فيروس كورونا: كيف تستفيد نيوزيلندا من عودة العقول المهاجرة بعد تفشي الوباء؟

في الأيام التالية لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منتصف مارس/آذار الماضي عن الخطط الخاصة بإغلاق حدود الولايات المتحدة جراء تفشي وباء كورونا، وبالتزامن مع بدء سلطات مدينة نيويورك تطبيق إجراءات إغلاق كامل ستستمر عدة شهور للسبب نفسه، غادرت الفتاة النيوزيلندية هانا رييد (27 عاما) المدينة الأمريكية عائدة إلى وطنها.

وبذلك قطعت رييد دراستها كطالبة للدراسات العليا في جامعة كولومبيا التي يرتادها الصفوة في نيويورك في مسعى من جانبها لتأهيل نفسها لخوض غمار مجال المحاماة الذي تحتدم المنافسة بشدة بين العاملين فيه في هذه المدينة.
تقول رييد في هذا إن تطورا بحجم وباء كورونا، يجعل المرء يرى الكثير من الأمور من منظور صحيح ومختلف، “ليبدو له فجأة أن تقاضي راتبًا سنويا يبلغ 200 ألف دولار مقابل العمل لحساب شركة محاماة بنيويورك، أمر غير جذاب أو برّاق بالقدر الكافي، إذا ما وضعت في الحسبان المخاطر الصحية وإجراءات الإغلاق” المترتبة على تفشي الوباء.
الآن، استأنفت الفتاة عملها القديم، في إحدى شركات المحاماة بمدينة أوكلاند النيوزيلندية. وتقول إن الطريقة التي تعاملت بها السلطات الأمريكية مع كورونا، والأثر الذي خلّفه الوباء في نيويورك “لم يؤديا سوى إلى تعزيز الطريقة التي فكرت من خلالها في هذا الأمر، كما جعلني ذلك أشعر بالسعادة والارتياح حيال القرار الذي اتخذته في هذا الشأن”.
وتضيف بالقول: “إن كنت بصدد استخدام مفردة واحدة لوصف (ما ترتب على) عودتي إلى نيوزيلندا، فستتمثل في وصفي لذلك بأنه جلب إليّ الشعور بـالراحة”.
على أي حال، ليست هانا رييد وحدها على هذا المضمار، فالنيوزيلنديون في شتى بقاع العالم، يعودون في الوقت الحالي إلى وطنهم للإقامة فيه، بدلا من أن يترقبوا الوباء ويواجهونه، وهم على أرض أجنبية في ما وراء البحار.
وقد تشجع الكثيرون منهم على الإقدام على هذه الخطوة بفعل نجاح السلطات في بلادهم في القضاء على الوباء بالكامل تقريبا إذ يرغب هؤلاء في أن ينعموا بملاذ آمن لا تشكل كمامات الوجه وغيرها من التدابير الاحترازية جزءا من ملامح الحياة العادية فيه.
فضلا عن ذلك، توافرت عوامل أخرى للنيوزيلنديين، دفعتهم إلى حزم أمتعتهم وتصفية أنشطتهم في الخارج والعودة إلى الوطن، من قبيل ما عانى منه بعضهم في بلدان المهجر من فقدان للوظائف بجانب ما شهده العالم من فرض قيود على السفر.
وتفيد التقديرات بأن نحو 50 ألف نيوزيلندي عادوا إلى وطنهم منذ بداية العام الجاري. ويعتزم الكثيرون منهم -مثل رييد- البقاء في نيوزيلندا، والتخلي عن وظائفهم خارجها. لكن بول سبونلي، عالم الاجتماع في جامعة ماسي بمدينة أوكلاند، يقول إنه يصعب في هذه المرحلة توقُّع عدد النيوزيلنديين المغتربين الآخرين، الذين سيسيرون على هذا الدرب بدورهم، في الفترة المقبلة.
ويتوقع سبونلي أن يصل عدد هؤلاء إلى مئة ألف شخص، وهو ما يوازي 10 في المئة من عدد النيوزيلنديين المقيمين في الخارج. ويشير إلى أن العدد الدقيق لأولئك الأشخاص سيتحدد بناء على فترة استمرار تفشي الوباء والأزمة الاقتصادية المترتبة عليه.
ويوضح سبونلي رؤيته في هذا الصدد بالقول: “إذا استمر ذلك لأكثر من مجرد بضعة أشهر، سيزيد عدد العائدين بكل تأكيد”.
ومن هذا المنطلق، صارت نيوزيلندا بإزاء فرصة فريدة من نوعها. فلا توجد دولة أخرى في العالم، تشهد هجرة عكسية يتسبب فيها تفشي كورونا، كما يحدث في هذا البلد.
وتنعم نيوزيلندا بهذه الظاهرة بفعل مزيج خاص يتألف من أسلوبها الفعّال في التعامل مع الوباء من جهة والعدد الكبير لمغتربيها من جهة أخرى. فهذا البلد يحتل المركز الثاني بعد إيرلندا، على قائمة أكثر الدول الأعضاء في منظمة “التعاون الاقتصادي والتنمية”، من حيث عدد المغتربين.
ويتراوح ذلك العدد ما بين 600 ألف ومليون نيوزيلندي مقارنة بخمسة ملايين تقريبا من مواطنيهم يعيشون داخل البلاد.
وبينما يفضل الكثير من النيوزيلنديين التوجه إلى أستراليا عبر بحر تسمان الفاصل بين البلدين للاستفادة من قدرتهم على العمل هناك دون الحاجة إلى الحصول على تأشيرة خاصة بذلك، يتدفق آخرون على المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، أو المناطق التي تستقطب أعدادا كبيرة من المغتربين مثل دبي وسنغافورة، سعيا للحصول على وظائف ذات رواتب مجزية.
عدد كبير من النيوزيلنديين -مثل مشجعي لعبة الرغبي الذين يظهرون في الصورة في لندن- يتوجه إلى خارج بلاده للعمل في العواصم والمدن الكبرى حول العالم
ورغم أن تاريخ نيوزيلندا يحفل بأوقات استقبل فيها هذا البلد الكثير من مواطنيه العائدين إليه بعد فترة عمل ناجحة في الخارج، وذلك إمّا للاستقرار في أراضيه أو لتكوين أسرة، لم يحدث من قبل أن اختارت هذه الأعداد الهائلة من النيوزيلنديين العودة إلى الديار في وقت واحد كما يجري الآن.

