عل أهم درس يمكن استخلاصه من الكتاب هو الحاجة في المجتمعات العربية لـقوة التفكير المتنوع، واحتواء التطرف، وإرضاء الناس، وتنفيذ القوانين، وصنع الثورة أو التغيير من خلال التطور.
هذا الكتاب من النوع الذي يُقرأ بدءاً من الخاتمة. فهذا يُكسب القارئ فهماً أفضل للكتاب وللموضوع، ذلك أن البدء من الخاتمة يساعد في معرفة الاستخلاصات الرئيسة للكتاب، وفي قراءة واقعية لنص يتناول موضوعات شائكة، وأسئلة كبرى لدى الأمم والشعوب، فلا يرفع القارئُ سقف التوقعات حيال ما يقرأ.
لماذا يزدهر عدد قليل من البلدان في وقت تشيع فيه الاضطرابات والأزمات حول العالم، والتي تتمثل في: “داعش”، واللا مساواة، والخلل السياسي، وانحطاط المؤسسات، والذعر في الأسواق الناشئة، والتدهور الواضح والمهول في أوضاع العالم؟ هل يمكن للدول الأخرى أن تحذو حذوها، وهل أثار نجاحها قابلة للتصدير؟ هل تُقدم قصص نجاحهم، مجتمعة، أي دروس مستفادة؟ (ص 275).
يتناول الكتاب عشر حالات أو أمثلة لاختبار تلك الأسئلة، وكل منها له واقعه، ومشكلاته وتحدياته، وبالطبع اجتهاداته واستجاباته، المتعثرة أو الناجحة. ثمة كلام كثير عن البرازيل وكيف أمكن للرئيس “لولا دا سيلفا” أن “يعيد توزيع الثروة”، بشكل جزئي، الأمر الذي انعكس بشكل كبير نسبياً على التنمية والأمن الاجتماعي (الفصل الأول)، وسياسة الهجرة في كندا وتحول المدارك حولها من التهديد إلى الفرصة (الفصل الثاني)، وسياسة أندونيسيا في احتواء التطرف الديني (الفصل الثالث).
وتجربة التعايش في رواندا بعد حرب الإبادة العرقية (الفصل الرابع). وكيف تغلبت سنغافورة على الفساد (الفصل الخامس). ولعنة الموارد في أفريقيا، وكيف أدارات بوتسوانا تجارة الألماس؟ (الفصل السادس). وثورة الصخر النفطي في الولايات المتحدة (الفصل السابع). والمعجزة الاقتصادية الكورية الجنوبية (الفصل الثامن). وإصلاح العمل الحكومي في المكسيك (الفصل التاسع). ومدينة نيويورك وفن التوصل إلى الحلول البديلة بشأن مكافحة الإرهاب (الفصل العاشر).
غير أن القراءة تركز على عدد من الموضوعات، تعدها أكثر أهمية من غيرها، وذلك من أجل فرد مساحة أكبر نسبياً لعرض ما يبدو أكثر مناسبة وقريباً للقارئ في المنطقة العربية. وفي هذا نوع من التحيّز أرجو أن يكون مناسباً ومفيداً.
يقول الكاتب انه يحاول “التركيز على كيفية عمل الأشياء”، ويتجنب موقفين أو خطين إشكاليين في إجابات الخبراء: الأول هو دعوتهم لنا لفعل شيء ما، وهذا خطاب وعظي نبيل، لكنه لا يوصل إلى شيء. والثاني هو التوصيات، من قبيل: “يجب على المواطنين أن ينهضوا ويطالبوا بالتغيير”. (ص276).
والآن، دعونا نُجْمِل الأفكار الرئيسة حيال تجارب إخفاق، ثم نجاح لافت، لا ينكره أحد تقريباً، في الحالات المذكورة في الكتاب، ولو أن القراءة لا تتبع كل ما يرد في مسار كل تجربة، فهذا لا تستطيعه أي قراءة، ولا يستطيعه أي كتاب، كما أن قراءة التجارب من هذا النوع لا تقدم وصفات جاهزة و”كتالوغات” للتطبيق أو التجريب. المهم هو “خط المعنى” و”خط الخبرة”، و”وعي المشكلة”، و”وعي الاستجابة”.
