لم ينجح أبو القاسم الشابي في نشر ديوانه “أغاني الحياة” وهو على قيد الحياة، ولم ينجح إلا في نشر كتابه “الخيال الشعري عند العرب” الذي تعرض بسببه لشتى أنواع النقد والهجوم، فظل يكابد من أجل أن يطبع ديوانه لكن المنية وافته ولم يظهر الديوان إلا سنة 1955.
ولم يكن الديوان كاملا، فقد أعيد نشره سنة 1966، وظلت الطبعات كل مرة تضيف إليه قصائد جديدة مكتشفة هنا وهناك حتى نشرت الأعمال الكاملة سنة 1994، وحسبنا أن أمر تجميع النصوص قد انتهى وحسم الأمر في تراث الشابي المخطوط، قبل أن تخرج علينا جمعية “الشابي والتنمية الثقافية والاجتماعية” أواخر العام الماضي بمجلد مهم في 250 صفحة تحت عنوان “ظلال النخيل.. نصوص شعرية ونثرية ورسائل تنشر لأول مرة”، وقدم لها وحققها الدكتور علي الشابي.
أصل الوثائق
يقول المحقق الدكتور علي الشابي في مقدمته للكتاب “في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 خصني الصديق الأستاذ جلال الشابي ابن شاعرنا الفذ أبو القاسم الشابي بالاطلاع على وثائق والده الحافلة بالبدائع مما نشر منها وما لم ينشر، فعكفت على دراستها وأمعنت في أمرها، فجمعت ما لم ينشر من أدبه شعرا ونثرا فنيا ورسائل منه وإليه”.
ويذكر المحقق أنه وجد صعوبة في تحقيقها، وقد مر على تلك النصوص التي كتبها الشابي بقلم الرصاص ما يقارب الـ90 سنة.
ويعتبر الباحث المحقق أن “هذه النصوص إضافة حقيقية يجد فيها دارسو الشابي طلبتهم، ففيها من إشراق لغته ومذهب أخيلته وبديع صوره ووقد أحزانه ومؤتلق وطنيته ما لا يدانى”، وهكذا يعود صوت الشابي يشدو بعد أكثر من 86 سنة.
والحق أن المشهد التونسي بمؤسساته الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني يسعى منذ سنوات إلى التنقيب عن الذخائر المختفية والمنسية لمؤسسي حداثة الثقافة التونسية، خاصة منهم أدباء ومفكري الثلاثينيات.
وقد سبق لمؤسسة بيت الحكمة أن أطلقت مخطوطا مجهولا للمؤلف التونسي طاهر حداد “الجمود والتجديد في قوتهما”، غير أن الشابي لم يكن شاعر “محليا أو إقليميا” كما يقول المحقق “إنما شاعر عالمي متفرد في فنه يخاطب الإنسان أيا كان وفي أي زمان وفي أي مكان”، لذلك جاء الكتاب تحت اسم “أبو القاسم الشابي شاعر الإنسانية”.
لماذا اختار “ظلال النخيل” عنوانا؟
يثبت المحقق أنه اختار هذا العنوان لأسباب عدة، أبرزها بيت الشابي:
وذهبت للنهر الحزين وفوقه هجعت على حزن ظلال نخيل
ويستحضر أيضا أن ظلال النخيل كانت مهرب الشابي ابن مدينة توزر الجنوبية الصحراوية، وكثيرا ما كان يهرع إلى ظلال النخيل بالواحات منقطعا عن البشر والعالم الصغير ليطلق عنان أفكاره وخياله الإنساني الرحب، حتى أن صديقه الشاعر مصطفى خريف -كما يثبت الأكاديمي التونسي علي الشابي سليل عائلة الشابي- كتب له رسالة بتاريخ 14 فبراير/شباط 1931 يقول فيها “كيف يمكنني أن أحادث صديقي أبا القاسم الهادئ الوادع تحت حفيف الجريد الحالم وعلى ضفاف الينابيع المنسكبة على الرمال نقية كالطهر، هانئة كالطفولة”.
