يتزامن شهر الصيام في تونس مع أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة في ظل مساعٍ للسلطة لكبح الغلاء الذي اجتاح كل القطاعات. لكن رغم الأزمة يحافظ التونسيون على حد أدنى من التفاؤل للاستمتاع بشهر رمضان.
لم يتخلف شكري عبيد عن موعده المعتاد بنقطة بيعه داخل السوق المركزي بالعاصمة. لكن اليوم الأول من شهر رمضان يحمل آمالا مختلفة كونه يتطلع الى تعويض أشهر من الركود لنشاطه في بيع “الملسوقة”.
و”الملسوقة” ورقة من العجين يستخدمها أغلب التونسيين في شهر رمضان حيث يتم حشوها بخليط من البيض والبقدونس والتونة مع بطاطس مسلوقة قبل وضعها في المقلاة لتشكل بذلك أكلة “البريك”، التي لا تغيب عن الأطباق الرمضانية.
على مدى عدة أشهر، هبط حجم معاملات شكري، وتحديدا منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، التي أثرت بشكل كبير على الامدادات العالمية للحبوب، ما أثر بشكل مباشر على مورد رزق الآلاف من العائلات التونسية التي تُعِدُّ الملسوقة في البيوت.
يتحدث شكري بقلق لـDW عربية: “الدقيق والسميد غير متوفرين بالكميات الكافية؛ لهذا نضطر إلى التزود بها من السوق السوداء ويعني ذلك بأسعار أعلى. لكن لا مفر من ذلك إذا ما أردنا الاستمرار في البيع”.
يضطر شكري إلى تقديم إيضاحات مستمرة لزبائنه لشرح أسباب الزيادة في أسعار الملسوقة هذا العام. ويضيف “الأرباح تقلصت مقارنة بالسنوات الماضية. نجني أقل من الحد الأدنى”.
زادت أسعار الملسوقة بمعدل 30 بالمئة عن أسعار رمضان 2021 لتصبح في حدود 1.3 دينار (حوالي 40 سنتا). وإجمالا تراوحت الزيادات في أسعار المواد الغذائية بما في ذلك اللحوم البيضاء والحمراء ما بين 30 و50 بالمئة.
ووفق بيانات رسمية بلغت نسبة التضخم قبل حلول شهر رمضان10.4 بالمئة وهي نسبة قياسية لم تعرفها تونس منذ عقود. مع ذلك يعتقد الخبير الاقتصادي رضا اشكندالي في حديثه لـDW عربية أن النسبة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير إذا ما تم التركيز على السلة الغذائية، وهي على الأرجح عند حدود 25 بالمئة، وفق الخبير.
وللمفارقة فإنّ آمال شكري في تحقيق أرباح أفضل من بيع الملسوقة هذا العام، تظل متوقفة على مدى قدرة الدولة في السيطرة على أسعار باقي المواد الغذائية وكبح الغلاء، الذي يقض مضجع الكثير من التونسيين خلال الأيام الأولى لشهر رمضان.
مراقبة الأسعار في الأسواق التونسية
وضع خانق
ومثل أغلب الوافدين على السوق المركزية منذ ساعات الصباح الأولى، يتطلع لطفي بن سعيد لاقتناء الموز المستورد من مصر، بعد أن حددت الدولة أسعاره، ولكن بعد أن ظل منتظرا في الطابور نفد الموز خلال دقائق فقط قبل وصول دوره.
وبعد أن قام بتمشيط نقاط البيع في السوق، قال لطفي بأسف لـDW عربية: “الأسعار لا تطاق لا يمكنني مجاراة الوضع. تم تسعير الموز هنا ولكن في عدة نقاط بيع وصل سعره إلى 10 دنانير”.