أساطير الخريف
يقول الكاتب: “سأضمن دروس القيادة والنصائح العملية بشأن حل المشكلات المستخلصة من خبراتهم. وسأقدم في الوقت ذاته حجة للأمل للتغلب على هذا اليأس”. وقصد هذا الكتاب “أن يكون شهادة على قدرة الناس على تحقيق النجاح”. وفي الوقت الذي يعتقد فيه كثيرون أن حكومتنا مهلهلة وعاجزة عن فعل شيء، أريد أن أبيّن كيف يمكن للسياسيين المناسبين التغلب على العقبات الأكثر توريعاً إذا اتبعوا الاستراتيجيات الصحيحة”. (ص 14).
إحدى فرضيات الكتاب: هو أن العالم يغرق في المشكلات، بسبب إخفاق رجال السياسة عن التعامل النشط والفعال معها. يقول: “على الرغم من تباين تفاصيل جميع المشكلات التي تعصف بالعالم حالياً، فإنها تشترك في سبب أساسي وهو فشل السياسيين في القيادة”. (ص19).
إن من عوامل الفوضى والاضطراب التي يشهدها العالم: اللا مساواة، والهجرة، والتطرف الديني [الإسلامي أو الإسلاموي]، والحروب الأهلية، والفساد، و”لعنة الموارد”، والطاقة، وفخ الدخل المتوسط، والعراقيل السياسية؛ وهي عوامل متداخلة فيما بينها، وغالباً ما يكون إحداها سبباً أو منتجاً للآخر. ذلك أن اللا مساواة مثلاً عادة ما تسبب العنف والاضطراب والفوضى والفساد والهجرة والاستقطاب الاجتماعي الخ.
كيف توزع البرازيل ثروتها؟
كانت البرازيل “دولة مرادفة للظلم الاجتماعي المتوحش”، الكثير من الفقر، والتفاوت الحاد في الثروات، والعجز في النمو الاقتصادي الخ لكنها أظهرت مع الرئيس “لولا دا سيلفا”: “أن هناك طريقة أفضل بكثير، وأقل راديكالية، وأكثر ملاءمة للسوق لمحاربة اللا مساواة، وقد طبقت هذه الطريقة ونجحت بالفعل”. (ص47).
خالف الرئيس سيلفا التوقعات التي نظرت إليه نظرة إيديولوجية حادة، وأثارت المخاوف منه. وأدرك سيلفا أنه يجب أن يكون رئيساً لكل البرازيليين، و”هذا يعني إيجاد طريقة للتأكد من أن منافع التحول ستعم على الجميع”. أجرى سيلفا تحولات في المظهر والخطاب والتعبير، وغيّر في الإدارات واختيار الأشخاص، وقَرّب الأشخاص على أساس الكفاءة والأداء.
وقام سيلفا بحملة طموحة للرعاية الاجتماعية، وأسس “صندوق الأسرة”، وقام بمراقبة ومراجعة أثر السياسات، وامتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، والتصحيح، وحقق تقدماً مهماً في مكافحة الفقر واللا مساواة، أدت سياساته إلى ارتفاع الداخل، وتقلص الفجوة في التنمية، وحقق تقدماً في الشفافية ومكافحة الفساد، وتعزيز حكم القانون. وكان لسياسات سيلفا التنموية جاذبية حول العالم، وأخذت دول تنظر في التجربة، وإمكان تطبيقها لديها. (ص 69).
إندونيسيا والتطرف الإسلامي
في ربيع 1998 تحولت إندونيسيا إلى الديمقراطية، ولكنها أثارت مخاوف من انزلاقها إلى الفوضى والعنف الديني والقومي، وبالفعل حدثت اضطرابات دينية، وقُتل كثير من الصينيين وغير المسلمين في أعمال عنف على أساس ديني وعرقي. وانفلت التطرف الديني من عقاله وأخذ يتمدد في أنحاء البلاد، ويقيم المراكز الدينية والمدارس وشبكات الترويج والدعوة، ويعمل للهيمنة على المجتمع والمجال العام.
على الرغم من “نداء التطرف” والأموال التي أنفقت لذلك، إلا أن الشعب لم ينخرط في العنف، وفضَّل العيش في دولة آمنة ومستقرة، صحيح أنه من أكثر الشعوب تمسكاً بنمط العيش والقيم الدينية، على ما يقول الكاتب، إلا أنه لم يمِل بقوة إلى التشدد والتطرف. ومن الأسباب التي ساعدت في احتواء الأحزاب الإسلاموية في إندونيسيا أنها لم تحقق جاذبية أو كفاءة في التعاطي مع الشأن العام، وفيها الكثير من الفساد.
