تعمل الأجهزة الأمنية السورية، خلافاً لأدوار مثيلاتها في دول العالم، حتى الاستبدادية منها، حيث “المخابرات أو الجهات الأمنية حسب التسمية السائدة”، وهي متعدّدة ومتشعبة، تمارس في أي صراع داخلي سوري – سوري، مسلّح أو على أساس طائفي، أدواراً كثيرة ومختلفة. فهي اليد المحرّكة له، والمنظمة لعناصره، والمعمّمة لفوضاه، والعاملة على توسيعه، وكل ذلك بغية تحقيق مبدأ تدميري، على غرار “فرّق تسد”، الذي تمارسه إسرائيل مع الفلسطينيين حمايةً لجبهتها الداخلية، وتشتيتاً لهدف المقاومة الفلسطينية الشعبية، وكذلك في سياسات إسرائيل مع القوى العربية وسلوكها الدبلوماسي المتسلّل إلى القرار العربي، الذي تقطف نجاحاته يوماً بعد آخر لتمزيق الإجماع العربي “المهلهل” أساساً تجاه القضية الفلسطينية؛ علماً أنّ هذا من ابتكارات الاستعمار التقليدي في سياساته التي انتهجها في بلدان آسيا وأفريقيا.
مع تطور أدوار المخابرات، وامتهانها الجاسوسية وأنشطة السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام، بقي دورها الأساسي في معظم الدول حماية المواطنين وإنفاذ القانون، منهم وعليهم. في المقابل، في سورية، وفي وقتٍ كان فيه الدستور السوري ومواده التفصيلية موضوعاً في الأدراج، أو على رفوف مكاتب وزارة العدل، كانت القرارات الإدارية والتعليمات الشفوية للعناصر الأمنية تبيح لهم ارتكاب جرائمهم بحق المواطنين السوريين، الأفراد والمجموعات، مع ضمان الإفلات من العقوبات. وهذا يندرج ضمن سياسة النظام في الحفاظ على سلطته من خلال حماية المسؤولين فيها من المساءلة من جهة، ولإشراك جميع كبار الموظفين فيها بالمسؤولية عن تلك الارتكابات، وضمان ولائهم الدائم.
هذا ما حدث سابقاً، ولا يزال سلوك الأجهزة الأمنية في سورية يعتمد سياسة تمزيق النسيج السوري وزراعة مفخّخات مصلحية بينهم، أو طائفية على نحو ما حصل سابقاً في الفوعة وكفريا والزبداني ومضايا، ومعلولا والسلمية، وتحويل التكتلات من مواجهة استبداده وتعنّته إلى مواجهة بعضهم بعضاً، وهو ما يحصل حالياً في الجنوب السوري، درعا والسويداء، حيث تتحمّل مليشيات تابعة للنظام في المحافظتين مسؤولية تأجيج الأوضاع الأمنية وانتهاك التسويات الموقعة بينهم، بغية إعادة إحياء دور أجهزته الأمنية في المنطقة، وهو ما رفضته القوى الشعبية وواجهته سلمياً وقتالياً.
يعمل النظام بكامل أجهزته اليوم على إعادة تصدير دوره في سورية “حامي الأقليات”، وعليه تندرج قراراته في إبعاد بعض الضباط الصغار
وفي وقتٍ يعترف فيه النظام بارتكابات عناصره الأمنية مخالفات تستوجب إنهاء مهامهم في محافظة السويداء، وفي مقدمتهم مدير فرع الأمن العسكري، وتحميله مسؤولية المواجهات مع فصائل محلية في السويداء، فإنه يبقي على العناصر الأمنية نفسها، (ورئيسها لؤي العلي) التي أحدثت كل الفوضى المتعمدة في حوران، وأدّت إلى المواجهات المسلحة نفسها مع أبناء المنطقة، واعتدت على أرزاقهم، ومنعتهم من متابعة أعمالهم. ما يعني أنّ النظام يريد، بمثل هذه القرارات التمييزية، أن يحول بين توحيد جبهات العمل بين المحافظتين، ليس لحل المشكلة الواقعة في أحدها (السويداء)، وترك درعا تتلوّى من أجهزتها المخابراتية القمعية، ولكن بهدف إحباط لغة العمل المشترك التي بدأت تلوح في الأفق، ومنع الاستفادة من أي بيانات تعاطفٍ أيدت الحراك الشعبي ضد مليشيات الأجهزة الأمنية التي تعيث فساداً، وتعتاش على وقع الخلافات البينية، ومثالها مجموعة راجي فلحوط في السويداء، ومجموعة الكسم وأبو علي اللحام في حوران، حسب أقوال أبناء المحافظة، التي تعمل جميعها تحت غطاء الأمن العسكري.
