في الاسبوع الماضي، ومع حلول العام الجديد اعلنت الولايات المتحدة الامريكية ان اسطولها البحري سيشهد انضمام حاملة طائرات عملاقة جديدة ستحمل اسم (الفلوجة LHA-9 (USS Fallujah، وان الامر قد صدر بالتعاقد على بنائها بتكلفة 2.4 مليار دولار، لتكون الرابعة من نوعها والاكثر تطوراً..
وحسب تصريح وزير البحرية الامريكي فإن اختيار هذا الاسم جاء لتخليد المعركتين اللتين خاضتهما قوات المارينز الامريكية وحلفائها في مدينة الفلوجة العراقية، وقد كانتا معركتين قاسيتين امام (عدو) شرس ومقتدر استطاع ان يدافع عن المدينة بصورة كفوءة. وما قصده ب(العدو) هو المقاومة العراقية الوطنية التي تصدت الى محاولات القوات الامريكية لاستباحة المدينة، هذه المقاومة المستمدة شرعيتها القانونية من المادة 51 لميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي وحقوق الانسان من كونه حق طبيعي للدفاع عن النفس ضد اي احتلال خارجي. وبالنتيجة اضطرت هذه القوات بجبروتها وثقلها العسكري الكبير الى توقيع اتفاقية (هدنة) مع مدينة الفلوجة الصغيرة، واعتبر ذلك حادثة فريدة في تاريخ الحروب التي خاضها الجيش الامريكي.
حسب المعلومات المنشورة فإن موضوع تخليد معركة الفلوجة كانت مسالة مثيرة للجدل بين الاوساط العسكرية الامريكية الرسمية وغير الرسمية منذ 2010. وعلى ما يبدو أن تردد ادارة البيت الابيض في اتخاذ قرار بهذا الصدد يؤكد انها غير متأكدة ماذا سيخلد استخدام اسم الفلوجة. هل انه سيخلد (انتصارا) مشكوك بامره؟ ام أنه سيخلد هزيمة من هزائمها العسكرية الكبرى؟ خصوصاً وان الفلوجة اسم مستفز للجنود الذين خدموا هناك، حيث ان التسمية التي كانت تطلق على الفلوجة انذاك بأنها مقبرة الامريكيين!! أم انه سيخلد الكارثة الانسانية وجريمة الحرب التي ارتكبتها في الفلوجة باستخدامها الاسلحة المحرمة بإعتراف المارينز وشهادات جنودها انفسهم؟ أم ستخلد حاملة الطائرات هذه المقاومة الوطنية العراقية الشرسة التي واجهتها الولايات المتحدة وارغمتها على التفكير بإلانسحاب المبكر من العراق؟
تعرف الفلوجة، التي تبعد خمسون كيلومترا شمال بغداد على نهر الفرات، بانها مدينة المساجد وبكونها مدينة معروفة بتقاليدها العربية الاصيلة وبتمسكها بالدين الاسلامي الحنيف. وضعتها الحسابات الجيو-استراتيجية الامريكية في اولوياتها بسبب موقعها الاستراتيجي المهم كونها تقع وسط العراق وعلى الطريق الذي يربط العراق بسوريا والاردن، مع وجود قاعدة الحبانية الجوية التي كانت من اهم الاهداف اللوجستية لقوات الاحتلال. ثم جاء استقبال ابناء هذه المدينة للقوات الغازية بالحجر والحصى والاحذية ليعطيهم الانطباع بأنها مدينة رافضة للاحتلال ولن ترضخ. وعلى هذا الاساس تعاملت القوات الامريكية، ومنذ البداية، بقسوة وعنف وتصرفات لا اخلاقية مع اهالي المدينة. وكانت الدوريات والجنود على الدبابات في أزقة وشوارع المدينة يستفزون المارة ويلوحون بالسلاح بين الحين والاخر لفرض السيطرة والسطوة.
ووصل الامر الى قيام القوات الامريكية الفرقة 82 المحمولة جواً بإستخدامهم مدرسة كمقر عسكري لهم وسط المدينة الامر الذي أثار حفيظة الاهالي وعمت مظاهرات تطالب بمغادرة الامريكان، حَوَلَها جنود التحالف الى عنف دموي حيث قتلوا أكثر من 17 متظاهراً. تصاعدت مظاهر المقاومة لتصبح مواجهات مسلحة بإستخدام التكتيك الاستراتيجي اضرب واهرب أو الكر والفر للاستنزاف وإثبات القدرة على رفض الوجود الامريكي في المدينة.