يقول الكاتب: إن “من المفارقات أن الأمة كانت تتحرك أبعد وأبعد عن التطرف الإسلامي، وفي الوقت نفسه يزداد سكانها ورعاً. وهذا التناقض الواضح يمكن أن يربك الزوار، حيث تبدو على السطح مظاهر الإيمان المرئية بشكل متزايد كأنها علامات على وجود المتاعب … بيد أنه بالبحث بعمق أكثر، تكون الصورة أكثر تعقيداً. وفي حين أن العديد من الإندونيسيين يخبرون بالفعل مستطلعي الآراء أنهم يرغبون في الشريعة. وقلة قليلة منهم تدافع عن أن الشريعة الإسلامية يمكن أن تحدث فارقاً فعلياً في صناديق الاقتراع”. (ص 100).
اتبعت اندونيسيا استراتيجية لاحتواء التطرف الديني، تتكون من محاور تتمثل في الآتي: الحريات وتعزيز الديمقراطية الناشئة، والحد من تدخل الجيش في السياسة، واستعارة جزء من خطاب وإيديولوجيا الإسلاميين “ليفسد عليهم الأمر”، (ص105)، والحد من “الفساد والتواطوء والمحسوبية”، (ص 106)، ومكافحة الفقر، وذلك “لتقويض وعد الإسلاميين بتحسين مستويات المعيشة”، (ص 106)، والليونة في معاملة الإسلامويين، وعدم المبالغة في العنف حيال المتطرفين منهم، بمن في ذلك المتورطون في أعمال العنف.
لكن، مع تفجيرات بالي عام 2002، بدأت إندونيسيا بتشديد القبضة الأمنية، وتفكيك الشبكات الإسلاموية المتطرفة، ومكافحة الاتجاهات النازعة للسياسة والعنف. واعتمدت في ذلك على دعم الولايات المتحدة وأوروبا واستراليا.
المصالحة الموجعة في رواندا
في الفترة ما بين نيسان/أبريل وتموز/يوليو 1994 قتلت ميليشيات الهوتو ما يصل إلى مليون شخص من التوتسي، ما يقارب ثلاثة أرباع التوتسي في رواندا. وفيما نجح بول كاجامي الذي كان قائداً للجبهة الوطنية الرواندية في إيقاف الحرب. وبعد مرور ست سنوات كان الرئيس كاجامي (رئيس منذ العام 2000) لا يزال يكافح من أجل “إعادة تشكيل أمة” في رواندا.
كانت البلاد مدمرة تقريباً، قتل وحشي للناس، وقتل الجيران للجيران، وحتى للقرابات العابرة للجماعات. والمشكلة ليس فقط بقتل جزء كبير من السكان، وبجروح الحرب الغائرة في المجتمع فحسب، بل في تدمير شامل للبنى التحتية، والافتقار للرأسمال البشري والخدمات الأساسية أيضاً.
الخطوة الأولى بالنسبة لرواندا في إعادة البناء كانت، ببساطة، إبقاء الناجين على قيد الحياة، والكفاح من أجل إطعام وتوظيف وإيواء ودعم الناجين الذي تعرضوا للأعمال الوحشية (ص 119). لكن الرئيس الجديد واجه “مشكلة أكثر تعقيداً، وهي مشكلة واجهت مناطق صراع سابقة، من بنغلاديش إلى البوسنة، وسوف تواجهها يوماً ما بلدان أخر مثل سوريا وأوكرانيا أيضاً. وتجسدت هذه المشكلة في الكيفية التي يمكن بها دمج النسيج الاجتماعي للأمة في كيان واحد مرة أخرى، وأن تبرأ جراح الحرب، أو على الأقل كِّيها جيداً، حتى تتمكن البلاد من تجنب مزيد من إراقة الدماء” (ص 120).
تعاملت قوات الجبهة الرواندية بقيادة الرئيس كاجامي، أول الأمر، بعنف وقسوة مع المشتبه بهم، بوصفهم جزءاً من عمليات الإبادة، لكنها تحولت عن ذلك فيما بعد. واتبعت طرقاً أقل عنفاً، وفتحت الأبواب أمام التعامل الرحيم وأمام الصفح والتسامح، وتخفيف المخاوف واحتواء نزعة الانتقام، بل إنها عاملت الانتقام “خارج القانون” كما تعامل “الجريمة الأساسية”، وذلك من أجل إيقاف تراجيديا الحرب، واحتواء مصادر عودة الاحتقان من جديد، وتفادياً لدورة جديدة من العنف.
