تسليع المعرفة الإسلاموية لدى الغرب مبني على مغالطات فكرية

يتعامل الكثير من الباحثين والمؤسسات مع معالجة القضايا والمواضيع التي تتعلق بفكرة الإسلام السياسي على أنها سلعة تباع وتشترى، ما أفرز أسلوبا جديدا يطلق عليه الأكاديمي والباحث المصري وائل صالح مصطلح “المعرفة الإسلاموية”، والتي قال في حوار مع “العرب” إن جهود تسويقها لدى الغرب مبنية على مغالطات فكرية بشأن الإسلام السياسي تستثمر في تأصيلها مراكز أبحاث عالمية لأسباب بعيدة عن المعايير العلمية، بل فقط تقودها مساعي إرضاء قطر وتركيا حيث تتحرك في كل اتجاه لتبييض الإسلامويين.

ثمة قراءات ملتبسة تطرحها بعض الدوائر الأكاديمية الغربية بشأن الإسلاموية، تتكئ على إمكانية التوأمة مع الحداثة وسلمية الظاهرة وبدء تحولها للقبول بالديمقراطية. ومع أن المفهوم لا يُهيمن تماما على تعاطي علماء السياسة والأنثروبولوجيا في العالم مع الإسلاموية التي تركز على اعتبار الإسلام نظاما سياسيا للحكم، إلا أنه يؤثر في الرأي العام الدولي ويصب في خانة تبييض صورة تيار الإسلام السياسي باعتباره منهجا للتغيير.
وتتلاقى مصالح بعض الدول الغربية وأجهزتها الاستخباراتية، مع الطرح الأكاديمي المُتعاطف مع الإسلاموية، ما يُنتج تغليبا ودعما لقواها لمواصلة مشروعاتها في هدم مجتمعات عربية ومؤسسات وطنية.
يمثل تفكيك القراءة المغلوطة ضرورة لازمة تدفعنا إليها المواجهة المفترضة مع الإرهاب الديني. وهذا ما يؤكده وائل صالح الأكاديمي والباحث في العلوم السياسية، في حوار مع “العرب”، يشير فيه إلى أن المقولات التي يعتمد عليها المتعاطفون مع الإسلاموية غير دقيقة ومبنية على قراءات غير صحيحة.
وقال إنها تحولت بمرور الوقت إلى مسلمات تصب في صالح الإسلام السياسي، وتدفع تلقائيا، ليس فقط للتعاطف معه، لكن للتعاون مع حركاته والذود عنها في الأكاديميات الغربية.
ووائل صالح هو مدرس بمعهد الدراسات الدولية بجامعة “كيبك” في مونتريال بكندا، وحصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة شير بروك بكندا سنة 2011، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة مونتريال سنة 2016 في دراسة علاقة الديني بالسياسي في بعض الدول العربية. وعمل باحثا في مركز الدراسات الدينية في جامعة مونتريال، وتخصص في الإسلاموية وتاريخ الأفكار في العالم العربي.
وعمل صالح باحثا مشاركا بكرسي “راؤول دنديرون” للدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية بجامعة كيبك في مونتريال، ومديرا لوحدة التحديات المعرفية والمنهجية في دراسات التطرف باسم الإسلام لدى البرنامج الجامعي لدراسة الإسلام في أوروبا في مدينة ليون بفرنسا (بلوريال) وشارك في تأسيس معهد دراسات ما بعد الربيع ويعمل مديرا له.
وصدرت له العديد من الكتب باللغة الفرنسية من بينها: “في البحث عن حداثة في الإسلام.. طرق معاصرة”، و”الإسلام السياسي في زمن ما بعد الربيع العربي: هل دخلنا عصر موت الإسلاموية”، و”مفهوم الدولة في الفكر المصري الحديث والمعاصر: ما بين التواصل والتغير والقطيعة”.

