سقطت جميع الأقنعة. أو هكذا يزعمون. فما أن تجرأ مذيع ما على المجاهرة بما همّ يوافقون عليه، وإن في سرّهم، إذ فاضل أوكرانيا على العراق وأفغانستان، حتى ارتقوا به إلى منصب الناطق بلسان الغرب، وانقضّوا جميعاً عليه وعلى الحضارة الغربية بتهم النفاق والتمييز والعنصرية.
ألا يكيل الغرب بمكيالين؟ لماذا المعاملة الطيبة لللاجئين الأوكرانيين، في مقابل الإساءات والإهانات والعزل لصنوهم القادم من البلاد العربية والإسلامية؟ وألا يكشف هذا التفاوت كذب المزاعم الغربية بالالتزام بحقوق الإنسان، ويبطل معه تلقائياً مطالبته للحكومات والمجتمعات في الشرق الأوسط وما يتعداه تبديل نظمها وقناعاتها، لتتوافق مع الرؤية الإنسانية وفق الزعم الغربي الكاذب؟
نعم، الغرب، بمجمله ومفصّله، يكيل بمكيالين وأكثر، وكذلك يفعل غيره. المفاجأة ليست بأنه يفعل، بل المفاجأة هي بزعم المفاجأة بأنه يفعل.
للأسف، أوكرانيا، رغم آفاتها وعللها، أكثر تحضّراً من العراق وسوريا وأفغانستان. والدليل سهل وبسيط، فالتصويت على مستوى التحضّر يتم عالمياً لا بالإضبارات وصناديق الاقتراع بل بالأقدام. العراقيون والسوريون والأفغان هم من قصد أوكرانيا للجوء والدراسة والطبابة والعمل، دون أن تسجّل أية حركة في الاتجاه المعاكس.
ليس ما يلزم أوكرانيا أن تكون أكثر تحضّراً. وهي تطفح بالفساد، كما روسيا وسائر دول أنقاض المنظومة الاشتراكية، إلا التي نجحت بالالتحاق بالغرب، على قدر ما نجحت بالالتحاق بالغرب. وأوكرانيا التي تشاطر الغرب عناصر هامة من موروثها الفكري والديني والاجتماعي، بذلت ما بوسعها للانضمام إليه والانعتاق من قبضة شقيقتها الروسية الساعية إلى قدر من التمايز عن الغرب في الظاهر، وأقدار من التماهي معه في الباطن.
ليس لأن هذا الغرب متفوّق بقدره، ولا لأنه، كما يزعم له المجذوبون إليه بما يلامس الغيبية، وحده في هذا التاريخ الإنساني الطويل قد وجد مفتاح الحضارة، بل لأنه اليوم، واليوم فقط إنما بالمعنى الطويل أي لبضعة قرون، رسا على معادلة تسمح له بأن يحقق الازدهار لدوله ومجتمعاته.
هي معادلة تجمع النظم القائمة على الأصول والأسس، الثقة والحقوق والقِيَم، والتي تشكلت بفعل توفر مقومات تشكلها، المادية منها كما المعنوية، إلى تلك التي تجسّد المصالح، الاقتصاد والقوة القاهرة، والرصيد المتراكم عبر التاريخ.
ليست الحرية بالصيغة الهيولية المجرّدة وحدها التي أطلقت عنان الطاقة الخلّاقة في الإنسان في الغرب، ولا تجيير الفائض أو المُستفاض طوعاً أو كرهاً من سائر العالم المغلوب على أمره إلى الغرب وحده ما حقق الرفاهية ودفع باتجاه المحافظة عليها. هي علاقة تفاعلية جدلية بين المبادئ المتوائمة مع المصالح، والمصالح الممكّنة للمبادئ، وإن طاب للبعض اختزال التركيبة المعقّدة مدحاً بالمبادئ أو ذمّاً بالمصالح. وفي هذا التجاور والتزاوج ما يجعل القيم العالمية، الحرية والمساواة والعدالة، حقيقة غربية، دون أن تكون كل الحقيقة.
فمن التدليس زعم اكتشاف احتفاظ الغرب بما لدى غيره من العصبيات والفئويات، عنصرية كانت أو دينية أو لغوية أو حضارية أو غيرها، مع ما يصاحب ذلك من رياء التأسف الممزوج بالثناء على الذات للنظر الثاقب، إزاء هذه الحقيقة الكاشفة المستجدة، أو توظيفها في مقارنات شكلية. ومن التدليس المقابل تجاهل الازدواجية أو عزوها إلى مخلفات شرقية تسرّبت إلى هذا الغرب العظيم من بواباته المفتوحة على القارات والديانات الأخرى.
بل، فيما الأحداث تتدافع إلى ما قد يصل إلى مستوى الحرب العالمية المدمرة، يبدو، في الساحة الفكرية العربية العاجزة عن التأثير على المجريات الدولية، أنه فصل جديد وحسب من المفاضلة بين الشرق والغرب، والمحتدمة بالمباشرة أو المواربة، بين إسلاميين وعروبيين ويساريين يشهرون الأشكال الأخيرة من التمييز المفضوح لإعلان سقوط الغرب (وهو سقوط بطيء جداً جداً، كما يظهر، فقد مرّت العقود وهم يعلنون ابتداءه)، وإن اختلفوا في تعريف الشرق وتحديد القوى التي سوف تصعد لتحل محلّ الغرب المتهاوي، وتنويريين وعلمانيين وعولميين، أناطوا بأنفسهم، من موقع الفوقية المشمئزة، مهمة انتشال العامة من جهلهم وتخلفهم ورجعيتهم، للانضمام إلى ركب الحضارة الإنسانية الغربية الكبرى إذ تمضي قدماً.
