لا تكتمل أجواء شهر رمضان من دون ركن صار أساسيا فيها ألا وهو الإنشاد الديني. ويعود تاريخ هذا الإنشاد إلى ما قبل الأديان التوحيدية. فعرفت العديد من الشعوب الأناشيد الدينية مثل الفراعنة وغيرهم. لكن لهذا الفن في الحضارة الإسلامية ميزاته الخاصة حيث تمتزج فيه الكلمة العذبة باللحن المنساب مع الصوت الشجي، كما أن أحد هذه العناصر الثلاثة لا يقلّ دوره عن الآخر. وتتوجه مواضيع الأناشيد في أغلبها إلى مدح الرسول والأذكار التي تتهجد إلى الله، ما يجعلها عملا ذا روحانية عالية.
لطالما ارتبط صوته الشجيّ بأمسيات شهر رمضان ونفحاته السخية، فلا غرابة إذا في أن يتردَّد اسمه أو تُستعاد ذكراه كلما هلَّ هلال جديد لشهر فضيل، حتى بعد مُضِي قرابة الأربعين عاما على رحيله؛ إنه الشيخ محمد الكحلاوي، شيخ المدّاحين في مصر، والذي يُكرَّم اسمه وتُنشَد أغانيه ضمن فعاليات البرنامج الرمضاني “هلّ هلالك”، الذي تُقام أمسياته في دار الأوبرا المصرية على امتداد شهر الصوم.
أما الأكثر لفتا للانتباه، فهو الكُتيّب الذي أُعِدَّ بهدف توزيعه على الحضور في أثناء التكريم، ويشمل تأريخا موجَزا لمسيرة الشيخ في الفن والحياة، تلك التي بدأها مطربا وسيما يسكن في حي الزمالك الراقي في القاهرة، ويشارك نجوم السينما في الظهور على الشاشات الفضية، وختمها زاهدا متصوِّفا يسكن في كوخ بسيط يعلو سطح المسجد الذي أنشأه في قلب مدافن الإمام في منطقة القاهرة التاريخية.
غابت المدائح وتراثها وبقيت طاقتها الروحية الآسرة ومكنونها الوجداني والثقافي.
على الرغم من غزارة المواهب التي تبزغ سنويّا في شتى مجالات الفن، تبقى لفن المديح فرادته وخصوصيته الشديدة، التي تجعل من بزوغ مواهب جديدة وفارقة في هذا المجال أمرا نادر الحدوث.
فالمديح لا يعتمد على الموهبة والقدرات الصوتية فحسب، ولا كذلك على الحضور الجاذب والوسامة اللافتة كحال غيره من صنوف الغناء والأداء العلني فوق خشبة المسرح، بل إنه يستلزم قدرا من الصدق يصل به لإحساس المستمعين ويترك أثرا عميقا في وجدانهم، وهذا ما يمكن مُعاينته بوضوح تام في صوت الشيخ الكحلاوي الموسوم بالشجن والعذوبة الشديدة، كما في مسيرته الشخصية التي أضفَت المزيد من المصداقية على تجربته الفنية، بحيث صار اسمه علامة لا يستطيع العابرون من طريق المديح النبوي إلا أن يتوقّفوا أمامها ويتأملوها طويلا.
مع التمازج بين قصائد المديح وحلقات الذكر نتج فن التغني بمدح الرسول في الأمسيات الاحتفالية والمناسبات الدينية
منصة سياسية
“قُل وروح القدُس معك”، هكذا نُقِل عن النبي أنه قال لصحابيِّه حسان بن ثابت شاعر الرسول، كما قال النبي لعمِّه العباس بن عبدالمطلب حين استأذنه في مدحه “قل لا يفضض الله فاكَ يا عم”، وقد دأب العديد من شعراء الصحابة على نَظْم الأبيات في مديح النبي وهجاء أعدائه، إذ كانت قصائد المديح والهجاء تمثِّل المنصة السياسية الأهم آنذاك، والوسيلة الأكثر تأثيرا في وجدان المتابعين والمتفاعلين مع الأحداث، لذلك انتشرَت تلك القصائد شرقا وغربا مع تواصل الفتوحات واتساع رقعة الدول التي رفعَت راية الإسلام.
غير أن الغرض السياسي سرعان ما انتفى بطبيعة الحال، فلم يبقَ من تلك المدائح وتراثها الثريّ إلا طاقتها الروحية الآسرة، ومكنونها الوجداني والثقافي الذي لا يتقادم مع الزمن.
أما ما نفخ أنفاس الحياة من جديد في فن امتداح النبي وألهمه القدرة على البقاء، فهو امتزاجه بالنزعات الصوفية المتفرقة التي بدأت تبزغ بوضوح خلال القرن الخامس الهجري، إذ دأب كبار المتصوفة من أمثال ابن الفارض، سلطان العاشقين، على نظم القصائد التي تمتدح خصال النبي وتتغنّى بمآثره، ضمن جملة ما يقرضون من أشعار مستلهمة من فيض العشق الإلهي، وهنا صار لهذا الفن غرض باق لا يجعله عُرضة للتقادم.