وتوترت الاوضاع حين تصدى أهالي المدينة للشركة الامنية العسكرية الخاصة سيئة الصيت (بلاك ووتر) وقتلت اربعة من افرادها في كمين محترف وعلقت جثتين منها على جسر الفلوجة الرئيسي، وذلك بسبب رفض ابناء المدينة لما تقوم به قوات التحالف وافراد هذه الشركة من سلوكيات اعتبروها تجاوزات غير قانونية أولاً، وغير اخلاقية وتناقض الاعراف والتقاليد وتشكل انتهاكا لحرمة اعراضهم وخصوصية عوائلهم ثانياً، (علماً بأن شركة بلاك ووتر تتبع قواعد اشتباك خاصة بها تقوم على أطلق النار أولاً ثم أسأل عن السبب، وأقتل وأترك الضحية على قارعة الطريق!! ووفق ذلك بادر حراسها بإطلاق النار وقتل العراقيين عمداً في أكثر من 163 حادثة مروعة دون اية عواقب قانونية على الشركة او متعاقديها او الدولة التي تعاقدت معها. احد منتسبيها حينما سؤل عن سبب اطلاقه النار على العراقيين بدون سبب قال لانه يريد ان يقتل اقصى ما يستطيع من العراقيين انتقاماً لأحداث 11/سبتمبر!! التي ليس للعراقيين فيها اي ذنب)، كما تزامن هذا الامر مع فضحية ابو غريب وتعذيب المعتقلين العراقيين.
إثر ذلك في ابريل/نيسان 2004 قادت القوات الامريكية معركة الفلوجة الاولى والتي اطلقت عليها (اليقظة والعزم)، خسرت فيها 27 جنديا، إلا انها قتلت 200 من رجال المقاومة المسلحين وأكثر من 600 مدني غير مسلح اغلبهم من النساء والاطفال، (الارقام الواردة في المقال حسب احصائيات البنتاغون المنشورة في صحف عالمية ومواقع رسمية)، مع رفع سقف العنف بشن هجمات مفاجئة وعمليات تفتيش ومداهمات واعتقالات يومية واسعة النطاق على المدنيين لمطاردة رجال المقاومة، تخللتها حالات قسرية غير انسانية تجافي الاعراف العشائرية بأخذ النساء بدلاً من الرجال أو من اجل ارغامهم على اعطاء المعلومات عن المقاومين.
وقد أُرتُكِبَت الكثير من الانتهاكات اللاإنسانية بهذا الامر ومن بينها مثلاً في حالة مداهمة بيت ولا يكون الرجل المطلوب او المشتبة به موجود يقوم جنود المارينز بإعطاء نساء البيت مهلة دقائق للخروج من البيت قبل ان يتم نسفه بالكامل وأمام اعينهن مع ترك النساء والاطفال بالخارج بلا مأوى. ومع ذلك استطاعت المقاومة ان تجبر القوات الامريكية على برم اتفاق مع وجهاء اهل المدينة يفضي الى خروج جيشها من المدينة واطرافها وتسليم المهمة الامنية لقوات الشرطة والجيش العراقي (لواء الفلوجة).
إلا أن القوات الامريكية بعد اشهر قليلة اعتبرت ان القوات العراقية غير قادرة على هذه المهمة وأن قوة المقاومة التسليحية والاستباقية في تصاعد وانتشار حتى خارج الفلوجة، وقررت العودة مرة اخرى للمدينة وفرضت حصارا شديدا عليها وقطعت الامدادات عنها ومنع رجالها وبالتحديد من هم في سن التجنيد من الخروج منها. وفي الحقيقة كان الجيش الامريكي يحضر لأخذ الثأر والانتقام من سكان المدينة الى حد الذي شنّ فيه هجوماً كبيراً وحرب مدن في معركة الفلوجة الثانية التي اطلق عليها (فانتوم فيوري)، بدأت في 7/11 وانتهت 23/12 من ذات العام، وشارك فيها قرابة 12.000-15.000 جندي أميركي، قُتل منهم 100-120 من قوات النخبة المارينز وأصيب نحو 800-1000 آخرين ( هناك من يشير الى ان اكثر من 151 قتيل امريكي في المعركتين وان اكثر من 1000 جريح. سبب الاختلاف في الاحصائيات هو ان الولايات المتحدة دأبت منذ بداية الاحتلال على عدم اعتبار موظفي الشركات العسكرية الخاصة والجنود الاميركان الذين لم يحصلوا على الجنسية الامريكية، من ضمن قتلاها. وبالوقت نفسه لكي لا تعترف بإستخدام هذه الشركات في معارك قتالية).
