يبدو أن الكاتب يريد الكشف عن مراده من تأليف كتاب “قراءات من أجل النسيان”، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ أن ما اعتقده كشفا ليس سوى حجب لذاك المراد. فنحن أمام كتاب يحول النسيان إلى عملية لإنتاج المعرفة.
يقر الكاتب والمفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي بأنه قارئ قبل أن يكون كاتبا وبعد أن يكتب، بينما يرفع رأسه وهو يقرأ، كما تحدث عن ذلك في كتابه “القراءة رافعة رأسها”.
ويواصل الكاتب الحفر عميقا في فعل القراءة من زوايا غير مطروقة في كتابه الجديد بعنوان “قراءات من أجل النسيان”.
ولا يختلف الكتاب الجديد عن إصرار بنعبدالعالي على فعل “القراءة الحية” هذه “القراءة التي لا تحترم النص ولا تخضع له”. وهي ما تفتأ ترفع رأسها متوقفة، كما يقول فيلم إيطالي شهير، كل ذلك ليس إهمالا للنص وإنما من فرط ما يكتسح عملية القراءة من أفكار، وما يخالجها من تنبيهات، وما يخطر بباله من ترابطات.
القراءة الحية
ويدفعنا كتاب “قراءات من أجل النسيان”، الصادر أخيرا عن منشورات المتوسط – إيطاليا، إلى فعل النسيان وارتباطه بالقراءة، التي غالبا ما ترتبط بالتذكر، لكن الكاتب يدفعها إلى فعل النسيان وما ينتج عنه من توالد معارف في عمق القارئ الذي يخرج من دائرة التذكر والاختزان إلى القراءة الحيوية.
منذ السطور الأولى لكتابه الجديد يبدو بنعبدالعالي أنه يريد الكشف عن مراده من تأليف كتاب “قراءات من أجل النسيان”، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ أن ما اعتقده كشفا ليس سوى حجب لذاك المراد. فنحن أمام كتاب يحول النسيان إلى عملية لإنتاج المعرفة.
يعود الكاتب إلى قصَّة «فونيس أو الذاكرة» لبورخيس، وفيها يروي بورخيس حكاية شابٍّ فَقَدَ القدرة على النسيان. فعلى إثر سقوطه عن حصان غير مروَّض، لم يُصَبْ أرينيو فونيس بفقدان الذاكرة، وإنما بفقدان النسيان. ثم تدفعه المكابرة ليتظاهر بأن السقطة ليست فجيعة وإنما نعمة النعم «قبل ذلك المساء المُمطِر، حيث ألقاني الجوادُ الأدهمُ من على صهوته، كنتُ مثل بقية البشر، فاقدَ البصيرة، أصمَّ بليدا، كنتُ شديدَ النسيان».
صار فونيس يَنظرُ إلى الأعوام التسعة عشر التي قضاها قبل الحادث على أنها سنوات ظلام «كنتُ أنظر من غير أن أرى، وأسمع من غير أن أفهم، كنتُ أكاد أنسى كلَّ شيء». حين سقط من على الحصان «فَقَدَ وعيه، وعندما أفاق، كان الحاضر ثريَّا جدَّا، وناصعا لحَدٍّ لا يُطاق، وكذلك كانت أقدم ذكرياته وحتّى أقلّها شأنا”.
ويرى الكاتب أنه بإشاراته المتكرِّرة إلى بعض التواريخ، يُصرُّ بورخيس على أن يذكِّرنا بأن بطل حكايته ينتمي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يسمَّى «قرن التاريخ»، حيث دفعت «حُمَّى التاريخ» التي يتحدَّث عنها نيتشه، البعضَ إلى أنْ يتحوَّل، مثل فونيس، إلى «آلة تخزين» سرعان ما ستتحوَّل، بدورها، إلى قدرة جبَّارة على «حفظ المعلومات وادِّخارها»، كي تجعل الإنسان غارقا في الجزئيات، عاجزا عن أخذ المسافة بينه وبين واقع تحوَّل إلى «ما لا نهاية له من النقط المتحرِّكة، والأخبار المتدفِّقة، والمعلومات الفيَّاضة».
في هذا الجو يضعنا بنعبدالعالي أمام أسئلة كثيرة تتعلق بعملية القراءة نفسها، بعلاقتنا مع ما نقرأ، وما هي القراءات التي ننساها أو نتناساها أو نتمنى نسيانها. ولكن هل فعلا لدينا قدرة على النسيان؟
هل النسيان نعمة (لوحة للفنان محمود فهمي عبود)
ويقول الكاتب المغربي إنه “لا عجب أن يغرق ‘فلاسفة الجامعات‘ في العصر الحديث في قراءة النّصوص وتأويلها، وأن تغدو الفلسفة تأويلا لتاريخ الفلسفة. غير أن انتقاء النّصوص والارتباط بها اختلف من فيلسوف لآخر. فمن هؤلاء من هو أستاذ أكثر منه فيلسوفا شأن ياسبرس وريكور، ومنهم من هو عكس ذلك. ولعل من يمثّل هذا الصّنف الثاني خير تمثيل هو بالضبط أحد تلامذة نيتشه، وأعني جيل دولوز”.
ويضيف “عندما كان صاحب ‘نيتشه والفلسفة‘ يشتغل على الفيلسوف، فليس من أجل تحصيل معارف وتكديس معلومات، ليس من أجل توفير احتياطي فكري، فكما يقول ‘ليس لديّ احتياط فكر. ما أعرفه، أعرفه بدلالة الحاجة التي يتطلّبها عمل أُنجزه حالا. وإذا ما عدت إلى الأمر سنوات في ما بعد، يكون عليّ أن أعاود التّحصيل من جديد‘. إنّها إذا قراءات في خضم إنتاج، قراءات من أجل خروج وانفصال، قراءات ليس من أجل شحن الذاكرة، وإنما من أجل النسيان”.
باقتراح حازم في بداية الكتاب من بنعبدالعالي بأن ننسى النسيان، ليصحبنا بعدها إلى مكتبات الفلاسفة والاقتباسات، وتعلم الفلسفة، وثم إلى تقويض التاريخ، وإلى العلم المفكر، والتقنية، والكتابة، والحياة، والترجمة، والبطء، والمشي، واللغة. لنصل أخيرا إلى نسيانها وربما نسيان الكتاب كله.
ومرة أخرى، يفاجئنا بنعبدالعالي بكتابه الجديد، الذي لا يزال ينتصر للاختلاف في كلّ كتبه، حيث ينحاز إلى فكر الانفصال بدل فكر الاتصال الذي يظل ينسج على منوال سابق. هذا المفكر جعل الفلسفة فنا للعيش وشأنا يوميا، أخرجها من أسوار الجامعة وفتحها على الفرد والجماعة. هكذا تصبح الفلسفة عند بنعبدالعالي كتابة ونوعا من ممارسة الذات ضمن “جماليات الوجود”. كاتب يترك الأجوبة جانبا ليطرح الأسئلة.
ويذكر أن عبدالسلام بنعبدالعالي كاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب في جامعة الرباط، المغرب. من مؤلفاته “الفلسفة السياسية عند الفارابي”، “أسس الفكر الفلسفي المعاصر”، “حوار مع الفكر الفرنسي”، “القراءة رافعة رأسها”، “الكتابة بالقفز والوثب”، وغيرها. كما قدم عددا من الترجمات منها “الكتابة والتناسخ” لعبدالفتاح كيليطو و”درس السيميولوجيا” لرولان بارت.
فضاء الآراء – العرب اللندنية