ويورد المحقق أمثلة أخرى على تعلق الشابي بالنخيل وظلاله من رسائل أدباء عصره ونقاده، من محمد الحليوي إلى محمد البشروش، ومن شعره ونثره.
وينهي المحقق تقديمه بوصف الشابي بأنه شاعر الإنسانية وأعظم شاعر عرفته تونس في تاريخها منذ الفتح الإسلامي.
كتاب “ظلال النخيل”
ينقسم الكتاب إلى أقسام، أولهما تحت عنوان” الجديد في أدب الشابي”، وفيه أشعاره التي لم تنشر من قبل، وهي قصائد كثيرة، وقسم آخر للنثر من مقالات وخواطر في الأسلوب وفي مفهوم الشعر ونصوص في تأبين أصدقائه، وقسم لرسائل الشابي والرسائل التي أرسلت إليه.
وينتهي الكتاب بملاحق هي وثائق بين رثاء أقاربه أو التهاني التي وصلته بمناسبة زفافه، وصور له ولعائلته.
ويحصي المحقق ما يعادل 22 نصا بين النثر والنثر الفني، و25 نصا شعريا موزعة بين الوطنية والحكمة والطبيعة والغزل والرثاء وأشواق صوفية ورومانسية، و28 رسالة.
وتتفاوت النصوص الشعرية في طولها، أدناها بيت واحد وأطولها 24 بيتا، متنوعة الأغراض والمواضيع كما أشرنا.
وبسبب عدم تأريخ الشابي لنصوصه، فقد اجتهد المحقق في التعرف إلى فترات كتابة النصوص، فترات ما قبل فقدان والده، أي قبل 1929 “حين كان ينعم الشاعر في كنف والده برغد العيش وهناء البال”، وما بعد ذلك التاريخ الفاصل الذي توفي فيه والده واستفحل به مرض تضخم القلب، وهي فترة التشاؤم والحزن والبحث عن الخلاص، ويقول المحقق “لم يعد يفكر إلا في الخلاص الصوفي، إن بالموت الاعتباري أو بالموت الحقيقي”.
ويقول في قصيدة تنشر لأول مرة في هذا الكتاب:
“أنا قيثارة من العصب المشدود يجري الأسى عليها غناءه
في جنون تكاد تحترق الأعصاب في ناره فتمسي هباءة
ثائر الروح كالرياح عنيفا وهو يلقي على القبور رثاءه
كلهيب الجحيم أربد مشبوب الأغاني صباحه ومساءه”.
ويؤكد الدكتور علي الشابي في دراسته للقصائد الجديدة المكتشفة تأثر الشابي بالمذهب الصوفي في الفكر واللغة والصورة الفنية، خاصة في تصوره مفهوم الحب والنفس وقصة الحلول بالجسد كرها، فيبدو -حسب رأي المحقق- أن الشابي متأثر بالسهرودي وابن عربي وجلال الدين الرومي، كما “تأثر بالرمز الغزلي الخمري الذي اعتمدوه في الحب الإلهي، وذلك بالنهل منه في غزله الإنساني.
وبشأن الهبوط والعروج، فإن هذا المبدأ مرتبط أساسا بالخلاص الصوفي، إن بالموت الاعتباري أو الموت الحقيقي، ويمثل لذلك بما وجده من قصائد جديدة تسند ما ظهر من ذلك التأثر في ديوان “أغاني الحياة”.
يقول الشابي في قصيدته المكتشفة حديثا “أيها القلب”:
“أيها القلب، إن في الأفق الأعلى جمال الرؤى وسحر الوجود
في رحاب السماء ترتعش الأحلام سكرى بسحرها الممدود
وترف الطيور والنور والألحان مسحورة وعطر الورود
وعلى الأرض يزحف الحزن والآلام والموت في جوار اللحود”.
