نضالها ضد الظلم خلق لها أعداء كثر على عدة جبهات: عند النظام السوري وبعض فصائل المعارضة المسلحة. بعد عشر سنوات على الثورة السورية، DW تحقق في الاختفاء الغامض للناشطة رزان زيتونة من منطقة كانت تحت سيطرة المعارضة.
وجه رزان زيتونة كان مشعاً وهي وسط المحتجين. أخذها الحماس الثوري عندما انضمت لجموع الهاتفين ضد النظام السوري.
وعندما انطلقت شرارة الثورة، كانت رزان وكأنها تنتظرها طوال حياتها، فقد كانت من بين أوائل النشطاء السوريين الذين طالبوا الحكومة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وذلك في رسالة مفتوحة نُشرت بعد يوم من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في الخامس عشر من مارس/ آذار عام 2011.
آنذاك، قالت رزان في مقطع فيديو: “نحن نواجه واحداً من أكثر الأنظمة وحشية في المنطقة والعالم بمظاهرات سلمية، وأغاني الحرية، وهتافات من أجل سوريا جديدة. أنا فخورة بكوني سورية وكوني جزءً من هذه الأيام التاريخية، وبذلك الشعور بالعظمة في شعبي”.
لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ انخرطت المحامية البالغة من العمر آنذاك 33 عاماً في تنظيم الاحتجاجات في دمشق ومدن أخرى في البلاد. جهودها ساهمت في إنشاء لجان التنسيق المحلية، والتي كانت مكوناً أساسياً في الديمقراطية السورية الناشئة آنذاك.
معارضة رزان للمقاومة المسلحة ميّزتها عن الكثير من أقرانها، الذين قام بعضهم بعد ذلك بدعم العنف المنظم ضد النظام.
حول ذلك، يقول مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو الذي كانت تربطه برزان صداقة مديدة: “أهم ما يميز شخصيتها كان رفضها للظلم واستعدادها للقيام بأي شيء لمحاربة الظلم. لم يكن لرزان أي طموح بالوصول إلى السلطة”.
بذور ثورة
حتى قبل أن تتصدر هي وغيرها لقيادة الحراك الثوري في سوريا، كانت زيتونة محامية لحقوق الإنسان، ومدافعة صنديدة عن الفئات الأقل حظاً والمهمشين والأكثر عرضة للتهديد من قبل الأجهزة الأمنية الوحشية لنظام بشار الأسد.
وفي آخر مقال لها قبل اختفائها، كتبت زيتونة تقول: “حقوق الناس ومعاملتهم بشكل عادل ليس أمراً خاضعاً للتفسير والنقاش، وليس وجهة نظر”.
وفي قضية حصلت منتصف العقد الأول من القرن الحالي، أطلقت السلطات السورية حملة ممنهجة تستهدف السلفيين، شملت سجنهم لفترات طويلة بتهم ملفقة. كانت تلك حملة أمنية لم يُسمح لأحد بالحديث عنها، حسب ما يتذكر نديم حوري، مدير مبادرة الإصلاح العربي، وهو صديق أيضاً لرزان زيتونة. ويضيف حوري في حديث مع DW: “في ذلك الوقت، رتبت رزان لقاء سري لي في مكتبها مع أمهات المعتقلين. لقد قامت بمخاطرة كبيرة من أجل شخص لا تعرفه بشكل جيد، ولكنها أرادت أن تنشر القصة وكانت مستعدة للمخاطرة بحياتها من أجل ذلك”.
“شاهدة” على هجوم الكيماوي
لكن أكثر ما عُرفت به رزان زيتونة كان توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان. ففي أبريل/ نيسان عام 2011، بعد شهر واحد على المظاهرات ضد بشار الأسد، شاركت زيتونة في تأسيس مركز توثيق الانتهاكات، الذي ما زال يعمل حتى اليوم.
وجدت رزان أنها لم تكن تستطيع أن تواصل نشاطها في دمشق بسبب ملاحقة أجهزة الأمن والمخابرات لها. وفي مايو/ أيار عام 2011، اعتُقل زوجها من منزلهما واحتُجز ثلاثة شهور. وبسبب ذلك، تخفت رزان عن أعين السلطات لمدة عامين.
قررت زيتونة الفرار من دمشق إلى دوما عام 2013 بسبب الضغط المستمر على عملها في العاصمة السورية. تم تهريبها إلى معقل الثوار السوريين على تخوم العاصمة، وكان ذلك آخر مكان معروف لها.
استمر مركز توثيق الانتهاكات في تقصي جرائم الحرب، مثل الهجوم بالأسلحة الكيماوية في أغسطس/ آب عام 2013 في الغوطة الشرقية، والذي وثقته رزان وزميلها ثائر هـ. وسقط نحو ألف ضحية جراء الهجوم، من بينهم أكثر من 400 طفل، بحسب مصادر مستقلة.