بدا أن حكومة رواندا تتسامح مع الجرائم، وتتعامل بقسوة من الدعوات للاعتراض، وتدفع الأطراف للدخول في حوارات ومحاكمات شعبية وبدائية، خارج القانون الجنائي الرسمي، وهذا مسار طويل، ولكن في نهاية المطاف أخذ المجرمون والمتهمون بالعنف بإعلان التوبة والاعتذار عما صدر منهم.
صحيح أن رواندا كانت بحاجة إلى العدالة، إلا أن المطلوب أكثر من ذلك، وهو “الإبقاء على الأمة”، و”إعادة بنائها”، وأن الانتقام لن يحقق كل ذلك. بل إن المصالحة والصفح والعفو هي – في نظر كاجامي- ما يمكن أن يساعد في تحقيق الأمن والاستقرار. وتضمنت استراتيجية الحكومة أربعة محاور أو تكتيكات هي:
أولاً، السيطرة على حكم رواندا وبناء دولة قوية وحامية وقادرة على فرض إرادتها على كامل البلاد.
ثانياً، إعادة البناء الاقتصادي وبناء المؤسسات، وتعزيز الرأسمال البشري والتعليم والرعاية الصحية ليشمل جميع السكان، وتعزيز الأعمال التجارية وجذب الاستثمار، وأمانة المظالم الوطنية، وقانون الشفافية المالية، ومكافحة الفساد، واللا مركزية الإدارية.
ثالثاً، محاولة إقامة دولة لا تقوم على التمييز العرقي، وحظر الطائفية والتمييز على أساس العرق أو الاثنية، وإزالة جميع الإشارات إلى القبيلة أو الدين في الهوية الشخصية، وتنقية الكتب المدرسية مما يدعو إلى التميّز والعنف، وإعادة رسم خارطة رواندا الإدارية بخلط المناطق المرتبطة تقليدياً بمجموعة أو أخرى. (ص 124-125).
ورابعاً، في العام 2001، استقر كاجامي على منهج قضائي راديكالي جديد للتصدي لآثار الإبادة الجماعية، من خلال سلسلة طويلة من “اجتماعات التفكر” لإيجاد أفضل السبل للمصالحات، وإطلاق سراح المحكومين أو المشتبه بهم في أعمال عنف، لمجرد الاعتراف القانوني والاعتراف أمام الملأ، بما ارتكبوه، وإظهار التوبة والاعتذار العلني عما فعلوه.
ولم يكن الأمر مُرْضياً بالتمام للضحايا، إلا أن سياسات “بناء الأمة” –من منظور كاجامي- اقتضت ذلك، بوصفه السبيل الأنسب لرأب الصدوع ولأم الجراح. لكن إطلاق المتهمين أو المدانين لم يكن سريعاً أو دفعة واحدة، بل كان تدريجياً، واستمرت هذه الآلية أكثر من عشر سنوات. وتعرضت سياسة كاجامي لانتقادات كثيرة، كونها لا تحقق العدالة، لكن القرار السياسي كان حاسماً.
تبدو رواندا اليوم مختلفة بالتمام عما كانت قبل الحرب: بلد جديد وجميل ونظيف وناهض تنموياً ومزدهر اقتصادياً وخدمياً، نابض الحياة، مع بناء جديد في كل مكان. وانتشل أكثر من مليون شخص من تحت خط الفقر، وتضاعف دخل الفرد ثلاث مرات.
في رواندا حكم مستبد، لكنه حريص على توزيع أفضل للثروات، وخلق الفرص، وإذا كان القمع في منع حرية الحديث عن الحرب أو إبداء الرأي بما كان خلالها، فهذا مما تتطلبه سياسات “إعادة البناء”، وسياسات “إبراء الجروح” المجتمعية، وليس الجروح الفردية بالضرورة. إلا أن الديمقراطية والتنمية والدولة القوية هي أفضل وأنجع السبل للحفاظ على الأمة واحتواء أي انزلاق محتمل للانقسام الحاد والحرب.
كيف تتغلب سنغافورة على الفساد؟
كتب “لي كوان يو” بعد سنوات من مشروعه لإصلاح سنفافورة، أن “الحصة أو الرشوة أو البقشيش أو الأموال الجانبية أو أي من الكنايات المحلية، أصبحت طريقة للحياة في آسيا، فالناس يقبلونها علناً باعتبارها جزءاً من ثقافتهم”. (ص 142).