أما قصائده الوطنية فقد ظل الشابي كما عهدناه في “أغاني الحياة” ساخطا على شعبه الخامل مستفزا له ناقدا، فيقول في قصيدته المكتشفة في هذا الكتاب “يا أمه دفن الزمان فؤادها”:
“وقفت في الشعب المخدر هاتفا في ظلمة الليل الكئيب الكابي
هبوا إلى دنيا النضال فإنها أمل الحياة ومكمن الأرباب
فتشت عن لهب الحياة فلم أجد حولي سوى رمم الرماد الخابي
فنفضت من قومي يدي ومهجتي ودفنت آمالي لغير مآب
وهتفت في صوت كئيب خائب متقطع كالعارض المنجاب
يا أمة دفن الزمان فؤادها ومشى بما حملت إلى الأعقاب
ويزداد سخطه على شعبه الخامل والراضي بالمستعمر والهوان”.
ويصرخ فيهم في قصيدة أخرى بعنوان “بنو أمي”:
“موتوا، فما أنتم بنو أمي ولا أنا منكم
إن أنتم إلا هشيم سوف يجرفه الدم
أنتم غدير هاجع ألف المذلة من دهور
وتعلم الصمت الأصم من المغاور والصخور”.
رسالة بخط يد الشاعر المصري الراحل أحمد زكي أبو شادي لأبي القاسم الشابي (الجزيرة)
نظرة الشابي الفنية ومفهومه للأدب
يتوقف الشابي في نصوصه المكتشفة الجديدة عند أمور فنية كثيرة، لعل أبرزها مسألة الأسلوب، ففي مقطع مكتشف بعنوان “الأسلوب” يفصل الشابي اللغة عن الأسلوب، فيقول “اللغة ملقاة أمام كل غاد ورائح، لكن الفن في الأسلوب لا يظفر له إلا النوابغ الأفذاذ”.
واللغة -حسب رأيه- “ملقاة أمام كل واحد، ولكن ليس كل الناس بمستطيع أن يبعث فيها الحياة، حتى لكأن معانيه لم تخلق لها إلا تلك الكلمات”، ويذكرنا هذا بعبارة الجاحظ “المعاني ملقاة على الطريق”.
إن وعي الشاعر بمسألة الأسلوب في ذلك الوقت هو رد فعل على جماعة الإحياء وأدب المعارضة الشعرية والنحويين وأدب العلماء الذين يرفعون القدرة اللغوية إلى مستوى الركيزة الأساسية للإبداع، فيما يتحدث الشابي دائما عن شيء آخر هو الخيال، ذلك الذي يصنع الأسلوب ويطوع تلك اللغة لتقول أفكارا جديدة وأصيلة.
هكذا يُسقط الشابي عن اللغة قدسيتها ليعلي شأن الأسلوب والخلق الذاتي والتفكير، فاللغة كما يقول “صورة من صور الكون، فيها ما في الطبيعة من موت وحياة، ففي اللغة كلمات يشاهدها المرء تتألق في ثنايا نفسه وتومض وميض النجوم الخاطفة، وبها كلمات يحس المرء أنها تتغنى كأنها الكمنجة حتى ليسمع موسيقاها تتجاوب في أعماق نفسه، وفيها كلمات ناعمة، وأخرى خشنة، وأخرى ذابلة، وأخرى نضرة غضة، وأخرى ساطعة، وأخرى ملفوفة في مثل الضباب، والعبقري في أسلوبه من يعرف كيف يفصل كلماته على قدود معانيه، ذلك هو الأسلوب الحي، وذلك هو الفن في الأسلوب”.
ويخصص الشابي لمفهوم الشعر نصا جميلا وعميقا رابطا إياه بالحياة، فالشعر عنده “يتسع لما تتسع له الحياة، وينقبض عما تنقبض عنه، وأي شيء لا تسعه الحياة؟ إلا إذا كان مما يواجه الهوس وتبدعه أحلام الجنون، فالحياة أقدم من أن تتسفل لما ينحط إليه الضاربون في بيداء الخيال”، ويطيل التنظير في سمو الشعر والارتقاء بالحياة نفسها عبر إدراكه المختلف لها .