بل ربما أنه هنا نموذج آخر من سجال قائم على الفرز القطعي، في حين أن الواقع يخالفه.
الغرب ليس مرتع الانحلال، ولا الشرق دار الفضيلة. والغرب ليس منارة على رأس مرتفع، ولا الشرق زريبة ظلم وظلام. لا هذا الجنة ولا ذاك الجحيم. لا يعني ذلك أبداًً أن الجميع سيّان وسواسية، والدليل مجدداً بمن يذهب إلى حيث يذهب. «الشرقيون»، على اختلاف تعريفهم، هم الذين يتوجهون إلى الغرب، أو يستقدمون منه ما أمكن، نظماً وتقنيات.
من حق الغرب، بعد أن استثمر قروناً في الانتساب إلى الحضارة اليونانية القديمة، وبعد أن إعاد طرح القراءات الفلسفية لهذه الحضارة، أفلاطون وأرسطو بشكل خاص، على أنها المقدمات اللازمة للأنوار والملزمة لها، من حقّه أن يختال بها ميراثاً له، وأن ينتقي من مقولاتها ما يتوافق مع قيمه المعاصرة، ليرسم خطاً مستقيماً من الميراث إلى الواقع. «حكم الشعب» في أثينا يضبح بالتالي الأساس للنظام السياسي القائم على التفويض والمساءلة، وعلى المساواة بين المواطنين. طبعاً لم يكن الأمر كذلك البتة في أثينا القديمة تلك، والتي فاقت بها أعداد المستعبدين بأضعاف عدد أحرار «الشعب»، ولا في فكر الفلاسفة الذي أسّس للتراتبية الصارمة واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية. بل حتى أنوار القرن الثامن عشر، إذ جاهرت بقيم الحرية والمساواة، كانت تتكلم ضمن أفق معرفي لا يقرّ بالتطابق بين الأعراق.
الإنسانية الغربية هي الابن «الشرعي» بالتأكيد لثلاثية الفكر اليوناني والمجال الروماني والروحانية المسيحية، ولكن هذه الثلاثية قد انتجت كذلك، بالشرعية المماثلة، الفرز الطبقي الذي أذن للشيوعية تصفية «الشرائح الطفيلية» والفرز العرقي الذي بارك للعنصرية نظم معالجة التجاور المنفّر بين الأعراق، في الولايات المتحدة وألمانيا وأفريقيا الجنوبية وغيرها، وصولاً إلى الإبادة.
لا يخلو الخطاب الفكري في الفضاء الغربي بدوره من أصداء هذين الفرزين، الطبقي (وهو هنا نخبوي، ازدرائي إزاء العامة) والعرقي (تحت مسمّى القومية والعروبة الجامعة، وإن استثنى الجمع، كأمثلة مؤلمة وليس من باب الحصر، حلبچة والأنفال ودارفور، على ذكر ضحاياها السلام)، وينشحن بزخم إضافي تأتي به قراءة حداثية إسلامية، مبنية على التفضيل الذاتي السائد في كافة المجتمعات ومعظم الأديان، إنما بعد إعادة صياغة تنحدر بها إلى تبخيس إنسانية «الكافر» أو حتى إسقاطها.
على أن الخطوط الفاصلة بين «الشرق» و«الغرب» ليست واضحة كما يرتئي عقائديو الجانبين، لا مكانياً ولا فكرياً، فبعض هذا الشرق، بل قلبه وصلبه، هو أيضاً وريث ثلاثية اليونان والرومان والمسيحية، وإن جاء المركّب الإسلامي، والمشتق ابتداءاً إلى حد كبير منها، كإضافة وازنة عليه.
ومساعي استشفاف جوهر، محمود أو مذموم، شرقاً وغرباً، عبر تشذيب المشترك وتفخيم المختلف، هي في النهاية أساليب سجالية ليس إلا.
لم تفتح الدول والمجتمعات التي تشهر الإسلام أبوابها لاستقبال الروهينغا والأيغور وغيرها من الشعوب التي استهدفت لطابعها الإسلامي. هذه الدول أولى بتلقي الاعتراض، بدلاً من الإصرار على إلزام الغرب، بما فيه الدول التي استقبلت مئات الألوف وما يزيد من اللاجئين العرب والمسلمين، وعانت في مواقع عدة نتيجة ذلك إخلال في نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على ألا يرتكب أحد فيها أية هفوة من شأنها أن تشي بالواقع الصعب.
أوكرانيا، دولة ومجتمعاً، معتدى عليها. والمعتدي هو روسيا. مواقف العديدين في المحيط العربي إزاء الاجتياح الروسي تخلو من اعتبار لواقع المأساة الإنسانية في أوكرانيا ولسفور العدوان من روسيا، بل هي نابعة من مواقف مسبقة إزاء روسيا، والولايات المتحدة وإسرائيل وسوريا وإيران.
ما يتحكم بردود الفعل، إضافة إلى الانحياز المسبق، هو أيضاً الشماتة والتشفي غالباً لطمس الهامشية. طبعاً، لا أوكرانيا ولا الغرب تتضرر من هذه المواقف، ولا هي تكترث لها أساساً. لا كمال في أوكرانيا ولا في الغرب في التعاطي مع من هم من خارج الإطار الحضاري المعتمد، ولا حتى من داخله. على أن الطبيعة الإنسانية واحدة في تجاور رغبات الخير ونزوات الشر، في الأفراد كما في المجتمعات.
لا جدوى بالتالي من ادعاء اكتشاف العنصرية وسائر أوجه الشرّ في الغرب وغيره. فاللحظة لحظة خطيرة على مستوى البشرية قاطبة، والأصح أن تنصبّ الجهود لاستشفاف مواطن الخير ، عساها تتبارك.
حسن منيمنة – موقع الحرة