قراءات مرتبكة

وائل صالح يرى أن علاقة السياسي بالديني مجرد افتراض تاريخي أو حدث وقع في زمان ما وانتهى

كشف وائل صالح أن بعض الباحثين في الدول الغربية شبهوا حركات الإسلاموية بـ”لاهوت التحرير”، رغم أن الطبيعة الخاصة للتطور السياسي أنتجت في واقع الأمر لاهوتا رجعيا للتكفير لا تقدميا للتحرير.
ويعتبر فصيل من الباحثين أن الإسلاموية حركة من حركات ما بعد الحداثة، لأنها تنتقد دور الدولة المركزي، وترفض الهوية الوطنية، لكن هؤلاء يتجاهلون أن ما بعد الحداثة، حركة فكرية مدفوعة بالقيم الفلسفية وليس بالقيم الثيوقراطية الدينية، التي لا تقبل بالطبع تعددية ما بعد الحداثة.
وأكد صالح أن البعض يفسر العنف الديني انطلاقا من معضلة التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهو أيضا تفسير خاطئ، ومنح كل العوامل وزنها النسبي مسألة ضرورية لفهم أفضل لظاهرة التطرف التي تؤدي إلى العنف باسم الإسلام دون الوقوع في فخ تبييض العنف الذي تمارسه بعض التيارات التي تبدي تعاطفا أو انحيازا أكاديميا مع الإسلاموية بتبرئة نمط التدين المنغلق والمتشدد الذي يتربون عليه في خاصية انتقالهم السريع لممارسة العنف.
وأوضح أن هذه التفسيرات تنكر تماما دور النص الأيديولوجي المؤسس للعنف، وتحصر أسبابه فقط في التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي باعتبارها وحدها العوامل الوحيدة لهذا العنف.
يعتقد صالح أن الكسل الفكري والرغبة في تصنيف الآخر دفعا بعض الباحثين في الغرب إلى تبني النظرية الاستشراقية لبرنارد لويس التي تقول إن الإسلام دین سياسي بطبيعته، والدولة تشكل ركنا من أركانه، ويأخذ من الیهودیة فكرة القانون الإلهي المنظم لكافة شؤون الإنسان، وإن كان یختلف عنها في بعده الجهادي لنشر الدعوة في العالم ولو عن طريق القوة.
وأشار إلى وجود فصيل آخر من الفاعلين في الحياة الأكاديمية في الدول الغربية يروجون لصورة الإسلام السياسي الإيجابية لأنهم يعملون مع أجهزة تستخدمهم ضد المؤسسات الوطنية في بعض الدول العربية، وهؤلاء هم المسؤولون عن تسليع المعرفة الأكاديمية.
وأضاف أن تسليع المعرفة هو أحد مظاهر السلطوية الليبرالية، ذات العلاقة بالسوق، التي حولت البحث والدراسات في مجالي العلوم الإنسانية والاجتماعية من رسالة سامية إلى سلعة تجارية استهلاكية تباع وتشترى وتنتج حسب الرغبة، وتخضع لقانون العرض والطلب. وفي هذه الحالة، يصبح الهدف الأسمى للبحث تحقيق الربح المادي وليس فهم الظاهرة محل البحث، وبالتالي عدم إيجاد حلول للمشاكل والمساهمة في تطور البحث العلمي.
وتابع وائل صالح “الأكاديمي الذي غلبت على معظم مستوياته المعايير والاعتبارات والقيم الكمية والزبائنية يسير في نهج تسليع المعرفة الأكاديمية الخاصة بالإسلاموية من قبل شركات لوبي ومعاهد دراسات تعمل لحساب جماعات الإسلام السياسي أو دول تدعم تلك الجماعات مثل قطر وتركيا”.
ولفت إلى أن معهد “بروكينغز” بواشنطن يعد من أهم المراكز التي تعمل في مجال تبييض صورة الإسلامويين، لأنه ممول ومدعم من قطر. كذلك الحال بالنسبة للمركز العربي للأبحاث في باريس، وهو فرع تابع لمركز دراسات السياسات في الدوحة، ويديره عزمي بشارة.
ولفت الباحث المصري إلى أن دار نشر عريقة مثل “روت ليدج” أصدرت مؤخرا كتابا بعنوان “الإسلاموفوبيا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة” حمل خلطا بين الإسلام والإسلاموية وصل حد الهذيان الفكري.