ناهيك عن خسائر لقوات التحالف (مثل 4 قتلى 10 جرحى من القوات البريطانية). وتواطئت (حكومة أياد علاوي انذاك الذي اطلق هو على المعركة بعملية الفجر الجديد)، حيث تكبدت 8 قتلى و 43-55 جريحاً (WIKI)، بالمقابل ذكرت احصائيات تقريبية بأن عدد افراد المقاومة كان يتراوح بين 3000-4500 فرد، قتل منهم ما يقارب 2000 مقاوم واعتقال 1200.
اجمعت المصادر على ان رجال المقاومة هم عراقيون ومن المتمسكين بوطنهم وعروبتهم ورافضين الاحتلال، والذين استطاعو ان يميزوا انفسهم عن بقية التسميات التي اطلقتها الادارة الامريكية انذاك من ارهابيين وعرب واجانب وغير ذلك. لم تفرق الهجمات العسكرية بين مواقع المقاومين والمدنيين لانه تم الافتراض أمريكياً بأن 70-80% قد غادروا المدينة الا ان واقعية الحصار والتشديد على عملية الخروج والدخول من والى المدينة يثبت غير ذلك. قد تكون القوات الامريكية قد شجعت ودفعت اهالي المدينة الى المغادرة في معركة الفلوجة الاولى وترك مساكنهم، ومنها شهد العراق اولى عمليات التهجير القسرية التي ظهرت بعد 2003، إلا إن الكثير منهم رابطوا في مخيمات حول اطراف المدينة وبفعل عملية غلق المدينة بالكامل وفرض حصار عليها استعداداً للمعركة الثانية منع حتى الصليب الاحمر من تقديم المساعدات اليهم انذاك. فحسب شهود عيان ان هناك عددا كبيرا من المديين ظلوا عالقين داخل المدينة (ذكر تقرير BBC أن 50% نصف سكان المدينة البالغ عددهم 300.000) بما فيهم نساء واطفال كبار في السن تعرضوا الى الخطر وراح اثر هذه المعركة ضحايا لما يقارب 800-1000.
كان من الواضح أن المعركة الثانية كانت أشد عنفاً ودمويةً من الاولى. فالطرفين غير متوازنين بالامكانيات والقدرات، (مدينة صغيرة مقابل اقوى دولة في العالم) إلا إن القوات الامريكية وحلفائها استندوا على قواعد الاشتباك الساحقة من خلال التعامل مع الفلوجة باعتبارها منطقة اطلاق نار حر بإستخدام القوة النارية المدمرة وكل الاسلحة المحرمة دوليا، بحيث تم قصف المدينة ب14000 قذيفة مدفعية وهاون وبأكثر من 2500 طلقة مدفعية رئيسية، مع إصابت أهداف عبر ما لا يقل عن 540 غارة جوية (مع استخدام تقنية طائرات بدون طيار)، مع نشر أسلحة متفجرة ثقيلة في مناطق ذات كثافة سكانية عالية، ناهيك عن تدمير البنى التحتية ودمار شامل للمباني والجسور والجوامع والمستشفيات والمنازل (تم استخدام الجرافات المدرعة لتسوية ما يقارب 10.000 منزل وبناية مع الارض)، بالاضافة الى استخدام القناصين للقتل الفردي والجماعي بدون تفريق.
