحة الأرهاب في الصومال من 2006 إلى 2009 ثم ارسال قوات حفظ السلام في 2014
وكذلك لعبت دول أفريقية أخرى دورا فعالا في القارة على حساب تهميش الدور المصرى – الوساطة اللبية ثم الوساطة النيجيرية في أزمة درافور مثالا. ويمكن استجلاء التحول الواضح في موقف أفريقيا من القاهرة خلال عقد مقارنة بين عامي 1995 -حيث وقعت 27 دولة افريقية على بيان يدين السودان ويتهمها بتدبير محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا- وعام 2013 حيث قرر مجلس الأمن والسلم الإفريقيين تعليق عضوية مصر في الإتحاد الأفريقي قبل أن يُلغى التجميد في 2014.عطفا على تراجع الدور المصرى وصعود الدور الأثيوبى في القارة, يشير المراقبون الى ضلوع إسرائيل في تصعيد أزمة السد واللعب بورقة مياه النيل مما يهدد الأمن المائى في مصر
وفى هذا الإطار قامت إسرائيل بدعم متمردي جنوب السودان وتعميق الفجوة بين الأطراف المتحاربة من أجل تقسيم السودان مما ساهم في زعزعة الأمن والإستقرار في العمق الأستراتيجى لمصر وانشغال السودان بهموهما الداخلية. وفعليا قامت إسرائيل بالمشاركة في انشاء 25 سدا من أصل 37 قامت أثيوبيا بتنفيذها في الفترة من نوفمبر 1989 حتى فبراير 1990. وقد أسندت الحكومة الإثيوبية إلى إحدى الشركات الإسرائيلية مهمة إدارة و توزيع و نقل الكهرباء المتوقع توليدها من سد النهضة الجاري تنفيذه الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل من أكثر الأطراف دعما و استفادة من انشاء السد
علاوة على ذلك تدعم تركيا بناء سد النهضة للضغط على مصر و يمكن القول أن أثيوبيا تستلهم القواعد والأسس التى قامت عليها السياسات المائية التركية إزاء نهرى دجلة والفرات خصوصا سد اليسو الذي تم افتتاحه عام 2018. و بذلك تجاهلت السياسات المائية التركية الإتفاقات الثنائية الدولية التى تتعلق بالأنهار أو إتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 حول الإستخدام غير الملاحى للأنهار, مٌحولة نهرى دجلة و الفرات إلى أنهار وطنية و ليست أنهارا دولية. الأمر الذى ترتب عليه إضرار بمصالح العراق المائية فى نهر دجلة وتقليل حصته إلى 9.7 مليار م3 أى ما يشكل 47% من حصة العراق المائية قبل بناء السد وما ترتب على ذلك من آثار خطيرة انسانيا و اقتصاديا.يمكن القول بأن أزمة سد النهضة تعكس تفاعلات السياسة الأقليمية والدولية على امتداد العقود الماضية حيث تراجعت قدرة مصر على التأثير فى محيطها الأفريقي و بزغ دور فاعليين أقليمين أخر مثل تركيا اسرائيل
كما تكشف أزمة السد عن تخبط القرار السياسي وعدم تبلور رأي حاسم تجاهه -و خصوصا إبان ثورة 25 يناير- والذى أحسنت أثيوبيا استغلاله عن طريق جر مصر الى مائدة المفاوضات مما أكسب بناء السد شرعية أفتقدها سابقا.مؤخرا أقدمت مصر على خطوة اللجوء إلى مجلس الأمن – و إن تأخرت هذه الخطوة- بغية تدويل القضية و حشد الدعم الأفريقى و الدولى فى ظل تعنت و مماطلة الطرف الأثيوبى و خصوصا فيما يتعلق بقواعد ملء السد و تشغيله. نأمل أن تعدل أثيوبيا عن تعنتها وأن تنخرط ايجابيا فى المفاوضات وألا نعود مرة أخرى لمجلس الأمن و قد تعقدت الأمور و ضاعت فرصة الحل السلمى و هذا ما لانريده جميعا.
د. عزيزة عبد العزيز منير – كاتبة مصرية