ويضيف “لي”: عادة ما تفشل محاولات تغيير العادات المتأصلة، ومع ذلك فإن محاربة الفساد كانت ضرورية، لأسباب منها: أولاً، أنه (الفساد) أصاب الجزيرة (سنغافورة) بالشلل التام، وأضعفها لدرجة أصبح يهدد وجود الدولة. ثانياً، عدّ “لي” محاربة الفساد عنواناً للعمل السياسي لحزب العمل الشعبي، وأخذ يواجه ويكشف عن فساد السياسيين والأحزاب الأخرى.
وعمد “لي” إلى “إنشاء مكتب مكافحة الفساد، وسلّحه بأطر قانونية وأدوات تتبع وبحث وتقصي تؤهله للعمل بكفاءة عالية. وتم إصدار قوانين وقرارات وتعليمات تضع أي عامل في الخدمة العامة محل تدقيق مستمر للتحقق من عدم ارتكاب أي تجاوزات أو فساد.
شرع “لي” في بناء أمة “مختلفة عن جيرانها: “نظيفة، وأكثر كفاءة، وأكثر أماناً”. (ص144). وكان حكمه متسلطاً ومتشدداً في ذلك، وبشكل أساء لحقوق الإنسان، وكان مجرد الشك كفيلاً بسجن المتهم وإنزال العقوبة به أو على الأقل طرده من العمل من دون تحقق كافٍ. ولكن التشدد ترافَقَ مع وجود فرص للعمل، وكانت الرواتب عالية مقارنة بدول الجوار وكثير من الدول حول العالم، كما أن فرص التعليم والخدمات كانت وفق معايير دولية متقدمة.
إن درس سنفافورة، هو أنه لا سياسات تنمية مع الفساد، مثلما أنه لا معنى للتشدد في قوانين مكافحة الفساد، في ظل ظروف عمل ورواتب سيئة، وأن التنمية ممكنة من دون ديمقراطية، بالمعنى المتعارف عليه، ولو أن التسلط في السياسات والتضييق على بيئة العمل والإنتاج وغيرها، يمكن أن يفضي إلى نتائج جيدة، في حال تمتع فواعل السياسة بروح وطنية عالية، ولم تكن السياسات تتمركز حولهم هم بالذات، ومن أجلهم، لا من أجل أوطانهم.
بوتسوانا: الألماس لا يدوم إلى الأبد
تحيل تجربة بوتسوانا إلى أن الإصلاح السياسي، وتعزيز الديمقراطية والمساءلة وسيادة القانون، هي أمور من شأنها حماية الدولة الناشئة، وأن وفرة المواد الباطنية مثل الألماس (أو النفط والغاز) يتطلب توزيعاً للموارد بشكل متوازن على مناطق وجماعات البلاد، واتخاذ القرارات وصنع السياسات وفق أسس مؤسساتية. وقد مكّن ذلك بوتسوانا من تجنب الاضطرابات والأزمات التي نشأت في فترات الركود العالمي وتراجع تصدير الألماس.
إن تدفق الأموال من بيع الألماس، كان مدخلاً للمزيد من الإنفاق العام، ولكن مع التأكيد على قطاعات العمل والإنتاج وتنويع مصادر الدخل الوطني، والاقتصاد في الإنفاق، وعدم الهدر أو الفساد. ولكن الاستثمار بكثافة في البنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم. (ص71).
يستخلص الكاتب من تجربة بوتسوانا درساً مهماً، سأعرضه في اقتباس طويل نسبياً، يقول: “لا يمكن إصلاح الحكومات الضعيفة، ومن ثم ينبغي تجنّبها ببساطة. لكن هذه إجابة قصيرة الأجل في أحسن الأحوال. وبالنسبة إلى الدول الغنية بالموارد المهتمة حقاً بالنجاح الدائم، سيكون من الأفضل لها أن تحذو حذو بوتسوانا، من حيث بناء حكومة مزودة بسياج صارم. وتتطلب قبولاً واسع النطاق، وتحد من نفوذ أي فرد، وتعاقب أو تهمل المسؤولين الذين يضلون. وإذا نظرنا إلى بوتسوانا من بعيد، فإن نجاحها يمكن أن يبدو غير معقول وغير قابل للتكرار، وهي قصة مكان فريد من نوعه أصبح محظوظاً للغاية. لكن نظرة فاحصة تكشف أن العكس هو الصحيح”، ذلك أن تجربة بوتسوانا يمكن أن تحدث في بلدان أفريقيا الأخرى، وفي غيرها.