مقاومة بحثية

قال وائل صالح إنه يمكن مقاومة تسليع الإسلاموية عن طريق تحرير المعرفة الأكاديمية الخاصة بها ممن يسلعها لصالح إسلاميين، ويتم ذلك من خلال تفكيك ونقد الخطاب المتعاطف معها بأسلوب منهجي علمي يثبت عدم صحة المقولات التي يعتمد عليها المتعاطفون مع الإسلاموية من باحثين في الأكاديميات الغربية، ثم تبيان خطورة تلك الجماعات على الأفراد والمجتمعات والدول الوطنية.
وتتم مقاومة ذلك النهج من خلال إنشاء مراكز بحثية تتبنى نقدا تفكيكيا متعدد التخصصات والنظريات والنماذج المعرفية، ويراعي المعايير العلمية الدقيقة لفهم أفضل للظواهر المرتبطة بالمنطقة العربية، وهو ما دفع صالح إلى أن يطلق مبادرة مع البروفيسور باتريس برودور الأكاديمي المتخصص في الدراسات الإسلامية في جامعة مونتريال لتقديم فهم أفضل للعالم العربي.
ورأى وائل صالح أن علاقة السياسي بالديني في صورة الدولة الإسلامية مجرد افتراض تاريخي، أو حدث وقع في زمان ما وانتهى، وليست جزءا من الإسلام كدين وكمعتقد، تماما كما تعسفت الكنيسة في أوروبا القرون الوسطى وفرضت نفسها على المجتمع كمرجعية تهب الحق الإلهي للملوك في الحكم، باعتباره من أصول الدين المسيحي.
ولا يجب تجاهل أن العلمنة كانت جزءا من تراث الإسلام الكلاسيكي، وبالتالي لا يمكن تقديم العلمانية كإنجاز باعتبارها المنتج الحصري للغرب كما يبين الدكتور مكرم عباس، الباحث المتخصص في الفلسفة السياسية في العصور الوسطى، في كتابه “الإسلام والسياسة في العصر الكلاسيكي”.
وفي عام 1925، نفى العالم الأزهري والقاضي علي عبدالرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الطرح الذي يقول بأن النبي محمد كان نبيّا وحاكما سياسيا مقارنا بين قيادة الرسول وزعامة الملوك. كذلك فإن القاضي والباحث محمد سعيد العشماوي صاحب مصطلح “الإسلام السياسي” كان يقر بأن النبي محمد كان نبيا وحاكما، لكن يقصر الحق في الربط بين الدين والسياسة على الرسول فقط.
وفي تصور وائل صالح، عدم التغافل عن الربط بين السياسي والديني موجود في الأديان جميعا. واستدل على ذلك بكتاب “العلمانية على محك الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية”، حيث أكدت كارولين فورست وفياميتا فينر ذلك، كما أن جيل كيبل في كتابه “ثأر الله.. الأصولية في الأديان الثلاثة” أكد بأن الأصوليات في المسيحية والإسلام واليهودية لديها تقريبا نفس النظرة للعالم ونفس العداء لفصل الدين عن الدولة.

