-حقوق الطوائف- كمشكلة أخلاقية وحقوقية

وصلت ارتجاجات انفجار نظام الحكم في لبنان إلى كل أرجاء المعمورة، وأذهل أداء المنظومة الحاكمة التي فتكت بالبلد، ونكّلت بأهله، كلّ كائن معنيّ بالشأن اللبناني، ويأتيك من يشهر، وسط هذا الركام الفظيع، حجّة “حقوق الطائفة” تبريرًا لمطالبته بحصة حزبه، أو حصته بالأحرى، في الحكومة قيد التشكيل.

“حقوق الطائفة”! إنّها الشماعة التي يُعلّق عليها رجال السياسة اللبنانيون شهواتهم ونزواتهم السياسية السلطوية، منذ تأسيس متصرفية جبل لبنان عام 1861، والتي تصلح فوق ذلك لابتزاز الخصم وإحراجه، واستنفار الجماهير واستثارتها وشدّ عصبها.

ولكنّ هذه الشماعة ليست وليدةَ التعسُّف باستخدام المصطلح واستعماله يمنةً ويسارًا فحسب، بل هي الابنة الشرعية لفلسفة النظام السياسي، و”أسطورته الأخلاقية”، المبنيّتين على مفهوم “حقوق الطوائف”.

إنّ مفهوم “حقوق الطوائف” الذي يطرح مشكلةً عملانية، وظائفية، لفشله في التأسيس لدولة ناظمة لحياة اللبنانيين أجمعين، وفي تكوين سلطة فاعلة، وفي خلق مجتمع متجانس متضامن، آمن ومستقر، يحمل بحدّ ذاته بذورَ تحلُّله وتفسُّخه، طارحًا مشكلةً مفاهيمية أخلاقية، وحقوقية، تدحض نجاعة “الأسطورة الأخلاقية” والسياسية التي بُني عليها النظام اللبناني، والتي تزعم أنّ من شأن توزيع السلطة السياسية والإدارية على أساس طائفي أن يكفل العدل والسوية بين الطوائف، وأن يضمن “العيش المشترك”، والتآلف والوداد بين الطوائف، وصولاً إلى عدم احترابها.

لن نستطرد في بيان التناقضات والأعطاب البنيوية التي تسم بوسمها النظام اللبناني، والتي تجعله عرضةً لاختلالات جمّة، ومستديمة، تُنغّص حياة الأفراد الذين ينتمون إليه، ولم يقصر الباحثون في هوية النظام اللبناني في التدقيق في بناه وهيكلياته وتناقضاته وإفرازاته، غير أنّنا سنحصر نقاشنا في النظرية الأخلاقية، التي اتكأت عليها فلسفة هذا النظام، والتي نفترض أنّ العدالة الطائفية، بما هي ضمان “حقوق الطوائف” التي تشكّل النسيج اللبناني، وحدَها كفيلة في تثبيت هذا النظام وإدامته.

إنّ ما يستفزّ العقل، والعقل السياسي خصوصًا، هو هذه النظرية التي تبرّر بنية النظام القائم، ويحاول الطائفيون اللبنانيون تسويقها، وتسويغها، والمحاججة فيها، ببهلوانيات فكرية، لا نظير لها، من جنس “لبنان الرسالة”، “لبنان التعدد”، “لبنان التنوع”، “لبنان الحريات الدينية”، “لبنان الديمقراطية”، انتهاءً بـ”لبنان العيش المشترك”.

إنّها معضلة أخلاقية، معرفية، تنتفي فيها حقوق الأفراد لصالح مفهوم مبهم هو “حقوق الطائفة”، ونحن سنحاول في هذه المقالة القصيرة بيان عبثية المصطلح وفروغه من المعنى، والتي تدلّ عليهما تطبيقاته الكارثية، الغنية عن الوصف والتحليل، للراسخين في معرفة آليات اشتغال النظام اللبناني.

في اللغة الوضعية، يشير مفهوم “الحق”، في معناه العام، إلى جملة التعابير التي تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر وإلى تأمين المصالح الإنسانية، تحقيقًا للعدالة. هو مفهوم نسبي، متغيّر، يحتمل الصواب والخطأ، وغايته النظرية إحقاق التوازن والعدل بين الأفراد وفي المجتمعات.

أمّا في اللغة الإلهية، فـ”الحق” هو “الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، واليقين بعد الشك، والواجب، والعدل، والأمر المقضي، الذي لا بد منه، وهو من صفات الله”.

في أصولها التاريخية وتجلياتها، تنحو مسألة “حقوق الطوائف” نحو المطلق والمقدس، فهي حقوق طوائف دينية، تكتسب مشروعيتها من السماء، بينما تغرق المصطلحات السياسية المعاصرة، في الأرضي والدنيوي واليومي والمحقق. إنّنا في مواجهة خطّين لا يلتقيان.

وإنّنا لا نبحث هنا، لا في حرية المعتقد، ولا في حرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، والتي تكفلها كل الأنظمة الديمقراطية وتُعدّ حقًّا من حقوق الإنسان.

إنّ مفهوم “حقوق الطوائف” الغائم والمطاط، هو حقّ بالجمع، ويتعارض مع مفهوم “حقوق الإنسان” المفردة، وشرعة “حقوق الإنسان” ذاتها، التي جاءت مآلاً للاعتراف بالإنسان بصفته كائنًا مستقلّ العقل والإرادة، وغايةً بحدّ ذاته، لا وسيلة لقيمة تتعداه، كالدين، والطائفة، والقومية، وغيرها.