عودة إلى اختيارات الكتاب واستخلاصاته
يركز الكتاب على تجارب ناجحة لا شك، لكن من زاوية النجاح في “تدبير الموقف”، وليس “الاحتواء العميق” للمشكلات، أو إحداث تغيير جوهري في النمط أو السياق. ويتحدث الكتاب عن النجاح في قرارات تم اتخاذها في ظل إكراهات شديدة، تدبرها الحكام بقدر من النباهة والحيوية، ولو أن أيا منهم لم يحدث قطيعة مع ما كان قبله، ولا أسس بالتمام لما يجيء بعده. لعلها السياسات الواقعية والبراغماتية التي يمتدحها الكاتب في الخاتمة، كما لو أنها “كلمة السر” في كثير مما حدث.
يرتفع الشعور بالإنجاز والتفرد لدى الكاتب، يقول: “إن كتاباً كهذا، مملوءاً بالقصص حول كيفية حل القادة مشكلات معينة، يعد أيضاً كتاباً عن القيادة وحل المشكلات في حد ذاته”. ومن ثم فهو بتقدير الكتاب ليس موجهاً إلى المسؤولين صناع القرار فحسب، بل هو يتجاوز ذلك بكثير.
إن الإجابة على الأسئلة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة بل هي ممكنة، والكتاب يحتوي على أمثلة كثيرة، ليس فقط لحال السياسة، وإنما للمدراء ورجال المال والأعمال وغيرهم. فإذا كنتَ مستعداً للعمل وأخذ الدروس بالاعتبار، فإن النجاح ممكن أمامك.
وأما الدروس المستخلصة من الكتاب، فهي في نظر الكاتب، على النحو الآتي: 1- قوة التفكير المتنوع؛ 2- احتواء التطرف؛ 3- ارضِ جميعَ الناس في بعض الأوقات؛ 4- أَحْكِم وضعَ الحدود؛ 5- اصنع الثورة من خلال التطور.
الإشارات والتنبيهات
والآن، ماذا في الكتاب، مما يمكن لفواعل السياسة في هذا المشرق الجميل فعله؟ هل يمكن قراءة الكتاب والتجارب التي يحتويها من منظور مشرقي أو عربي أو شرق أوسطي، أو من منظور سوري أو لبناني أو مصري أو تركي أو غيره؟
إن تجارب نجاح الأمم في تجاوز المحن، تبعث عل التفاؤل، لجهة أن ما نحن فيه من إخفاق ليس أبدياً، ويمكن ألا يستمر إلى الأبد، كما تبعث على الإحباط، من أن الأمم تفعل ما يجب فعله، وتتمكن من الخروج مما هي فيه، فيما نخفق نحن. فما الذي ينقصنا مقارنة بغيرنا من الأمم الناجحة؟ هل لديهم قادة مُلهمون ونحن لا؟ هل لديهم فواعل فكر وسياسة نشطون ونحن لا؟
لعل المنطقة العربية من أكثر الأمم التي يظن قادتها أنهم خارقون وملهمون وأنهم “معجزات كبرى”، وأنهم لا مثيل لهم، وأن الأمم إذا حُرِمت من التنمية والديمقراطية والحقوق والحريات، ورُزِقت بهذا النمط من القادة، فكأنما لم تحرم من شيء. وأما عن المثقفين وفواعل السياسة الخوارق، فحدث ولا حرج. وإذاً –ويبدو أننا نكرر هنا- ما الذي وقع بهذه الأمم، وجعلها غير قادرة على تجاوز ما هي فيه؟
وفي الختام، لعل أهم درس يمكن استخلاصه من تجاب المجتمعات والدول التي يعرضها الكتاب، بالنسبة للشعوب العربية والمشرقية هو الحاجة لـ: قوة التفكير المتنوع، واحتواء التطرف، وإرضاء الناس، وإحكام وضعَ الحدود وتنفيذ القوانين، وصنع الثورة أو التغيير من خلال التطور. وهذا يضمن التحول القيمي والديمقراطي في مجتمعات ودول هذا المشرق، ويضع الإنسان والمجتمع في “قلب السياسة”، وليس مجرد “مادة” أو “موضوع” لها،
وما أبعد الشقة!
الكتاب: الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالم يتداعى؟
الكاتب: جوناثان تيبيرمان.
المترجم: أشرف سليمان.
الناشر: الكويت: سلسلة عالم المعرقة، أيار/مايو 2022. 345 صفحة.
عقيل سعيد محفوض – أكاديمي وباحث سوري / الميادين نت