في الخامس عشر من شهر نوفمبر الجاري 2022حلّت الذكرى التاسعة عشرة لرحيل الأديب المغربي المعروف محمد شكري (15 يوليو/ 1935 ــ 15 نوفمبر/ 2003)، وما فتئ هذا الكاتب المعنّى يحظى باهتمام الدارسين والنقاد والقراء على حدٍّ سواء نظراً لما أبدعه وأثار به من زوابع وتوابع ما فتئت أصداؤها تتردّد فى الأوساط الأدبية والنقدية داخل المغرب، وفي العالم العربي وخارجهما، وذلك لاقتحامه موضوعات شائكة وجارحة كانت تعتبر قبله من التابوهات أو المحظورات أو الممنوعات أو المسكوت عنها التي لا ينبغي الحديث بشأنها ، ولا الكتابة عنها ، وعدم التطرّق البتّة إليها في بلاده ومحيطه وفى سائر البلدان العربيّة في ذلك الإبّان .
من أقاصي بلاد الرّيف
من المعروف أن “محمد التمسماني” الذي أصبح اسمه فيما بعد محمد شكري ارتبط بمدينة ملتقى البحرين طنجة أكثر من أيّ مدينة أخرى، هاجر إليها في سنٍّ مبكرة قادما من قبيلة “بني شيكر” التي لا تبعد عن مدينة الناظور سوى ببضع كيلوميترات ، بعد أن نشأ في أسرة فقيرة، وقد أرغمته ظروفه العائلية القاهرة على الهجرة رفقة عائلته ، ولم يكن يتجاوز بعد الحادية عشرة ربيعاً من عمره. عاش سنواته الأولى في مدينة البوغاز مشدوهاً بأضوائها اللاّزوردية المُبهرة، محاطاً بأجواء التشرّد والعنف والبغاء والمخدرات وحلكة ليالي هذه المدينة الدولية التي كانت وكأنها مستعارة من ليالي الف ليلة وليلة . عندما بلغ شكري العشرين من عمره انتقل للعيش في مدينة العرائش للدراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره بدأت اهتماماته بالأدب وشغفه بعوالم القراءة والكتابة والخلق والابداع ، ثم ما لبث أن آب إلى مدينة طنجة، حيث كان يرتاد الحانات،وصناديق الليل، ومواخير وأوكار البغاء بدون انقطاع، كما طفق يكتب عمّا عاشه على مضض من تجارب شخصية مرّة وظروف قاسية، فكانت أولى قصصه التي نشرها في مجلة “الآداب” عام 1966 تحت عنوان “عنف في الشاطئ” وقد أفضت به اهتماماته الأدبية لمرافقة كتّاب معروفين عالميين، كانوا يقيمون في طنجة في ذلك الإبّان أمثال، الأمريكيين بول باولز، وتنيسي وليامز، والفرنسي جان جينيه وسواهم.
دوّن شكري لقاءاته بهؤلاء الكتاب في مذكراته التي تحمل عنوان: “عزلة بول باولز في طنجة”، ثم في “جان جنيه وتنيسي وليامز في طنجة”، وإضافة إلى إبداعاته الأدبية، ترجم كذلك إلى لغة الضاد في تلك المرحلة من عمره أشعاراً لمبدعين إسبان مثل ماتشادو، وأليكسندري، ولوركا وآخرين، ثم سرعان ما جاءته الشهرة منقادةً تجرجر إليه أذيالها بفضل روايته الشهيرة “الخبز الحافي” التي نشرها عام 1973 والتي ظلت محظورة في مجموع البلدان العربية، ولم تنشر في المغرب سوى عام 2000، من كتبه كذلك «زمن الأخطاء» 1992 و”وجوه” 1996 وتشكل هاتان الروايتان إلى جانب روايته الأولى، الثلاثية التي تحكي سيرته الذاتية ، ومن كتبه كذلك “الخيمة” و”الشحرور الأبيض”.
