تحولات النظام الدولي في ظل الصراع الروسي – الأوكراني

أشار المفكر الاستراتيجي، و مستشار الامن القومي الأمريكي السابق السيد زبغنيو بريجينسكي إلى أنَ الهيمنة الأمريكية أصبحت في أيامها الأخيرة، وأن السياسة الأمريكية يجب أن تُعَدَل باتجاه خلق تحالفات جديدة حتى مع القوى الصاعدة، والهدف من ذلك كله هو إعادة التموقع لضمان بقائها قوة عالمية فاعلة، فقد تمكنت الولايات المتحدة من أن تغزو العالم، وتحقق الوسط الأكثر ملاءمـة لممارسـة الهيمنة الامريكية، التي كانت تبدو وكأنها ذات طابع يوجد إجماع عالمي عليه; ولذلك فقد تدعمت السيادة العالمية الأمريكية بوساطة منظومـة دقيقـة مـن التحالفـات، والائتلافات تمتد في كل أنحاء العالم، لكن الأحوال قد تبدلت، وبدأت القوى الصاعدة تكشر عن أنيابها رافضة الهيمنة الامريكية المطلقة، وبدأت تبحث عن تحقيق مصالحها رغماً عن إرادة المهيمن.

فقد سعت أوروبا إلى تحقيق كينونتها المستقلة بُعَيد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستقرت الأمور فيها نسبياً، وانتهى خط التفاعلات على محور “غرب – شرق”، وتصاعدت أهمية التفاعلات داخل الغرب نفسه، وبدأت تلوح في الأفق دعوات أوروبية مناديه بضرورة تحقيق استقلالية الأمن الأوروبي بعيداً عن الولايات المتحدة، وبأنه آن الأوان لأمريكا أن تعي جيداً بأنها ليست قوة أوروبية، وليس لها حق المبالغة في التدخل في الشؤون الأوروبية الداخلية، لكن اشتعال الصراع في البوسنة والهرسك آنذاك، وتضارب مصالح الأطراف الأوروبية، قد أعاد انتاج الهيمنة الأمريكية في أوروبا، ووفر فرصة حقيقية للولايات المتحدة لضرب أي محاولة لتشييد أي أمن أوروبي منفصل عنها، خاصة عندما تزايد التوجه الأوروبي (الفرنسي – الألماني) لإقامة جيش أوروبي موحد بعيدا ًعن أجهزة حلف الناتو.

في الثالث من مارس 2021، نشر البيت الأبيض وثيقة “الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي” وهي بمثابة وثيقة مرجعية تحظى بأهمية استراتيجية لاستجلاء معالم النظام السياسي الدولي في المرحلة المقبلة، وتحديداً في الفترة الرئاسية التي سيقضيها بايدن في السلطة. فقد اعتبرت الوثيقة أن الصين، وروسيا يسعيان لتعزيز نفوذهما العالمي، وهو أمر يهدد النفوذ الأمريكي في العالم، وسيتسبب في حالة من الفوضى على الساحة العالمية، وأن كلاهما تملكان أدوات اقتصادية، وديبلوماسية، وعسكرية، وتكنلوجية تمكنهم من تحد النظام الدولي الراهن. ولم يمضي وقت طويل حتى كشرت روسيا عن انيابها، ورغبتها في التخلص من الهيمنة الامريكية على أوروبا والعالم، فقامت بغزو أوكرانيا، لتغيير قواعد اللعبة، على المستوى الأوروبي والعالمي.

وجدت الولايات المتحدة ضالتها المنشودة في الحرب الروسية الاوكرانية، فقد وفر لها هذا الصراع فرصة أخرى لتعيد فرض هيمنتها على أوروبا، ومن ثم العالم. فإطالة أمد هذا الصراع يعني ابقاء الهيمنة الامريكية على القارة الأوروبية، وتعزيز القناعة لدى الأوروبيين، بأنه لا ملجأ ولا منجى لهم الا بأمريكا، فهي ينبغي أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في أوروبا، لأن الهيمنة على أوروبا تعني تعزيز الهيمنة الامريكية على العالم.

إذا كان الرواد الأوائل في علم الجيوبوليتيك قد أشاروا إلى أهمية قلب العالم (أوروبا الشرقية)، وأن من يسيطر عليه يسيطر على العالم، فأن واقع العلاقات الدولية الراهن يؤكد بأنه من يهيمن على أوروبا الغربية سيهيمن على العالم.

ووفقا لهذه المعادلة، فلن تسمج الولايات المتحدة الامريكية لأي قوة عالمية بأن تهيمن على أوروبا، أو أن تنازعها الهيمنة، لأن ذلك يعني إزاحتها من على سلم القوى الدولية، ويمنعها من التربع على عرش النظام الدولي. ووفقا لهذه المعطيات لا ينبغي أن تنتصر روسيا في حربها ضد أوكرانيا من وجهة النظر الامريكية، فهكذا نصر يعني بداية الولوج نحو نظام دولي جديد، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على المكانة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، فقوة الدولار نابعة في جوهرها من فكرة الهيمنة الامريكية على العالم.

ولذلك كله، فإن المصالح الامريكية تقتضي إدارة الصراع في أوكرانيا على نحو يحقق التوازن بين الأطراف المتصارعة، بما يضمن عجز روسيا عن تحقيق نصر حاسم، وضمان استنزافها اقتصاديا وعسكريا، وعزلها عن أوروبا، في المقابل ينبغي ضمان عدم انهيار الجيش الأوكراني، وبقاء أوكرانيا ساحة صمود، ومنطقة عازلة لتلقى ضربات الجيش الروسي بعيداً عن قلب أوروبا.

إن النظام الدولي الراهن يمر بمرحلة مخاض عسير، ويبدو جلياً أن نتائج الصراع الروسي- الأوكراني سيكون لها اليد الطولى في تحديد معالم النظام الدولي القادم، لكن موجبات التحول نحو نظام دولي جديد تومي بأنه لن يكون هناك تحول قسري ومفاجئ في بنية النظام الدولي الحالي بالرغم من أن الولايات المتحدة الامريكية قد بدأت تفتقد شروط المهيمن، وبالرغم من أن حدة الاستقطابات الدولية ستشهد تفاقماً بين كل من المحور الصيني -الروسي من جهة، والغرب بزعامة أمريكا من جهة أخرى، لكن أي تحول جذري يستلزم بالضرورة وجود المُهيمن المكافئ للقطب الامريكي، وهو مالم يتحقق بعد، فضلاٌ عن أن الجميع لازال قابعاً في تلابيب الدولار .

الدكتور خالد الدباس – أكاديمي وخبير في الشؤون السياسية

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

مظاهرات الجامعات الأميركية.. مراجعة وعِبَر

يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
24 ⁄ 12 =