ولم يسبق أيضا أن أصبحت نيوزيلندا في عيون أبنائها أكثر جاذبية من بقاع ومدن كبرى في العالم مثل لندن ونيويورك وهونغ كونغ وغيرها كما هي في الوقت الحاضر.

“تبادل عقول” جديد من نوعه

على أية حال، كانت هجرة النيوزيلنديين المؤهلين جيدا بشكل مستمر للعمل خارج بلادهم تُعرف في الماضي بـ “هجرة الأدمغة”. أما الآن، فقد بات المصطلح الأكثر شيوعا الذي يُطلق على هذه الظاهرة هو “تبادل العقول”، وذلك في ضوء أن هناك مهاجرين مهرة يأتون إلى نيوزيلندا من مختلف أنحاء العالم للحلول مكان مَن يغادرونها للعمل خارجها.
وبينما يبلغ صافي الهجرة السنوية للنيوزيلانديين قرابة 56 ألف شخص، شهد العام الماضي مولد 27 في المئة من مواطنيها خارج أراضيها.
لكن خبيرة الاقتصاد جولي فراي تقول إن هذه الموجة الجديدة من النيوزيلنديين العائدين إلى بلادهم “تبدو كما لو كانت شكلا مختلفا من أشكال تبادل العقول”.
وتشير فراي، وهي مؤلفة كتاب “حيوات أفضل: الهجرة والرفاهية ونيوزيلندا”، إلى أن النيوزيلنديين “الذين طوّروا مهاراتهم، وشكلّوا شبكات وعلاقات اجتماعية في الخارج، باتوا يعودون الآن لكي يفيدوا بلادهم”.
وترى أن هذه الهجرة العكسية تشكّل فرصة عظيمة، لمدّ الأواصر بين نيوزيلندا وباقي دول العالم، وذلك بالنظر إلى أن بمقدور هؤلاء العائدين إفادة مواطنيهم بما تعلموه في الخارج. كما أنّ بوسعهم أن يصبحوا موجهين ومرشدين للآخرين ممن ظلوا داخل الوطن.
هذا فضلا عن قدرة المغتربين السابقين، على أن يسارعوا بمجرد عودتهم للبلاد إلى ضّخ خبراتهم التي اكتسبوها من عملهم في أنحاء مختلفة من العالم في شرايين السوق المحلية.
وهنا يقول سبونلي: “سنصبح (كـنيوزيلنديين) أفضل بكل تأكيد لأن هؤلاء الأشخاص سيعودون إلى الديار رغم أن كثيرين منهم كانوا سيبقون -في الأحوال العادية- في الخارج، إلى الأبد ربما”. ولكن في هذه المرحلة المبكرة، من العسير توقع عدد النيوزيلنديين الذين سيغادرون بلادهم من جديد، للعمل في خارجها.
وقد نُسِبَ لكثير من العائدين -مثل رييد- قولهم إنه لا نية لديهم في السفر للعمل في الخارج من جديد، حتى بعدما تتقلص المخاوف القائمة حاليا بفعل تفشي وباء كورونا.
وفي الوقت الحاضر، يشير الارتفاع المتسارع في أسعار المساكن في نيوزيلندا إلى تزايد حجم الطلب بشكل كبير من جانب الراغبين في الإقامة الدائمة هناك.
كما تلعب التغيرات التي طرأت على الحياة في المدن الكبرى في العالم بفعل كورونا دورا في تغيير شكل المعادلة التي كانت تحدو بالنيوزيلنديين عادة إلى الإقامة في بقاع مثل هذه.
تقول فراي: “عادة ما كان النيوزيلنديون يفتقدون لدى عودتهم من الخارج إلى بلادهم أشياء بديعة تتسم بها نيويورك أو لندن”. لكن تعرض مثل هذه المدن الآن للخطر، سواء على المدى القصير أو المتوسط، يؤدي “من الوجهة النفسية إلى أن ينظر الناس إلى الصورة الكلية خاصة الجوانب المتعلقة بنوعية الحياة التي سيعيشونها فيها وفرص التعليم التي سيحظى بها أطفالهم هناك”.

