في النقاشات والتجاذبات السياسية التي أطلقها “الربيع العربي”، خصوصاً في ظل التداعيات الناجمة عنه، استمرأ “علمانيون” تنميط “الإسلاميين”، بوصمهم بالتأخّر والميل إلى العنف والاستبداد والاستئصال، في المقابل استمرأ “إسلاميون” تنميط العلمانيين، ليبراليين وقوميين ويساريين ووطنيين، بوصفهم حلفاء لنظم الاستبداد أو كاستئصاليين أو كمتغرّبين.
المشكلة تكمن في أن ثمة بعضاً من كل ذلك يتوافر عند مختلف اتجاهات وتيارات العلمانيين والإسلاميين، وأن محاولة أي من هذه الظواهر الاجتماعية ـ السياسية إنكار هذه الحقيقة لا يفيد، فضلاً عن أنه يتعارض مع طبيعة هذه التكوينات، كما تتمثل في منطلقاتها أو ادعاءاتها النظرية أو في ممارساتها العملية.
وفضلاً عن أن مئات المؤتمرات والندوات والاجتماعات، التي عقدت في العقود القليلة الماضية، لم تفلح في تعرّف هذين الطرفين على بعضهما، ولا في تجسير الهوّة، أو تعزيز المشتركات بينهما، فإن محاججة على هذا النحو تنطوي، أيضاً، على نوع من التعسّف، والاختزال، والمصادرة، إذ إنها تضعنا إزاء صور، أو ظواهر، ناجزة وثابتة ومطلقة ونهائية، متمثلة في كل تيار. كأننا إزاء كتل صماء، لها صفات جوهرانية، لا تخضع لسنن التاريخ والتغير والتطور ولا لسنن التنوع والتعددية والتقاطع، في حين أن الواقع، المليء بالتناقضات والاختلافات والانقطاعات، يشي بالتجاور والتداخل والتكامل، أيضاً.
وفي الواقع، كما ثمة علمانيون، بتنويعاتهم، كقوميين ووطنيين وليبراليين ويساريين، يقفون مع نظم الاستبداد، بدعوى المقاومة والممانعة، أو باسم الحداثة والتقدم، ثمة إسلاميون مثلهم، أيضاً، في الموقف ذاته، بدليل ظاهرة الدعاة ورجال الإفتاء والمشايخ من الذين يقفون مع نظم الاستبداد، جمهورية أو ملكية، وبدليل مواقف بعض الجماعات السلفية والجهادية، التي تصادر حتى الله، لفرض الاستبداد باسمه، أو بدعوى الوكالة عنه، بحيث بات لدينا حزب الله وأنصار الله، وجند الله، كما ثمة أحزاب تحتكر اسم الإسلام، أو النطق باسمه. وبديهي أنه كما من الجهة العلمانية ثمة استئصاليون وتخوينيون واستبداديون، ثمة من الجهة الإسلامية مثلهم، أيضاً.
الفارق بين العلمانيين، بتنويعاتهم وأيديولوجياتهم، أو منطلقاتهم الهوياتية أو الفكرية، أنهم يحيلون مواقفهم السياسية، وضمنها مواقفهم التنميطية الجاهزة إزاء الإسلاميين، إلى آرائهم أو معتقداتهم كبشر، من دون أن يفطنوا إلى أن تلك الآراء والعقائد أضحت بمثابة نظريات جامدة ومطلقة ونهائية في تعاطيها مع الواقع والمجتمع والعالم، مثلما بدا التعاطي معها كأنها بمثابة أديان جديدة أو توازي ذلك.
في المقابل فإن الإسلاميين يحيلون ذلك إلى الشرع، أو الدين، الذي هو خارج النقاش، معتبرين أنفسهم “وكلاء” الله على الأرض، فيسيئون بذلك إلى مقاصد الدين، من دون أن يفطنوا، أيضاً، إلى أنهم يخلقون ديناً أرضياً آخر، بتشريعاتهم وفتاويهم الخاصة، التي تحاول أن تفسر الدين بحسب مفاهيمهم، التي تختلف من جماعة إلى أخرى، وتبعاً لأهوائهم ومصالحهم. وهذا لا يقتصر على الإسلاميين وإنما هو يشمل العلمانيين، أو من يعتقدون أنهم علمانيون، (بتنويعاتهم) ذلك أن القدح برئيس كما كان القذافي أو صدام (سابقاً) أو الأسد، مثلاً، دونها الأهوال، وهي أشد من الكفر، وإذا كان الله غفوراً رحيماً فإن هؤلاء وزبانيتهم لا يعرفون الرحمة.
القصد أنه في الحالين سنلاحظ أن المقدس بات ينطبق على الأيديولوجيات البشرية والأيديولوجيات السماوية، بعد أن باتت الأديان، بواسطة الجماعات السياسية، بمثابة أيديولوجيا علمانية، بمعنى ما. وكان مارسيل غوشيه نوه بذلك في كتابه “الدين في الديمقراطية”، في حديثه عن إخضاع الدولة للدين، وخضوع الكنيسة للملكية، وهذا لا يختلف عن مجريات التاريخ الإسلامي، وإخضاع السلطة الزمنية للدين، من خلال رجال الدين، الذين شغلتهم لخدمة سياساتها.