سيرة مدينة ليست كباقي المدن
الكاتب الإسباني كارليس خيلي يرى إن محمد شكري كان يأسف للسطحية التي عالج بها بعض الكتّاب صورة مدينة طنجة التي لم تكن كباقي المدن المغربية الاخرى، والأدهى من ذلك الاحتقار والكراهية والعنصرية، التي كان ينظر بها هؤلاء الكتاب إلى السكان البسطاء في هذه المدينة، وقد علّق شكري على ذلك بقوله متمادياً في السخرية «أيّاً كان من هؤلاء الكتّاب يقضي بضعة أسابيع في طنجة يمكنه أن يؤلف كتيباً عنها » ! ويضيف شكري «إنني أدافع عن الوسط الذي عشت فيه وأنتمي إليه، أدافع عن المهمشين، وأنتقم من هذا الزمن المُذل والبائس»، بهذه العبارات كان صاحب «الخبز الحافي» يبرّر موقفه مما عاشه وعناه وشاهده من خزيٍ وذلٍّ ورداءةٍ وبغضٍ في عصره، في سيرته الذاتية المترعة بفيضٍ هائلٍ من المرارة فضلاً عن صراحتها المفرطة التي لم نقرأها قبله سوى عند كبارالكتّاب الغربيين .
الأمريكيّ بول باولز نزيل طنجة
يعود الكاتب الإسباني كارليس خيلي ليذكّرنا :” أن كلاًّ من الروائي الأمريكي بول باولز وزوجته جين كانا بؤرة وبوتقة اهتمام العالم الأدبي الذي ينقله لنا محمد شكري بصراحة تطفح بالمرارة والمضض ، والذي كان يعرف جيداً بول لمدة تزيد على 25 سنة، حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كل صباح من سيرته الذاتية، التي كانت في ذلك الوقت تحمل عنوان (من أجل كسرة خبز) أو من أجل لقمة عيش، والتي كان بول باولز يترجمها إلى الإنكليزية، بعد ذلك بدأ الخلاف ينشب بينهما. ويدور كتاب شكري «عزلة بول باولز في طنجة» حول هذا الأمريكي المهاجر والمغامرالرحّالة الذى عاش في هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947 والذي ظل فيها إلى وفاته عام 1999.
يصف شكري في هذا الكتاب باولز بتلقائية مطلقة، فيقول عنه: «إنه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش، إلاّ أنه خارج المنزل كان يشرب السجائر، كان إباحياً مثلياً ولم يخفِ شيئاً عن رفيقة عمره جِينْ، كما أنه كان نخبوياً وعنصرياً، كان يروقه المغرب وليس المغاربة». ويضيف الكاتب الإسباني قائلاً: «إن شكري عندما يحلل، ويشرح بذكاء الحياة الأدبية لباولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية، كان ينتقد نقداً لاذعاً أحد كتب باولز وهو «مذكرات رحّالة» حيث كان يقول عنه:” إنه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملة، كانت الغاية من وضعه أداء تكاليف التطبيب والعلاج لجين.
وفي رأيه أن الجنس كان هو سبب جميع المصائب والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهددة بتدمير وتحطيم نفسها وهي دائما تنتظرها نهاية قاسية ومؤلمة. يقول شكري: «إن مراوغة خيال بول باولز كان يزعج جين، إلاّ أنها لم تكن تعتب على زوجها فالذي كان ينقصها لم تكن المهارات، بل المثابرة، كانت تشعر بالمرارة من عدم الاكتراث، وبنوع من الضغينة ممّا كان يجري، كانت تغرق في تناول الكحول حتى الثمالة، كما كانت تغرق في طموحها الذي لم يحالفه النجاح، إذ بعد بلوغها الخمسين من عمرها هجرت الكتابة، الشيء الذي زاد في تفاقم عنصر التدمير الذاتي عندها، مضافاً إلى ذلك سلوكها الإباحي غير الحميد”.