مقابل ذلك جاء ضعف القوات الامريكية في حرب المدن او الشوارع والازقة الضيقة والعلم بالتضاريس الجغرافية للمدينة ليعطي ميزة استفادت منها المقاومة الوطنية عبر شن هجمات ناجحة مفاجئة ومناورات مضادة تخللها دعم نفسي-معنوي بمرتكزات ثلاث (التماسك، استنزاف العدو، القتال حتى الموت) مع احتراف عسكري-مهني وهو ما لم يكن مطلقاً في الحسابات الامريكية. الامر الذي انعكس على تصعيد شراسة المعركة بإستخدام اسلحة فتاكة محظورة دولياً لانقاذ الموقف وحفظ ماء وجهة الادارة الامريكية دون التفكير بالضحايا المدنيين وبالنتائج المستقبلية.
وهذا ما جاء بشهادات الشهود وخبراء التحليل العسكري، فحسب تقرير نشر في الغارديان ان ضباط المشاة تباهوا بدورهم في الهجوم على الفلوجة وبإستخدام المواد الكيمياوية حيث ذكروا “أثبت الفسفور الأبيض أنه ذخيرة فعالة ومتعددة الاستخدامات استخدمناه في الفلوجة، كسلاح نفسي قوي ضد (المتمردين) في خطوط الخنادق وثقوب العنكبوت عندما لم نتمكن من التأثير عليهم باستخدام قنابل شديدة الانفجار، لطردهم وإخراجهم”. كما ذكرت الواشنطن بوست انه في المعركة “أطلقت نيران المدفعية قذائف الفوسفور الأبيض التي خلقت حاجزًا من النار لا يمكن إخماده بالماء. وأفاد المتمردون [المقاومين] أنهم تعرضوا للهجوم بمادة أذابة جلدهم، وهو رد فعل يتفق مع حروق الفوسفور الأبيض”.
كما ذكرت الاندبندت نقلاً عن فلم وثائقي عرضه التلفزيون الايطالي ان شهادات الجنود الذي شاركوا في المعركتين اكدوا على مسألة استخدام الاسلحة الكيميائية المحظورة بأنه قد تم فعلياً، وقال بذلك جندي امريكي سابق قاتل في الفلوجة” سمعت بأنهم سيستخدمون الفسفور الابيض في الفلوجة.. الفسفور يحرق الجثث، وفي الواقع يذوب الجسد حتى العظام… رأيت أجساد النساء والاطفال المحترقة، الفسفور ينفجر ويشكل سحابة وأي شخص داخل دائرة نصف قطرها 150م ينتهي به الحال (يموت)”. وحسب مجلة الفورن بولسي فقد اعترف احد جنود المشاة البحرية الذي قاتل في الفلوجة أيضاً بأنهم استخدموا الاسلحة المحرمة وقال “كنت ضابط مدفعية واطلقنا مئات القذائف على الفلوجة وقتلنا على الارجح مئات المدنيين”.
وقد اثبتت حالات الزيادة في الامراض الخبيثة مع ولادة اطفال بتشوهات خلقية غير مألوفة علمياً وتلوث بيئي لمناخ وارض الفلوجة بأنها نتائج لاستخدام المواد الكيميائية في معركة الفلوجة الثانية. وبهذا فإن اختيار اسم الفلوجة لحاملة الطائرات الجديدة سيكون في الحقيقة تخليدا للمقاومة العراقية ورفض الاحتلال، وبالوقت نفسه هو تأكيد واعتراف امريكي غير مباشر ببسالتها، وشاهد على جريمة الحرب التي ارتكبها المارينز في الفلوجة اكثر مما هو تخليد لقتلى المارينز. وهذا الامر شعرت به اطراف امريكية انتقدت اختيار هذا الاسم.
ان اسم الفلوجة سيظل يؤرق الجيل الامريكي الذي شارك في غزو العراق، وخير دليل على ذلك ما قاله الرئيس الامريكي الحالي جو بايدن في معرض حديثه عن انسحاب القوات الروسية من مدينة خريسون الاوكرانية، وقال الانسحاب من الفلوجة، وحسب النيويورك تايمز أنه حينما حاول تفسير سر هذا الخلط والخطأ قال ان حرب العراق دائماً في تفكيره لانه فقد ابنه في العراق (وهذا غير صحيح لان ابنه خدم في العراق لمدة سنة واحدة فقط وخرج من هناك في 2009 وتوفي في 2015 لاسباب مرضية).
رحم الله شهداء الفلوجة وضحاياها الابرياء وشهداء العراق جميعاً
د. سوسن إسماعيل العساف – أكاديمية وكاتبة عراقية