يعمل النظام بكامل أجهزته اليوم على إعادة تصدير دوره في سورية “حامي الأقليات”، وعليه تندرج قراراته في إبعاد بعض الضباط الصغار، وتحميلهم مسؤولية الفوضى والضحايا، كأنهم أصحاب قرار، وليسوا فقط جهة تنفيذية، يعملون وفق توجيهات وسياسة عليا. ما حدث في السويداء من ألفه إلى يائه يبدو كأنه “سيناريو” هدفه وصول رسالة إلى المجتمع السوري، والدولي، أنّ النظام يمارس دور حماية أهالي السويداء بوصفهم أقلية، وليس لأنّهم مواطنون سوريون لهم كامل حقوق المواطنة، أي أنّه حوّل الحقوق من واجب عليه، إلى مكرمةٍ منه، يستطيع استخدامها أو منعها عنهم متى شاء. ما يؤكد أنّ سورية الدولة، أو دولة المؤسّسات والقانون في سورية التي يجري الحديث عنها هي اليوم فقط على الورق، وربما يطبَّق القانون بشكل تعسفي، ووظيفي، ضد رعايا، في دولة/ سلطة، لا تعترف بحقوق مواطنين، ولا بمكانة مواطن.
تُظهر مطالب المحافظات بعد كلّ أزمة تفتعلها المخابرات السورية، أن إصرارها على الانتقال السياسي وتغيير شكل النظام المركزي الحالي بات أكثر وضوحاً
منذ انطلاقة شرارة الاحتجاجات في درعا، 18 مارس/ آذار 2011 (التخطيط كان في 15 مارس وهي ذكرى الثورة اليوم) سلكت الأجهزة الأمنية طريق المواجهات المسلحة، وصنعت، منذ البدايات، ما عرفوا آنذاك بـ “المندسّين”، ونظمت جماعات “الشبّيحة”، ليكونوا أداتها في تحريك نزعة الاقتتال المسلح، والتحكّم بها، وهو ما حصل فعلياً على أرض الواقع مع وجود طرفين محرضين على المتظاهرين، هما العناصر الأمنية، ومعهم الجيش السوري بكامل عتاده وعدته، و”الشبّيحة” الذين سُمّوا لجاناً شعبية فيما بعد من جهة أولى، ووجود المندسّين الذين كنا ننفي وجودهم، لكنهم اليوم ظهروا كجهات مندسّة تعمل لمصلحة النظام، وهم على قائمة الفصائل المعارضة من جهة مقابلة، تضغط على السوريين وتزرع الفتن فيما بينهم.
أرادت الأجهزة الأمنية، بما افتعلته من أحداث، وارتكبه بعض عناصرها من جرائم، أن تلغي آثار الثورة السورية، ومطالبها في حقوق المواطنة، وإنهاء تغوّل الأجهزة الأمنية على حقوق الناس وكرامتهم، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، لكن مساعيها وافتعال الانفلات الأمني وتحريك أذرعها المنفلتة لإثارة الرعب بين الناس، انقلبت عليها، إذ تُظهر مطالب المحافظات بعد كلّ أزمة تفتعلها المخابرات السورية، أن إصرارها على الانتقال السياسي وتغيير شكل النظام المركزي الحالي بات أكثر وضوحاً، وهذا ما تعبّر عنه رغبة المحافظات بكفّ يد دمشق عن مؤسساتها المحلية، وأمنها، وحتى أسس الاستثمار فيها، ما يعني أنّ وعياً لأهمية اللامركزية يستفيق بطريقة مقوننة ومقبولة شعبياً، ما يجعل النظام السوري في مواجهة جديدة مع الشعب الذي تحرر من مخاوفه والمركزية الشديدة لعاصمته دمشق.