الفردوس الأرضي
ويضيف الناقد كارليس خيلي حسب ميغيل لاثارو، «أثار شكري حفيظة بول باولز لنشره أسراراً عنه ضمن هذا الكتاب، انطلاقاً من صداقته القديمة معه، كتب هذه الشهادات الحميمية التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق والأسرار التي ظلت طيّ الكتمان، والتي لم يتم نشرها من قبل عن المعايشات، والمغامرات الطنجوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي، في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتاب المرموقين في عصره مثل وليام بورجيس، وألن جينسبيرغ، ترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت به وبزوجته جين، إنه كتاب ينبض بالعواطف، ويحفل بالعنف والحقائق المثيرة حول باولز، وكل المحيطين به، الذين جلبوا كثيراً من المتاعب الخطيرة لشكري، ولقد بلغ الأمر بشكري إلى الإفصاح عن شعوره بالمرارة من وضعه لهذا الكتاب، حيث قال: «بكتابي هذا حول باولز أشعر وكأنني قتلت والدي الثاني»، الأمر نفسه يراه الكاتب الاسباني الكتلاني الراحل خوان غويتيسولو، عند ترجمة الكتاب للإسبانية في يونيو 2012 ــ صدر الكتاب بالعربية عن منشورات الجمل عام 1997 ــ حيث وصف غويتيسولو باولز بأنه «الأب الأدبي» لشكري، وقال: «إلا أن هناك نوعاً من التظلم في هذا الشأن، إذ يبدو لي أنه من الأهمية بمكان معرفة وجهة نظر مغربي معوز كان يعيش بين ثلة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة فردوساً أرضياً ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا”.
شهادات عن “الخبز الحافي” وعن صاحبه
يقول الكاتب المغربي المتألق الصّديق مصطفى بودغية بهذه المناسبة عن “الخبز الحافي” لشكري : «استطاع محمد شكري أن يتعلم وهو ابن العشرين، بعد أن تشرب دروساً قاسية في الحياة من قاع المدينة، لكنه لم يتعلم وحسب، وإنما اتخذ من تعلمه سلاحاً للكشف عن ذلك الواقع المنسي في المجتمع، ذلك الواقع البائس القاسي الذي يعرفه الجميع، ويتنكر له الجميع أيضاً، ذلك الواقع (المسكوت عنه) المدفون تحت طبقات ضبابية من (الأخلاقيات الزائفة)، استطاع شكري أن ينتشل حياة المُهمشين من القاع المنسي، ومن ظلمة التهميش إلى أنوار (شمس الحقيقة)، فـكتابه “الخبز الحافي” كونه عملا إبداعيا في المقام الأول، لكنه أيضا وثيقة مهمة اجتماعياً وتاريخياً، إنه صرخة في وجه النفاق الاجتماعي، وصرخة في وجه مجتمع يتنكر لأبنائه المُهمشين.
كتب محمد شكري «الخبز الحافي» بلغة بسيطة وسهلة نعتها أحد النقاد بـ (اللغة العارية)، أي خالية من البلاغيات والمُحسنات اللفظية، كُتب بلغة عارية تماثل عراء الواقع الذي يكتب عنه، لغة مباشرة مثل حياة المُشردين والصعاليك الذين لا أقنعة لديهم يلبسونها، إنه عمل أدبي حافٍ من كل المُحسنات، لكنه حاد جارح كالسيف، جعل الكثيرين يتساءلون عن أسباب الفقر، والتشرد، والجريمة، وتعاطي المخدرات والاغتصاب، والدعارة، والعنف، والجريمة، حيث يتربص بهم الموت البطيء والإحباط الشامل دون أحلام ولا آمال ولا طموحات”.