الانحياز للإسلاموية وتبرير نمط التدين المنغلق والمتشدد يهدم المجتمعات

وطالب بضرورة عدم تجاهل التيارات الأخرى العديدة في الإسلام واختزاله في فكر الحركات المعاصرة، فبالإضافة إلى الإسلاموية يتضمن الفكر الإسلامي المعاصر تيارات أخرى مثل “الإصلاحية المسلمة” التي يمثلها على عموم الفكر الإسلامي التوفيقي الذي يتراوح بين استقلالية السياسة أو تبعيتها النسبية للدين، لكنه في كل الأحوال لا يضع السياسة في قلب المشروع كالإسلاموية.
هناك أيضا تيار ثالث، هو تيار “الإنسانوية المسلمة”، ويمثله مفكرون مستنيرون قد لا تكون أفكارهم منتشرة كالإسلاموية المتشددة أو الفكر الوسطي المعتدل، لكنها قد تصنع مستقبل المجتمعات الإسلامية كفكر محمد أركون، وغيره من المجددين الذين يؤمنون باستقلال السياسي عن الديني.
شدد وائل صالح على ضرورة التفرقة بين تيارات الإسلام السياسي من حيث الأداء والخطاب، ويصر على ألا تضر تلك التفرقة بسبل المواجهة، لأن الانتقال من تيار إلى تيار يكون سريعا وعفويا في كثير من الأحيان، وهذا يعود إلى اشتراكهم في الأهداف الإستراتيجية المرتكزة على رؤية شمولية سياسية حركية للدين، تعتقد أن هناك نموذجا معدا مسبقا يجب على المسلم اتباعه، وغير مسموح بالبحث عن نموذج آخر غير نموذجهم.
ويتجاهل هؤلاء أن نموذجهم الإسلاموي أو فهمهم الخاص المفعم بالسياسة وضعه بشر مثل حسن البنا وسيد قطب وعبدالقادر عودة ويوسف القرضاوي، لكن يلبسونه رداء القداسة، ويتماهى فيه الديني بالسياسي بدرجات مختلفة تبدأ بتأصيل العلاقة بينهما مروراً بتقديس تلك العلاقة ونهاية بتسييس كلي للديني.
وتصعب التفرقة بين خطابات الإسلام السياسي، من حيث العدوانية والموقف من الآخر، لأن جميعها تقوم ببناء صورة ذهنية للمسلم غير المنتمي إليها باعتباره “آخر معاد ومرفوض” من خلال عملية عقلية تصل إلى حد تنميط المسلم غير الإسلاموي، فهي، كبقية الطوائف الدينية، تقوم على تأسيس تماسك بنيوي بين المنتمين إليها لفرض منظورها للدين على أعضائها أوّلا، ثم على الآخرين من المسلمين العاديين ثانيا، تقوم بتشويه الآخر غير الإسلاموي، فهو على مستوى علاقته بالغرب خائن وعميل وأداة، وعلى مستوى أخلاقه فاسد ومنحل، وعلى مستوى علاقته بالدين ملحد وعلماني.
وخلص إلى أن كل الجماعات الإسلاموية بمختلف أطيافها، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، تتشارك نفس المبادئ المؤسسة، إذ لا تعترف بالأوطان وحدودها، وتخلط بين الدين والسياسة فتدنس الديني بإنزاله لمستوى السياسي وترفع من شأن الأخير بتقديسه، فينتج خلطة أيديولوجية يختلط فيها الرأي والتفسير بالنص المقدس، ما يقوده إلى انفجار حتمي.

العلمنة حتمية

يعتقد وائل صالح أن فصل الدين عن الدولة ليس خصوصية مسيحية، والمزج بينهما ليس من خصوصية الإسلام، ولا يجب مقارنته في لحظة زمنية معينة بلحظة زمنية أخرى ولثقافة أخرى كانت قد عبرت تلك اللحظة منذ زمن.
وأكد الباحث عبدالجواد ياسين، أنه في سياق المسيحية الغربية، وتحت ضغط التطورات الجذرية، الاقتصادية/ الاجتماعية/ الفكرية، فرضت العلمانية فرضا على الكنيسة، التي أقرت في نهاية المطاف بالتخلي عن سلطتها التاريخية في المجال العام لصالح فكرة الدولة الدستورية. وفي المقابل، لم يتعرض الإسلام الفقهي في محيطه الجغرافي بعد لضغوط جذرية بالقدر الكافي من قبل التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري ربما ساعتها سيتحرك في نفس الاتجاه بطريقته.
وذكر أن توفير بيئة سياسية تسودها القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك يتوجب معه تفريغ الفضاء الدولتي من الديني والعقدي والأيديولوجي، لأن الدولة لا يجب عليها في نفس الوقت أن تتدين ولا تعادي الدين، ولا يجب أن تكون مؤدلجة ولا تعادي الفكر.
وفي الفضاء العام، يجب أن تحصر المنافسة بين الفاعلين السياسيين على من يدير الدولة بشكل أفضل في إطار دولة تنموية وإخراج الدين من مجالات المنافسة والصراعات السياسية، فلا يجب أن تلجأ الحكومات التي تعاني من أزمات سياسية قاصمة نتيجة تصاعد الإسلام السياسي إلى خطابات أكثر تطرفا للمزايدة على خصومها، فلقد أثبت هذا النهج فشله في تقويض بُنى الإسلام السياسي المخاصم للدولة، بل على العكس مهد له الطريق.
وانتهى وائل صالح، في كتابه المشترك مع باتريس برودر وحمل عنوان “الإسلام السياسي بعد الربيع العربي”، إلى أن مصير الإسلاموية الموت الإكلينيكي، بحيث يموت تأثيرها وتبقى كتراث فكري على الهامش.

مصطفى عبيد – كاتب مصري/ العرب اللندنية

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
18 − 15 =