قرابة القرن السابع الهجري ظهر الشاعر المتصوّف محمد بن سعيد البوصيري، وكان تلميذا مباشرا لقُطب الصوفية أبوالعباس المرسي، ويُنسَب إليه أشهر ما قيل في مديح الرسول، وهي الميميَّة المسماة بقصيدة “البردة”، والمسماة أيضا “الكواكب الدريَّة في مدح خير البرية”.
ولا تزال أبيات “البردة” تُنشَد إلى اليوم في الحضرات الصوفية وحلقات الذكر، كذلك في الموالد وعلى رأسها المولد النبوي بطبيعة الحال، إذ ثبت أن تأثير هذه الميميَّة لا يتضاءل مهما لحِقَ بها من قصائد تتغنى بمديح النبي، بل إنها تتعاظم في أثرها كلما عارضها كبار الشعراء القدامى والمحدَثين بقصائد تُحاكيها وتقتفي أثرها في الشكل والمضمون، ولنا مثال في قصيدة “نهج البردة” لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي نَظَم فيها مديحَهُ لنبي الإسلام على غرار بردة البوصيري، محاكيا أبياتها من حيث القافية والإيقاع العروضي.
امتزاج الشعر بالغناء
الإنشاد حالة فنية روحية الإنشاد حالة فنية روحية
مع التمازج الذي اتّخذ سبيله مع الزمن بين قصائد المديح وحلقات الذكر، والأخيرة عنصر أساسي في أغلب الطرق الصوفية، نتج فنٌّ آخر لا يقل روحانية ولا تأثيرا عن نظم القصائد في مديح الرسول، ذلك هو فن التغنّي بمدح الرسول أمام جمهرة من المتابعين في الأمسيات الاحتفالية والمناسبات الدينية.
وقد غرس هذا الفن جذوره عميقا في وجدان العامة، إذ أن المصاحبة النغمية لأبيات المديح تُعزِّز الحالة الوجدانية الناتجة عن سماعها، وتزيد من تفاعل جمهور المستمعين مع معانيها، حتى لو استعصى على البعض فهمُ هذه الأبيات، فإن الأثر المعنوي الذي تُخلِّفه الموسيقى ويصنعه الأداء الصوتي والحركي لمن يتغنّى بمديح الرسول، ويُسمّى المنشد أو المدّاح، يعوِّض ما يمكن خسارته بسبب الإخفاق في فهم المعاني.
مع انتشار فن المديح والإنشاد الديني شرقا وغربا، صارت القصائد تُنظَم باللهجات الدارجة إلى جانب العربية الفصيحة، ما ساهم في المزيد من الانتشار والتأثير وتجذُّر هذا الفن في وجدان عامة الناس، لكنْ بقي الأصل هو التغّني بالأبيات المنظومة باللغة العربية الفصحى، والمنسوبة في المعتاد لكبار الأئمة والمتصوِّفة، وإن اختُلِف طويلا على نسبة بعض القصائد إلى الأئمة، مثل قصيدة “يا سيد السادات جئتكَ قاصدا”، وهي من أروع قصائد المديح التي يتغنّى بها المنشدون.
واختُلِف حول نسبتها للإمام أبي حنيفة النُّعمان والقصة التي تقول إنه وضعَها ولم يُحدِّث أحدا بها حتى يُلقيها أمام قبر النبي حين يزوره، وهكذا العديد من قصائد المديح الشهيرة التي ينسبها المتصوِّفة لكبار الأئمة وأقطاب الصوفية، فيما يُشكِّك في نسبتها، بل ويقدح في مقاصدها، بعض المتشدِّدين.
ولا غرابة في أن أغلب ما يترك أثرا عميقا في وجدان عامة الناس، سيجد لا محالة مَن يقدح فيه ويُشكك في صحته، بما في ذلك مديح النبي.
دولة المدّاحين
هذا الفن غرس جذوره عميقا في وجدان العامة، إذ أن المصاحبة النغمية لأبيات المديح تعزز الحالة الوجدانية الناتجة عن سماعها وتزيد من تفاعل جمهور المستمعين مع معانيها
لا يمكن العبور على فن المديح دون التوقُّف أمام كبار المداحين الذين صدحوا بأصواتهم خلال العصر الحديث، عصر الإذاعة والتسجيل الصوتي، فاستطاعوا أن يصنعوا لدولة المدّاحين والمنشدين هذه المكانة الفريدة التي نعرفها اليوم لفنون الإنشاد الديني، مثل سيّد القراء وإمام المنشدين في مصر الشيخ علي محمود، الذي تغنّى بمديح الرسول بشتى ألوان الغناء، حتى إنه أنشد أغنية من ألحان الشيخ سيد درويش بمناسبة المولد النبوي يقول مطلعها “إن ميلاد الرسول المصطفى سامي المكان.. خير عيد يتغنى للصفا في كل آن”.
