عن الفرص الضائعة للدبلوماسية في أوكرانيا

في حثّه بريطانيا على التدخل عسكريا في سورية، قال وزير الخارجية البريطاني السابق، ديفيد ميليباند، “الدبلوماسية من دون أسلحة مثل الموسيقى من دون آلات”، مقولة تُنسب لملك بروسيا فريدريك العظيم. لكن الحرب التي خاضتها بريطانيا وأميركا وفرنسا في سورية أثبتت العكس: أن الأسلحة من دون دبلوماسية مثل آلاتٍ بلا موسيقى. بعد قرابة عام على بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زالت مقولة فريديريك العظيم تتردّد في صفوف الداعمين لتصعيد الحرب في أوكرانيا ضد روسيا، بحجّة أن انتصار أوكرانيا على روسيا سيعزّز موقفها التفاوضي، عندما يحين وقت الدبلوماسية.

لقد تقلّبت مواقف الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، منذ اجتياح روسيا بلاده، وكان في بداية الحرب ميّالا نحو التفاوض من أجل تسوية سلمية، حتى أنه في أواخر مارس/ آذار 2022 أكّد أن حكومته مستعدّة لتبنّي وضع محايد في إطار اتفاق سلامٍ ينهي الحرب. وكان يقصد بذلك منح ضماناتٍ أمنية لروسيا وقبولا بألا تتمتع أوكرانيا بوضع نووي، وطرح أي اتفاقٍ لاستفتاء شعبي. وكان في هذه المواقف تلبية لجل مطالب روسيا التي تشترط أيضا عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو العسكري. كان زيلينسكي وقتها يظن أن حكومته تملك حرية القرار بشأن السلم والحرب في بلاده.

حتى لا تختمر فكرة التسوية السلمية للحرب في ذهن زيلينسكي وباقي أعضاء حكومته، سارعت واشنطن وشركاؤها في حلف الناتو إلى تسليح أوكرانيا، ودفعت بها نحو حربٍ بالوكالة لم تتأخّر في الإعلان عن هدفها، إذ كشف وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، عن هدف الولايات المتحدة من تسليح أوكرانيا، قائلا: “نريد أن نرى روسيا ضعيفة إلى حد لا تستطيع القيام بالأمور التي قامت بها من قبل مثل غزو أوكرانيا”. بعدما كان هدف أميركا المعلن في بداية الحرب يقتصر على مساعدة الأوكرانيين للدفاع عن أنفسهم، أصبح الانتصار على روسيا هاجسا في واشنطن، مع كلّ ما قد يترتّب عن هزيمة قوة نووية وعزلها من مخاطر، بما في ذلك احتمال لجوئها للسلاح النووي.

حتى لا تختمر فكرة التسوية السلمية للحرب في ذهن زيلينسكي وباقي أعضاء حكومته، سارعت واشنطن وشركاؤها في حلف الناتو إلى تسليح أوكرانيا

ومع مرور الوقت، وفي ضوء رفع مستوى تسليح أوكرانيا إلى مستوياتٍ غير مسبوقة وتحقيق الأخيرة انتصاراتٍ ملحوظة، أصبحت رغبة واشنطن في استمرار الحرب تأخذ ملامح حرب استنزافٍ تذكّرنا كيف حولت الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى مستنقع، ما يجعل المتابع لتطور الوضع في أوكرانيا يتساءل إن كان التاريخ يعيد نفسَه، وإن كان ما تسعى إليه واشنطن في الواقع هو تفكيك روسيا مثلما أدّت الحرب في أفغانستان إلى تفكّك الاتحاد السوفييتي، وإن كان هدفها أيضا تغيير النظام في روسيا، وتحقيق رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي جزم، في بداية الحرب، أنه لا يمكن لبوتين البقاء في السلطة.

يبدو الوضع في أوكرانيا مفتوحا على جميع الاحتمالات، ويظلّ احتمال حلّ دبلوماسي أضعفها حاليا، رغم كثرة الحديث عن تسويةٍ سلمية للحرب. تظن أوكرانيا أنها، بفعل حملتها المضادّة والانتصارات التي حققتها على الأرض، واستعادتها السيطرة على جزء من شرق البلاد، توجد الآن في موقف تفاوضي أكثر قوة، لكن الواقع لا يبعث كثيرا على التفاؤل، فلقد تغير الوضع على الأرض، وما كان متاحا للتفاوض في مارس/ آذار 2022، لم يعد متاحا اليوم. لقد قتلت الحرب الآلاف، وشرّدت منذ ذلك الوقت حوالي عشرة ملايين أوكراني في الداخل والخارج، وخرّبت جزءا من أوكرانيا، وأعلنت روسيا عن ضمّها مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، إضافة إلى شبه جزيرة القرم. وما زالت موسكو تسيطر على جل هذه المناطق التي تمثل حوالي 15% من الأراضي الأوكرانية، حتى بعد الحملة المضادّة التي تقودها أوكرانيا بفضل أحدث الأسلحة الأميركية والأوروبية، و”مدرّبين” غربيين على الأرض، وبمساعدة الاستخبارات الأميركية. ومن الأرجح ألا تستعيد أوكرانيا قريبا السيطرة على كل أراضيها المحتلة.