لا يتجاوز مرتب التقاعد الذي يتقاضاه لطفي بعد 18 عام قضاها في العمل بوزارة الثقافة، 120 دولارا شهريا، وهو مبلغ يقل عن الأجر الأدنى المحدد بنحو 150 دولارا. وفي حديثه لـDW عربية يعترف بأنه لا يملك رؤية واضحة لقضاء شهر رمضان، مضيفا بتنهيدة عميقة: “لا أريد التفكير كثيرا في الوضع أحاول العيش كل يوم بيومه. نعيش بما سيأتي به الله”.
وعلى عكس لطفي فإن وقع الأزمة الاقتصادية الخانقة في تونس كان أقل وطأة على العسكري المتقاعد محمد الهادي، البالغ من العمر 75 عاما، والسبب هو أن اثنين من أبنائه يعملان في أوروبا، بألمانيا وفرنسا، ويوفران له امدادات مالية بصفة شهرية، الأمر الذي ساعده على مجابهة كلفة المعيشة بأريحية.
ويقول الهادي لـDW عربية: “ليس هناك شك بأن المعيشة اليومية أصبحت مكلفة. الفقراء عاجزون عن مجابهتها ومن جهة أخرى ينفق التونسيون الكثير من الأموال على الكماليات. هناك أزمة عالمية وعلينا أن نكون واعين بهذا الأمر ونعدل من سلوكنا”.
اعتمد الهادي على استراتيجية “فعالة” لتفادي الهدر المجاني للمال، فهو لا يدخن ولا يجلس في المقاهي ويشتري ملابس مستعملة من الأسواق الشعبية. ويضيف ضاحكا: “حتى تصمد أمام الأزمة وتتدبر أمرك عليك أن تكون متعدد الاختصاصات والمواهب”.
مساعدات ومبادرات
ولمساعدة العائلات المحتاجة، تستعد منظمات من المجتمع المدني لتنظيم موائد إفطار جماعية، وهو تقليد سنوي منتشر في الأحياء الشعبية. كما تعمل منظمة “الهلال الأحمر” على مد يد العون للعائلات الفقيرة والاستجابة لحاجياتهم الغذائية في شهر رمضان. ويطلق على هذه العائلات تسمية “أصحاب الحق”.
تونس: تمور في شهر رمضان معروضة للبيع
زياد سلايمي ورفاقه، الناشطون في فرع المنظمة بحي ابن خلدون الشعبي غرب العاصمة تونس، يحاولون تجميع ما أمكن من المشتريات من المتبرعين أمام إحدى المساحات التجارية حيث نصبوا خيمتهم لتلقي المساعدات.
ويقول زياد لـDW عربية: “نجمع التبرعات ونقدمها لأصحاب الحق وقمنا بتسجيل نحو 250 عائلة في المنطقة، وهي غير قادرة فعلا على مجابهة المصاريف اليومية. لدينا أيضا عائلة تتضمن ثمانية أطفال”.
وعلى غير المعتاد فإن المساعدات الاجتماعية بدأت تطال بشكل متزايد عائلات منتسبة إلى الطبقة الوسطى. ويرجع زياد ذلك إلى التقلبات التي شهدتها البلاد منذ تفشي جائحة كورونا، ويضيف زياد: “هناك من ساءت أوضاعهم بشدة”.
وبسبب تلك التقلبات تعتقد المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك أنه لم يعد ممكنا تحديد المعايير بدقة لضبط متوسط الدخل للمواطن التونسي في ظل انفلات الأسعار، الذي اجتاح أيضا قطاعات أخرى بخلاف المواد الاستهلاكية، مثل النقل والمحروقات والانترنت والإيجار والطاقة.
ويقول عمار ضيا، رئيس المنظمة، لـDW عربية: “كنا نتحدث عن متوسط دخل يتراوح بين 1000 و1500 دينار. هذا الدخل لا يكفي لتغطية كلفة المعيشة في تونس اليوم”.