وهناك كروان المنشدين الشيخ طه الفشني الذي أسس مدرسة خاصة في الإنشاد الديني بمصر، واشتهر عربيا، وقدَّم من درر المديح ما تربَّع به فوق عرش الإنشاد لزمن طويل، أشهرها هو ابتهال “يا أيها المختار من خير الورى”، الذي لم يتجاوزه في الشهرة والمكانة أي ابتهال آخر في مدح الرسول.
أما المنشد الشيخ نصرالدين طوبار فقد أحدث بأدائه طفرة أخرى في فن الإنشاد الديني، إذ مازج في أدائه بين الاستعراض المذهل للقدرات الصوتية، الذي سبقه إليه الشيخان علي محمود وطه الفشني، وبين رهافة الأداء والتأثر بالمعاني والمآثر النبوية، فقد كان في صوته شجن لا تُخطئه أُذن، وفي عينيه ميل دائم لذرف الدموع، ما كان له عظيم الأثر في قلوب مستمعيه.
ولا يُباريه في هذا المجال إلا الشيخ محمد الكحلاوي، مدّاح الرسول ومُبكي القلوب، الذي ترك الغناء الشعبي والتمثيل لأجل النبي، فكان أشهر وأعذب ما تغنّى به هو “لاجل النبي لاجل النبي لاجل النبي.. تقبَل صلاتي على النبي لاجل النبي”.
فيما يسطع بين هؤلاء الأفذاذ صوت الشيخ سيد النقشبندي، الذي لا تكتمل أجواء الشهر الفضيل في أذهان الكثيرين إلا بحضور حنجرته الماسية وأدائه الساحر الذي يتصاعد رأسا إلى السماء، دون حاجة لبطانة من المنشدين أو لآلات موسيقية مُصاحبة.
وقد قدَّم إلى جانب أيقونته الفريدة “مولاي إني ببابك” العديد من القصائد في مديح الرسول، تلك التي يتصبَّر بها الصائمون إلى اليوم أثناء انتظارهم مدفع الإفطار عبر أثير الإذاعة المصرية، برغم مرور خمس وأربعين سنة على رحيل الشيخ.
ويماثله في العذوبة والقدرات الصوتية الفذة الشيخ محمد عمران، وهو صاحب مدرسة موسيقية فريدة تتلمذ عليها العديد من المنشدين بل والمطربين، كما أنه أفضل مَن أنشد “يا سيد الكونين جئتكَ قاصدا” في العصر الحديث.
ثمة فذ آخر صاحب مدرسة فريدة في المديح والغناء الصوفي، هو المنشد الشيخ أحمد التوني الذي دأب على التغنّي بقصائد الأولياء والعارفين من المتصوفة القدامى من أمثال الشيخ أحمد البدوي وأحمد الرفاعي وإبراهيم الدسوقي وعبدالقادر الجيلاني.
وقد فتح التوني بأدائه الفريد آفاقا جديدة أمام القصيدة الصوفية، حيث تشارك مع الكثير من المغنّين والموسيقيين من مختلَف الأجناس في الغناء الصوفي، وكان دائما صاحب بصمة استثنائية حين يشارك في المهرجانات الموسيقية الروحية.
وربما يقصُر المجال عن ذِكر المزيد من الأسماء والتجارب الفريدة، فقائمة الأفذاذ تتسع للكثيرين، وقلادة المدّاحين معلَّقة في أصل السماء تنتظر المزيد من الحلَقات ذات الرنين الخاص.
والعبرة ليست بكثرة الأسماء بالطبع، لكنْ في استلهام سِيَر المبدعين والأفذاذ في كل مجال نتأمل اتساقهم مع ذواتهم وإخلاصهم في تقديم تجاربهم، كما تأثُّرهم بالفنون التي يُقدِّمونها وتأثيرهم فيها، فمن غير الممكن أن نجد بين هؤلاء مُقلِّدا ولا مُدَّعيا لموهبة ليست أصيلة في تكوينه، بل إن كلّا منهم قد نزع باستمرار لأن يُخالف مَن سبقوه في تقديم الفن، وأن يُقارب ذاته الأصيلة شديدة الفرادة، حتى انفتحَت أمامه مغاليق الفن وانكشفَت أسراره التي تُحجَب في المعتاد على المدَّعين، والمقلِّدين، وقبل أولئك وهؤلاء غير المخلِصين.
أحمد القرملاوي – كاتب وأديب مصري