تدّعي موسكو أنها منفتحة على خيار التفاوض، وتطرح شروطا لا تقلّ تعجيزا عن كييف، بما في ذلك الاعتراف بروسية الأراضي الأوكرانية التي أعلنت موسكو عن ضمّها

ومع ذلك، يروّج زيلينسكي بحماس لخطة سلام من عشر نقاط، ناقشها مع الرئيس بايدن، ويدعو زعماء العالم إلى عقد قمة عالمية للسلام بناءً على تلك الخطة الشهر المقبل (فبراير/ شباط)؛ خطّة تنص على استعادة وحدة أراضي أوكرانيا، وانسحاب القوات الروسية، ووقف الأعمال العدائية واستعادة حدود الدولة الأوكرانية مع روسيا، ومحاكمة الأخيرة. وتبدو هذه الخطّة أقرب إلى إعلان استسلام روسيا منها إلى مبادرة سلام، ويستحيل أن تقبل بها موسكو، ربما حتى ولو تمت إطاحة بوتين.

وتدّعي موسكو أنها هي الأخرى منفتحة على خيار التفاوض، وتطرح شروطا لا تقلّ تعجيزا عن كييف، بما في ذلك شرط الاعتراف بروسية الأراضي الأوكرانية التي أعلنت موسكو عن ضمّها. وحتى إن كانت روسيا جادّةً في البحث عن مخرج دبلوماسي لورطتها في أوكرانيا، فإن تصريحات المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، عن اتفاقيات مينسك، جاءت لتذكّرها بأن أي اتفاق مع أوكرانيا وحلفائها الغربيين لن يكون إلا خديعة ثانية. ففي حديثها إلى صحيفة دي تسايت الألمانية في مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، اعترفت ميركل بأن اتفاقيات مينسك بين أوكرانيا وروسيا برعاية كل من ألمانيا وفرنسا، كانت تهدف إلى تجميد الصراع في شرق أوكرانيا لمنح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية، وافتخرت بأن أوكرانيا استغلّت الخطة جيدا لتحقيق هذا الهدف، ووضعها اليوم هو أحسن بكثير مما كانت عليه في عامي 2014 و2015. وخرج فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي الأسبق، عن صمته أيضا، ليؤكّد بدوره تصريح ميركل، بأن اتفاقية مينسك لم تكن، في الواقع، إلا خديعة وحيلة لربح الوقت.

شملت اتفاقيات “مينسك 2” الموقّعة في فبراير/ شباط 2015، بوساطة فرنسا وألمانيا، حزمة تدابير تفاوض حولها ممثلون عن أوكرانيا وروسيا ومنطقتي دونيتسك ولوهانسك الأوكرانيتين، وحصروا اتفاقهم في 13 بندًا، نصّ أبرزها على الوقف الفوري والشامل لإطلاق النار في أنحاء معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، وسحب كلا الجانبين الأسلحة الثقيلة من أجل إنشاء منطقة أمنية بينهما، وإجراء انتخاباتٍ محليةٍ وفقا للقوانين الأوكرانية بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في أنحاء معيّنة من المنطقتين، وعدم التعرّض للمدنيين المتحدثين بالروسية في تلك المناطق، وإصلاح دستوري تكون اللّامركزية أحد مكوّناته الأساسية. كانت هناك فرصة تسوية سياسية حقيقية، إلا أن الوسطاء الغربيين، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) التي أُوكلت إليها مهمة الرّصد التقني لوقف إطلاق النار وباقي بنود الاتفاق، لم يمارسوا الضغوط اللازمة على كييف لتنفيذ التزاماتها، والكفّ عن اضطهاد السكان الروس في مناطق دونيتسك ولوغانسك.

أصبحت رغبة واشنطن في استمرار الحرب في أوكرانيا تأخذ ملامح حرب استنزافٍ تذكّرنا كيف حولت الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى مستنقع

ظلت موسكو وكييف تتبادلان الاتهامات في تعطيل تطبيق الاتفاقية، واحتدمت المواجهات في المنطقة الشرقية إلى أن اجتاحت روسيا الأراضي الأوكرانية. استحضار اتفاقيات مينسك 2، والكشف عن خدعتها، يطرح مشكل أزمة الثقة بين روسيا وأوكرانيا وحلفائها التي تقلّل حظوظ التوصل إلى تسوية سياسية للحرب. لقد برهنت أميركا وحلفاؤها مرارا وتكرارا أن الاتفاقات التي تُبرمها مع دول عديدة رخوة بطبيعتها، ولعلّ آخر الأدلة على ذلك انقلاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الاتفاق النووي الإيراني ومماطلات إدارة بايدن بشأنه، إضافة إلى تناقضات موقفها تجاه سياسة “الصين الواحدة”.

في ظل معضلة الثقة في الحل الدبلوماسي، تراهن موسكو على الحل العسكري، وتتشبث بخوض حربٍ “وجودية” لا تسير حسب خططها، ولم تعد تملك القدرة على إيقافها. في المقابل، تبدو أميركا وحلفاؤها الأوروبيون عازمين ليس فقط على إضعاف روسيا، بل ربما تحويلها إلى دولةٍ منبوذةٍ وتجريدها من كل امتيازاتها الدولية، بما في ذلك المقعد الدائم في الأمم المتحدة، إذا ارتكبت حماقة اللجوء إلى السلاح النووي في هجومها على أوكرانيا؛ حماقة تقترب منها موسكو مع توالي هزائمها، وكلما رفعت واشنطن من ثقل تسليحها للمقاتلين الأوكرانيين. في انتظار ما ستسفر عنه هذه الحرب التي راح ضحيتها آلاف الجنود من الجانبين، يظل الروس والأوكرانيون أكبر الخاسرين، بعدما سقطا في فخّ مواجهة يؤدّيان ثمنها، وتتضرّر أوروبا من جرّائها، وتحصد ثمارها أميركا، أو بالأحرى كبرى الشركات الأميركية التي تستفيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز وازدياد الطلب العالمي على الأسلحة، وانخفاض أسهم الدبلوماسية.

عائشة البصري – كاتبة وإعلامية مغربية

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
14 × 10 =