وتظهر فلسفة الشابي في نصوص أخرى يقدم فيها مفهومه للحب وللحياة، كما أورد الكتاب آراء الشابي في نقاده وفي نص من نصوصه المكتشفة يقدم ردا على رأيه في حسين الجزيري صاحب جريدة النديم، وكان الشابي ينشر في جريدة أخرى هي “العالم الأدبي”، فصب جام غضبه على الجزيري قائلا:
“أطلعني صديق لي على ما كتبه صاحب ورقة النديم عني وعن قصيدتي “يا موت” التي رثيت بها والدي المنعم المبرور، فعلا الناس يكتبون على جهل وغباوة، ثم ينشرون ما يكتبون للناس بكل تبجح، دون أن تندى لهم صفاة أو يخالج أنفسهم الصلدة شيء من خجل البشر”.
ويرى أن سبب عدم رده عليه يدخل في باب الترفع، فيقول بلهجة حادة “كتب عني هذا الناعق كثيرا، ولم تدفعني نفسي إلى مجاراته لعلمي أنني أدنس قلمي بمجاراته، وإن كنت أعلم أن حسب المرء مع مثل هاته الطائفة من الناس أن يرمى لها عظمة تشتغل بمضغها عن نباحه”.
وكان الجزيري قد اتهم الشابي في قصيدته “النبي المجهول” بأنها مسروقة من “النبي” لجبران خليل جبران، فرد عليه الشابي وكشف جهله وأنه ينقد عن السماع وليس عن القراءة، وأن كل ما في الأمر أنه سمع نبيا هنا ونبيا هناك فأقام حكمه بالسرقة.
ويتساءل بعد ذلك “ومن له هذا المبلغ من الجهل كيف يسوغ لنفسه أن يحدث الناس وينقد الشعراء؟”.
الرسائل من الشابي وإليه
يمثل قسم الرسائل المتبادلة بينه وبين عدد من المثقفين والمبدعين التونسيين والعرب مادة ثرية لمعرفة حياته والتعرف على فنه ورؤيته للحياة والأدب، ووجهها إلى كل من الأدباء مصطفى خريف وأحمد زكي أبو شادي وحسن حسني عبد الوهاب والشاذلي عطاء الله وعبد الخالق البشروش وصالح بن علي بن أحمد العلوي من سنغافورة، وتحدث فيها عن أدبه وعلاقته بالصحف التونسية والشرقية وعن المثقفين وكتاب الطاهر حداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” وما لاقاه من اعتراض.
كما تعكس الردود حياة رفاقه الخاصة والحديث عن واقع الأدباء العرب وأخبارهم كرسالة مصطفى خريف الذي أخبره باعتقال عباس محمود العقاد بسبب نشره في “المؤيد الجديد” مقالات شديدة واتهم بالقذف في شخص ملك مصر، أو رسالته بتاريخ 12 أبريل/نيسان 1931 يخبره فيها بموت جبران خليل جبران يقول:
“إنك إذا كنت قرأت جريدة “الزمان” العدد قبل الماضي فلا شك في أنك اطلعت على الخبر الأسبق المؤلم الذي احتواه، نعم فقد حمل لقرائه خبر موت ذلك النابغة العربي العظيم: جبران! نعم حملت برقيات الأهرام من نيويورك نعيه إلى العالم العربي، وانطلق صدى موته يدوي في الشرق والغرب ليلقي السكينة والخشوع في قلب الإنسانية التي خدمها جبران، ولتجلل معالم الفنان الجميلة بالسواد على فقد جبران ابنها البار”.
رسالة أخرى بخط يد الشاعر المصري الراحل أحمد زكي أبو شادي (الجزيرة)