كتبت رزان آنذاك: “كنت شاهدة على المجزرة. رأيت جثث رجال ونساء وأطفال في الشوارع. سمعت صراخ الأمهات عندما وجدن جثث أطفالهن بين الموتى”.
استقبال عدواني
شكل وصول رزان زيتونة إلى دوما تحدياً للبعض، فقد أدركت وزملاؤها بسرعة أنهم ليسوا موضع ترحيب، وذلك بسبب توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان على يد فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها الفصائل الإسلاموية.
في مايو/ أيار 2013 كتبت زيتونة في رسالة بريد إلكتروني لنديم حوري، الذي عمل في السابق في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، قائلة: “لم نقم بثورة ونخسر آلاف الأرواح كي يقوم هؤلاء الوحوش بتكرار نفس تاريخ الظلم … يجب أن يُحاسب هؤلاء كما يُحاسب النظام”.
طوال عام 2013، شهدت دوما صراعات بين الفصائل المسلحة للسيطرة عليها، بما في ذلك تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”جبهة النصرة”، و”جيش الإسلام”، الذي تمكن من إحكام قبضته على المنطقة إما من خلال احتواء منافسيه أو القضاء عليهم.
بحلول صيف ذلك العام، أصبحت زيتونة مستهدفة بسبب نشاطها. لكن رفضها ارتداء الحجاب أو الالتزام بالقيم الدينية المتشددة تسبب في ردود فعل عدوانية أيضاً من بعض الجماعات المسلحة. ففي إحدى المرات، أطلق مسلحون النار في الهواء وتركوا رصاصة على عتبة منزلها. وفي مرة ثانية، تلقت رزان رسالة تهديد حصلت DW على نسخة منها. الرسالة حوت عبارة “سأقتلك” خمس مرات. قامت DW بالحديث مع عدة مصادر فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لأسباب أمنية، وكلهم أجمعوا على أن الرسالة جاءت من عضو في “جيش الإسلام”.
ويقول ثائر، زميل رزان في مركز توثيق الانتهاكات: “لقد أنشأت مبادرات للنساء وبدأت في توثيق الانتهاكات في سجون المعارضة وأماكن أخرى … كل ذلك جعلها خصماً لجيش الإسلام ونفوذه وأيديولوجيته ورغبته في تأسيس إمارة أو خلافة إسلامية”.
اختفاء بلا أثر
في ديسمبر/ كانون الأول عام 2013، قام مسلحون باقتحام مكتب رزان زيتونة في دوما واختطافها، بالإضافة إلى زوجها وائل حمادة وزميلها ناظم حمادي والناشطة السورية سميرة الخليل. بعدها عُرفوا باسم “رباعي دوما” عقب اختفائهم القسري.
أقارب الرباعي وزملاؤهم قاموا بتقديم شكوى قضائية في فرنسا ضد جيش الإسلام، الذي حملوه مسؤولية اختطافهم. على إثر ذلك، تم اعتقال قيادي في التنظيم المسلح على صلة بالقضية، وحصلت DW على حق وصول حصري إلى أهم استنتاجات القضية.
وتؤكد شهادات العيان التي جمعتها وحدة التحقيق الاستقصائي في DW في تركيا وسوريا بعض تلك الاستنتاجات، وتشير بشكل قوي إلى أن رزان زيتونة ربما كانت في قبضة مسلحين إسلامويين ينشطون في دوما بعيد اختفائها.
وفي سؤال من وحدة التحقيقات الاستقصائية في DW عن ذلك، رفض قياديون في “جيش الإسلام” هذه الاتهامات، وأنحوا باللائمة على جبهة النصرة، المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي، أو على نظام الأسد.
اختفاء رزان وزملائها يبقى أحد أكثر الألغاز غموضاً في الثورة السورية. وبالنسبة لمازن درويش، الذي قام بتأسيس مركز توثيق الانتهاكات مع رزان، فإن اختفاءهم يأتي بالتوازي مع اختفاء الحركة الداعمة للديمقراطية في سوريا.
ويقول درويش: “إن مصير رزان وزملائها يشبه مصير الحركة المدنية السلمية التي حاولت أن تخلق بديلاً أخلاقياً في سوريا. لقد تم سحقها ما بين النظام وتلك الجماعات (الإسلاموية)، التي لا تعدو كونها قمعية أيضاً”.
ملاحظة المحرر: وحدة التحقيقات الاستقصائية في DW ما تزال تحقق في اختفاء رزان زيتونة وزملائها. إذا كانت لديكم أي معلومات تؤدي إلى معرفة مكان تواجدهم أو ظروف اختطافهم، يمكن إجراء اتصال آمن على هذا العنوان: DW.tips@protonmail.com