ويشير الكاتب محمد سيف المفتي وهو (روائي ومترجم عراقي-نرويجي مقيم في النرويج) عن رواية شكري (الجارحة) من جهته في ذات الاتجاه فيقول : “الخبز الحافي رواية محمد شكري المغربي الأمازيغي تناولت كلّ ما يخدش الحياء العربي الغيور كما قيل عنها. أنتقده كثير من النقّاد وهاجمه كثير من المثقفين لأنه أخذنا معه صغاراً وكباراً الى مواقع الرذيلة، الى سنوات طفولته التي لم يقضِ ليلةً فيها إلاّ سكراناً أو راقداً بجوار غانية أو بتفريغ رغباته الجنسية في لعبته الجنسية التي صنعها من الطبيعة. حدثنا شكري في روايته عن الحُفاة الحالمين بنعل، والباحثين عن فتات الخبز في زمن المجاعة. كان الروائي صريحاً فيما يتعلمه أطفال الشوارع في العالم السُفلي، الموجود تقريباً في معظم المدن الكبيرة.”
ويضيف نفس الكاتب :” بما لا يقبل الشكّ فإنّ كلمات محمد شكري قد خدشت الحياء العربي فهاجمت مجتمعاتنا كلمات الرواية ونسيت الطفل الذي نشأ في الشارع ومعاناته، ومعاناة الكثير من أمثاله حتى هذا اليوم في بلداننا، أن الواقع يخدش جبين الإنسانية وهو دليل دامغ على أنّ مجتمعاتنا المريضة لا تملك إحساساً إنسانياً بمستوى مأساتنا. ناموا ولا تستيقظوا.. هنيئاً لكم نوم النعامات “.
ونختم هذه العجالة عن هذا الكاتب المُعنّى بشهادة حيّة باذخة للكاتب والشاعر المغربي المتميّز، والناقد الحاذق، الصّديق صالح لبريني جاءت فى مقال قيم رصين له عن صاحب الخبز الحافي وزمن الأخطاء تحت عنوان: ( الكاتب محمد شكري : السّرد التشريحي) حيث يقول :” الكتابة المحفورة في ذاكرة الذات والمقبلة منها باعتبار الذات سيرورة في الزمان والمكان وتخضع للتبدّل والتحوّل تكون دوماً فالحة في المكوث والإستمرار في ذاكرة القرّاء لا لشيئ إلاّ لقدرتها على التعبير عن الوعي الجمعي المسكوت عنه ، وغير المرغوب فيه ،نظراً للذهنيات المتخلفة والمتكلسة التي تسعى لإخفاء أعطاب الذات باسم القيم والمشترك، ولعلّ الذي بوّأ الكاتب الطنجاوي محمد شكري المكانة اللاّئقة هو هذه اللفتات الإبداعية التي بصمتها كتاباته انطلاقاً من “الخبز الحافي ” ومرورًا بزمن الأخطاء ووقوفاً عند وجوه، بدون إغفال السوق الداخل والخيمة والشحرور الأبيض، هذا الأخير كشف عن كون شكري لم يكن كاتباً فقط وإنما كان ناقدًا يشرّح الأعمال الإبداعية لكبار الكتّاب العالميين،وفيه أبان عن علوّ كعبه في توجيه انتقاداته لهم وعلى رأسهم نجيب محفوظ وغيره “.
وفى المقال القادم الموالي لهذه الفذلكة بحول الله سنعود الزّمانَ القهقرىَ لنرصد عن كثب، ونتابع عن قرب لقائي المُطوّل مع هذا المبدع المُعنّى صاحب ” الخبز الحاف” أو “العيش وحده” أو ” أغرُوم وحْدَس” خلال رحلة شيّقة على متن قطار بطيئ جمعتني به عن طريق الصّدفة ،ويا لها من صدفة من طنجة العالية إلى مدينة الأنوار رباط الفتح أوائل السبعينيّات من القرن العشرين الفارط غداة عودتي من أرض الكنانة المحروسة الى أرض الوطن الغالي حيث تجاذبنا خلال هذه الرحلة أطراف الحديث بتلقائية وعفوية وشجون عن مسائل شتّى كانت تشغلنا في ذلك الزمن البعيد بلغاتٍ ثلاث : العربية والرّيفية والاسبانية !. .
محمّد محمّد خطّابي – كاتب ومترجم من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.