هل سيظل النيوزيلنديون راغبين في السفر للعمل في دول أخرى إذا أدى (كوفيد-19) إلى تطبيق إجراءات إغلاق في المدن الكبرى فيها؟

مع ذلك، قد يكون المستقبل الاقتصادي لـنيوزيلندا على المدى القصير للغاية، ليس بالوردي على الإطلاق.
ورغم أن معدل البطالة في البلاد يحوم حاليا حول مستوى أربعة في المئة؛ فإن عدد العاطلين عن العمل ممن لا يبحثون بجدية عن فرص توظيف أو من يُصنّفون على أنهم “قوى عاملة غير مستغلة”، يشهد ارتفاعا كبيرا.
وفي الوقت الحالي، يتوقع بعض خبراء الاقتصاد، أن يصل معدل البطالة في نيوزيلندا إلى تسعة في المئة بحلول نهاية العام الجاري.
وفي هذه المرحلة المبكرة أيضا من ظاهرة “الهجرة العكسية” لـنيوزيلندا لا يتوافر الكثير من البيانات بشأن ما إذا كان النيوزيلنديون العائدون قد وجدوا وظائف لهم منذ عودتهم إلى وطنهم أم لا.
وإذا صحت القصص المتداولة في هذا الصدد فسيعني ذلك أن بعضهم نجح في العودة للعمل في الوظائف التي كان يشغلها قبل مغادرة البلاد، أو تمكّن من الاستفادة من الخبرة التي اكتسبها في الخارج، لشغل وظائف جديدة.
بجانب ذلك، أدى الطابع المرن الذي بات أداء المهام الوظيفية يتسم به بسبب تفشي كورونا -بما سمح بـ “العمل من بعد”- إلى أن أصبح بوسع فريق من النيوزيلنديين العائدين مواصلة الاضطلاع بمهام وظائفهم في شركات تقع مقارها خارج نيوزيلندا.
وتقول هانا رييد إن واحدة من معارفها استفادت من هذا الأمر، مما جعل بمقدورها العمل مع مكتب محاماة في لندن من منزلها في أوكلاند.
أما رييد نفسها، فتواصل العمل في مكتب محامٍ بارز يتخذ من نيويورك مقرا له بجانب أداء مهام الوظيفة التي عادت لشَغلها في أوكلاند منذ قَدِمَت من نيويورك.
وتقول هذه الفتاة: “تشعر الكثير من الشركات الآن، بارتياح أكبر لفكرة العمل عن بُعد. وهكذا فإذا كنت تستطيع القيام بعملك من مكان يتسم بالأمان (على صعيد معدلات تفشي كورونا) مثل نيوزيلندا؛ فلِمَ لا؟”.
وتقول جولي فراي إنه بالرغم من إمكانية عدم تأمين بعض النيوزيلنديين العائدين وظائف لهم فور وصولهم إلى الوطن؛ فإن البيانات تفيد بأن وجودهم في بلادهم سيؤدي في حد ذاته إلى خلق فرص عمل، لأنه يعني وجود عدد أكبر من السكان ممن يحتاجون لمزيد من الخدمات والمنازل.
وتوضح فراي بالقول: “هؤلاء العائدون يحتاجون لأماكن يقيمون فيها، وسيشترون أغراضا، وسيكونون بحاجة إلى مدارس وأطباء، مما سيوفر وظائف لمواطنيهم من النيوزيلنديين الآخرين”. وتستطرد قائلة: “ثمة تعزيز للطلب بشكل عام .. وما نراه الآن يتمثل غالبا في وظائف جديدة تظهر بمرور الوقت، وليس أشخاصا يفقدون وظائفهم بأعداد كبيرة”.