فضلاً عن ذلك، نحن ضحايا خدعة لغوية، فما يسمى “حقوقًا”، ليس في التعريف الدقيق سوى امتيازات، فحين تستأثر إحدى مكونات المجتمع، كما هو حاصل، بعائدات وغنائم وصلاحيات دون المكونات الأخرى، وخارج التنافس، يُعدّ استئثارها امتيازًا، فالحقّ شامل وثابت، والامتياز فئوي أو فردي. تنتمي لفظة “امتياز”، في اللغة العربية، إلى عائلة “ميّز”، وفي اللغة الفرنسية إلى عائلة “حرم” (Privilege, Priver). من هنا يتّضح أنّ الفرق يكمن أيضًا في الثقافة، وفي رؤية العالم، فمن يُميّز، يحرم الآخرين من حقوقهم، وبما أنّ اللفظة تحمل في متنها ضدّها، فهي تُولّد شعورًا مشروعًا بالغبن لدى الآخرين، نجد صداه في حالة تربّص الطوائف اللبنانية بعضها ببعض، وابتزازها بعضها بعضًا، ومحاربتها بعضها بعضًا، وتسابقها إلى تناتش موارد الدولة بصفتها “حقوقًا طائفية”.

إنّنا أمام مصطلح أخلاقي سياسي يُلغي الفرد المفرد، ويختزله ببُعده الديني، بمعتقداته وشعائره وطقوسه، نافيًا أبعاده الاجتماعية، الاقتصادية، المهنية، الثقافية، الفكرية، والأنطولوجية، ليدمجه في كتلة هلامية مجردة، تضم أطيافًا وطبقات وشرائح، ومهنًا، ومسارات، وأهواء، وديناميات وتحولات، يتمّ اختزالها جميعًا بطائفة الفرد الدينية، بالبُعد الروحي العبادي الطقوسي الموروث، لا غير.

كما يفترض مبدأ رعاية “حقوق الطوائف” وصيانتها التسليم بأنّ لكلّ طائفة، بمفردها، حاجات اقتصادية، واجتماعية، وتربوية وثقافية وتنموية ومعرفية خالصة، مخصوصة، مستقلة، بالإضافة إلى رؤية استراتيجية خارجية مستقلة هي الأخرى، على ما هو حاصل، وعلى هذه الصورة يتمّ ربط الانتماء السياسي والوجودي للفرد، ربطًا قسريًّا بوثيقة الولادة، التي يُحرّرها مختار البلدة، والتي يذكر فيها مذهب المولود، ومكان ولادته، ورقم سجلّه العائلي، دون سائر الاعتبارات.

يجافي هذا الافتراض الحقيقة الموضوعية العلمية، ويعيد إلى الواجهة، وبقوة، مسألة “موقع الهوية الدينية” من كينونة الإنسان المعاصر المعقدة، وحتى الإنسان القديم، فالتطرّق إلى حقوق الجماهير، الاقتصادية، والمعرفية، والثقافية، والتربوية، والتنموية، وغيرها، من باب الهوية الدينية، مضادّ لمنطق الحقيقة، ولمنطق وحدة الطبيعة البشرية، وتشابه احتياجاتها، فضلاً عن أنّ هذا الافتراض يحوّل انتماء الفرد إلى طائفة دينية محددة، إلى حقيقة متعالية، جوهرية، ثابتة، غير قابلة للنقاش، ويتمّ اختزال أبعاد الإنسان الهوياتية المتنوعة، ومساره ومصيره، بعقيدته الدينية، أي بسمة أحادية موروثة، توظّف بخبث بالغ في الرهانات السياسية.

وبالتالي، يحيا اللبناني المشطور بين طائفته ودولته، حقوقها وحقوقه، حالةَ ازدواجٍ وتناقض، ونادرًا ما يُفلح في التوفيق بينهما، فالوقائع تضطرّه إلى اللوذ بطائفته واستعطافها ضدّ الدولة المتنازع عليها، والمفكّكة، والغائمة، وإن خرج من هذه المعادلة، واختار لنفسه دربًا خاصًّا، عاش أعزلاً، يصارع طواحين الهواء، وليس أمامه سوى الاحتفاء بحريته، والتغرغر بتمرّده، وتحشّم أعباء تاريخه اليومية، دون مرجعية رسمية تحميه وتُظلّله.

إنّ المعركة من أجل التغيير في لبنان، هي، وفي جوهرها، معركة مضادة لمفهوم “حقوق الطوائف” من أجل “حقوق المواطن – الفرد”، ولمفهوم وحدة الطائفة والطوائف من أجل “وحدة الشعب” و”وحدة الانتماء”، و”وحدة الدولة وصلاحياتها ونفوذها وسيادتها”، وعلى العموم من أجل الوحدة ضدّ التشتّت والتشرذم والتصارع.

ثمّة بريق أمل يلمع ويتوهّج في هذا الشواش السديمي، هو قوام خطاب الثوار المدركين والمتبصرين، المنخرطين في ثورة 17 تشرين 2019 ، والذين ينادون بالاعتراف بهم وبحقوقهم كمواطنين أفراد، مكتملي الكرامة والأهلية، مستقلين بذواتهم، لا كممثلين لعصبية دينية أو طائفية، أو إثنية، تجلب لهم ويلات الوصاية والتحكم والفوضى، حتى الانهيار.

عايدة الجوهري

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
40 ⁄ 20 =