وفي تقدير ضيا فإن الدولة وحدها تتحمل مسؤولية اشتعال كلفة المعيشة بتركها الأسواق تتحكم بقانون العرض والطلب. ويضيف عمار ضيا في حديثه “الدولة تركت الحبل على الغارب ومن مسؤوليتها حماية المستهلك والمواطن؛ بأن تحدد الأسعار وبخاصة المواد ذات الإقبال الواسع”.
وفي مسعى للتحكم في الأسعار فرضت السلطات حزمة من الإجراءات قبل حلول شهر رمضان كتحديد هامش الربح وأسعار البيع القصوى لبعض المنتجات الحيوية كالبيض والدجاج وبعض الفواكه مثل الموز والتفاح ووضع نقاط بيع “من المنتج إلى المستهلك” ذات الأسعار المنخفضة في عدة ولايات وفرضت رقابة على تجار التفصيل وسلاسل التوزيع.
ارتفاع ملحوظ في أسعار المواد الغذائية الأساسية بتونس
إجراءات غير كافية
يوضح الخبير الاقتصادي رضا اشكندالي لـDW أن سياسة تحديد الأسعار لن تكون كافية إذا لم ترفق بإجراءات للتحكم في ارتفاع كلفة الإنتاج والمواد الأولية في ظل تراجع قيمة الدينار، بهدف حامية الفلاحين ومساعدتهم عبر مراجعة الأداءات وعدم تركهم لوحدهم يتحملون الخسائر.
ومن جهة أخرى يلفت الخبير الاقتصادي إلى المخاطر المحتملة من وراء سياسة تحديد الأسعار على فرص الاستثمار، فضلا عن الشكوك بشأن مدى قدرة الأجهزة الرقابية على ضبط الأسعار المناسبة في الأسواق.
وعلى سبيل المثال تعمل في السوق المركزية فرقة قارة للمراقبة الاقتصادية من أجل معاينة الأسعار عن كثب وضمان التزود المنتظم بالسلع وعرضها للعموم. وخلال جولتها بالسوق تقول لطيفة الجدي، التي تعمل متفقدة لدى فرقة، لـDW عربية: “صدرت قرارات ويجب احترامها، لا يجب أن يتجاوز سعر الموز خمسة دنانير وسعر التفاح 4.5 دينار”.
وتضيف بتفاؤل في جولتها: “يأتي رمضان بالخير والبركة والآن البداية المشرفة”. لكنّ الشكاوي من المواطنين كانت تصل تباعا إلى لطيفة بسبب خرق الأسعار المحددة للموز في عدد من نقاط البيع بالسوق.
أما سيف الله الباي، بائع الفواكه والتمور، فلا يبدو متفقا مع السياسة الصارمة لتحديد الأسعار وهوامش الربح ويعلق على ذلك لـDW عربية: “عند الغلاء المشط يكون من المهم تحديد الأسعار لكن إذا كان هناك توازن بين العرض والطلب فالأفضل أن يحدد السوقُ السعرَ”.
سيف الله الباي بائع الفواكه والتمور
ومهما يكن من أمر فإن الجلبة في السوق المركزي لا تتوقف، بينما يتزايد توافد التونسيين لاقتناء حاجياتهم لشهر رمضان، في مشهد لا يعكس حقيقة الأزمة المتفاقمة.
ويقول الباي بينما ينتظر وصول شحنة ثانية من الموز: “التونسيون أوفياء لعاداتهم ويحبون الحياة. إذا كانت لدى التونسي خمسة دنانير أو 30 أو 100 دينار فالأمر سيان بالنسبة إليه، سيصرفها على الفور حتى لو كان رصيده البنكي سلبيا”.
ويضيف وسام الجلاصي، الذي يبيع الأسماك منذ نحو ثلاثة عقود في السوق، قائلا: “في العادة تبدأ الأمور دائما بصعوبة في الأيام الأولى من شهر رمضان لكن تتحول بعد ذلك إلى انفراج تدريجي. يأتي الله ببركته”.
طارق القيزاني – تونس – DW عربية