طريق وعر في انتظار النيوزيلنديين

رغم ذلك، يتوق بعض الشبان النيوزيلانديين، الذين عادوا إلى الوطن بسبب الوباء، إلى معاودة السفر من جديد. من بين هؤلاء، ماريا ما كماهون، التي قطع عليها الوباء موسم التزلج في كندا.
ولم يمنعها عملها منذ عودتها في جمعية خيرية في العاصمة النيوزيلندية ويلينغتون، من الشروع في التخطيط للتوجه إلى نيويورك للدراسة هناك، خاصة أنها عملت في هذه المدينة من قبل كمساعدة منزلية أجنبية لأسرة أمريكية.
وتقول ماكماهون في هذا الصدد: “لن أغادر نيوزيلندا قريبا .. لكنني سأذهب (إلى نيويورك) عندما تصبح الأجواء آمنة”.

ماريا ماكماهون تقول إنها تركن إلى السكون في ويلينغتون لفترة ما في الوقت الحالي، لكنها تؤكد أنها تعتزم السفر إلى الخارج بعد انتهاء أزمة الوباء

لكن استفادة نيوزيلندا من أبنائها الموهوبين العائدين من الخارج يتطلب أن يبقى هؤلاء على أراضيها لفترة طويلة، وهو أمر يبدو من العسير تحديد مدى إمكانية حدوثه في الوقت الراهن. فقد يتأثر ذلك بعدة عوامل من بينها تكاليف السفر إلى الخارج، ومدى قرب توفّر لقاح لفيروس كورونا المستجد، وكذلك وتيرة عودة الأوضاع إلى طبيعتها، في مختلف أنحاء العالم.
ولأن اكتساب الخبرة من خارج البلاد، شكلّ لعقود أحد المكونات الأساسية لحياة النيوزيلانديين، فإن الكثيرين ممن اضطروا منهم للتخلي تماما عن وظائفهم في الخارج أو تركها مؤقتا بسبب الوباء، ربما يتلهفون الآن إلى العودة للاضطلاع بدورهم، على الساحة الدولية.
وهكذا، فبمجرد السيطرة على الوباء ربما سيجد هؤلاء النيوزيلنديون أن العوامل التي دفعتهم للعودة، هي ذاتها التي قد تحدو بهم للرحيل مرة أخرى.
فحتى مع زيادة عدد السكان بواقع مئة ألف نسمة بفضل المغتربين العائدين، لا يزال سوق التوظيف محدود النطاق، مما يجعل من الصعب على الأشخاص الطموحين في نيوزيلندا الحصول على فرصة دون أن تكون لديهم خبرة العمل في الخارج مسبقا.
إلى ذلك، قد تلعب الرغبة في رؤية العالم الخارجي، دورا في اتخاذ النيوزيلنديين قرار “الفرار” من وطنهم.
لكن عاملا واحدا قد يغير المعادلة تماما؛ ألا وهو الشعور العميق بالولاء الذي يُكِنه النيوزيلنديون بداخلهم.
وهنا يقول سبونلي، إنه بالرغم من أن “الهجرة العكسية القسرية، التي يُكْرِه المهاجرون في إطارها على العودة إلى أوطانهم الأصلية، توّلد مشاعر الاستياء والغضب، وكذلك الرغبة الجارفة في المغادرة من جديد؛ فإن الأمر يختلف” في نيوزيلندا. إذ يشير سبونلي إلى أن هناك شعورا غامرا بالامتنان يسود الكثير من النيوزيلنديين العائدين، مما قد يشجعهم على البقاء في بلادهم.
يقول سبونلي: “أعتقد أن الكثيرين من هؤلاء الأشخاص، يشعرون بالامتنان في الوقت الحاضر، لوجودهم في بلد تُمارس فيه الحياة بشكل طبيعي.. ويتسنى لهم فيه، مواصلة القيام بأنشطتهم كالمعتاد أيضا”.

نتاشا فروست – بي بي سي

يمكن قراءة النص الأصلى على موقعنا على BBC_WORLLIFE

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الغلاء ينهش النازحين اللبنانيين: فريسة السوق الموازية وانعدام الرقابة

يواجه النازحون من المناطق اللبنانية المعرضة للعدوان الإسرائيلي، ظروفاً قاسية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، مع انتشار السوق السوداء للمواد الأساسية التي يحتاجونها في مراكز الإيواء وفي الشقق السكنية الفارغة التي يستأجرونها، خصوصا الفرش والمخدات والأغطية والمواد الغذائية الأساسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
27 − 27 =