والحقيقة فإن تحول الأيديولوجيات إلى أديان أرضية شغلت كثيرين، فهذا كرين برنتين، في كتابه “تشريح الثورات”، الذي أرّخ فيه بصورة نقدية الثورات الأربع البريطانية والأمريكية والفرنسية والروسية، يقول: “يرى الماركسي بخاصة أن القول بوجود جوانب تشبه سلوك الخاضعين للتأثير المعترف به للدين يثير سخطه كثيراً.. والواقع استناداَ إلى التجارب السابقة يبدو أنه يمكن إرغام الكثير من الناس على أداء أعمال معينة من النوع الذي يريد الشيوعيون تنفيذه فقط تحت تأثير ما نسميه الدين، أي نمط من المشاعر المتشابهة تقريباً والقوية حتماً، الطموحات الأخلاقية، العقائد الكونية، والممارسات المتمسّكة بالشعائر على نحو مغالى فيه. لقد حقّقت الماركسية بوصفها عقيدة القدر الكثير، أما الماركسية بوصفها “نظرية علمية” فلم تذهب أبعد من كتاب “رأس المال” والمجلات العلمية”. (ص 238).
وقام أريك هوبزباوم بتوسيع هذه الفكرة في كتابه “عصر التطرّفات”، ففي مقارنته الكنيسة المسيحية بالفكرة الحزبية اللينينية، يقول:” من دون ما سمّاه لينين حزباً من نوع جديد.. لا يمكن أن نتصور كيف وجد ثلث الجنس البشري نفسه يعيش في ظل أنظمة شيوعية في غضون ما لا يزيد عن ثلاثين عاماً بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول.. ما أعطاه ذاك الحزب للشيوعيين من إيمان وولاء مطلق لقيادة الثورة العالمية في موسكو هو القدرة على رؤية أنفسهم (من الوجهة السوسيولوجية) لا بوصفهم طائفة، بل باعتبارهم أجزاء من كنيسة عالمية”. (ص 146).
بل إن هوبزباوم يرى الحزب باعتباره بمثابة “اختراع هائل للهندسة الاجتماعية في القرن العشرين يمكن مقارنته بالرهبانية المسيحية.. إذ أعطى حتى التنظيمات الصغيرة فعالية تتجاوز حجمها الحقيقي، لأن الحزب يستطيع أن يسخّر التفاني غير العادي والتضحية بالذات من جانب أفراده أكثر مما يفعله النظام العسكري والتلاحم للتركيز الكلي على تنفيذ قرارات الحزب مهما كان الثمن”. (ص 150ـ151)
باختصار ثمة سوء فهم فطري، أو متعمد، من الطرفين. والمشكلة أن العلمانيين، على الأغلب، لا يرون الإسلاميين إلا وفق صورة متخيّلة، عن التأخر العملي، والفوات التاريخي، والعنف والتطرف، من دون أن يلاحظوا أن النظم التي ادعت القومية واليسارية والعلمانية، هي المسؤولة عن الفوات التاريخي في البلدان العربية، وعن الاستبداد، كما عن تردي أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما لا يرون إسلاميين من أمثال عصام العطار وجودت سعيد، في سوريا، ومحمد حسن الأمين وهاني فحص في لبنان، وراشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو في تونس مثلاً، ولا يهمهم هؤلاء لأنه يهمهم النموذج الذي يخدم تصوراتهم وسياساتهم.
هذا يشمل الإسلاميين من الذين يرون العلمانيين كمجرد خارجين عن الدين وكمتغربين وفاقدين للهوية الأصلية (التي شكلها الإسلام في عهده الأول)، في حين أنهم لا يرون، أيضاً، أو لا يريدون أن يروا أن ثمة علمانيين وقوميين ويساريين ناهضوا الاستبداد ودفعوا ثمن ذلك من حياتهم، طوال العقود السابقة. وفوق ذلك فإن مشكلة هؤلاء أنهم لا يرون أن تيارات إسلامية، تتحرك باسم الدين، وترتكب الكبائر باسمه، وأنها هي التي تصدّر صورة متطرفة وعنيفة ومتوحشة عن الإسلام.
وهو ما يمكن رؤيته في التيارات الإسلامية المحسوبة على الشيعة من حزب الله في لبنان وسوريا إلى الحوثيين في اليمن مروراً بكتائب أبوالفضل العباس وعصائب الحق العراقية، أو المحسوبة على السنة من جماعات القاعدة وأخواتها إلى “داعش” مثلاً.
يتصور كثر عندنا أن المسألة تتعلق بالتسامح، والقبول بالتعددية والتنوع، لكن مارسيل غوشيه يعتقد أن القصة ليست في التسامح، وإنما باعتبار التعددية مبدأ فكرياً، وثمرة تغلغل الروح الديمقراطية في فكرة الإيمان نفسها (الدين في الديمقراطية، 119).
لكننا نختم هنا بكلام أريك هوبزباوم، الذي يعيد تأكيد مسؤولية العلمانيين عما حصل في العالم في الحقبة الأخيرة، بقوله: “كان القرن العشرون الوجيز حقبة من الحروب الدينية، مع أن الأكثر فعالية وتعطشاً للدم بين هذا النوع من الحروب كانت هي العلمانية المعهودة المتحدّرة من القرن التاسع عشر مثل الاشتراكية والقومية، التي ألّهت إما أفكاراً مجردة أو شخصيات سياسية مجدتها ورفعتها إلى مرتبة الألوهية”. (عصر التطرفات، 962).
ماجد كيالي – كاتب سياسي