القراءة بين الوجوب والرغبة

يصف دانيال بناك إجماع الحديث على أهمية القراءة ووجوبها بالأمر الكئيب، فآثار الكلمات ثقيلة كالرصاص على سمع من لا يريدها، ويذهب ليؤسس فعل القراءة على مبدأ الرغبة بالدرجة الأولى.

من يستطيع أن يقرأ، يرَ ضعفَ ما يراهُ الآخرون، هذا ما قاله الشاعر اليوناني مناندر قبل قرون، أما الآن، فقد بات التساؤل حيال أهمية القراءة غير مجدٍ، إذ ندفع اليوم بالكتاب إلى القارئ، فينظر إلى ساعته، ويسأل عن عدد صفحاته. قرّاء اليوم منشغلون بعالم يلهث نحو وجهات لا حصر لها، ما يدفع لإعادة النظر في الأسئلة التي كانت تطرح قديماً، لتحيط بالكيفية التي آلت إليها القراءة، وكيف تتم الكتابة اليوم ولمن تتوجه؟

ولعل أبرز من ذهب بعيداً في إثارة الأسئلة حول كيفية القراءة وغاياتها كان الناقد الأميركي هارولد بلوم في كتابه “كيف نقرأ ولماذا” إذ صاغ عبر حواراته وشروحاته خطين متوازيين للحديث عنها، كأكاديمي ومدرس من جهة، وكقارئ مرموق من جهة ثانية. يبدأ بلوم من حيث انتهى الأسلاف، إذ لا يعوّل على الحديث عن أهمية القراءة، فما كتب سابقاً كان كافياً للبدء من حيث اعتُبرت فعلاً موجهاً لفتح العقول على التساؤل والدهشة. إلا أنه يلقي شعاراً أشبه بإعلان خطر: لقد جئنا متأخرين، طالما لا نزال نبحث عن الكتب لأنفسنا. لذا ينحو في نقده للبحث عن الهدف من القراءة، لجهة تحولها إلى فعلٍ عالق في طورٍ منغلق على الآخر، الأمر الذي يعزوهُ إلى عالم ساهم في تقزيم الفعل وتكريس ضآلتهِ. فالقارئ اليوم يُرمى بعشرات المشتتات التكنولوجية والمعلوماتية، والتي صارت من الوفرة ما تنوء به الحواس والعقول.

يفتح بلوم باب اللوم على المؤسسات التربوية والتعليمية، لمنحها التساهل والتفاهة موطئَ قدمٍ في الجامعات. ويجرّمُ في الوقت ذاته نظم التعليم التي سمحت لمن يعملون بين جدران مؤسساتها، بالشعور بالبراءة. ما الذي يفسّر رؤية أعدادٍ كبيرة من القراء الحقيقيين خارج الجامعة أكثر من داخلها؟ لذا يصح القول بتخلي النظام التعليمي عن وظيفته الأساسية، وهو ما يُنبئ بموته، ويدفع لإعلان الخسارة في عالمٍ ينساق الكتبة فيه بعيداً عن المنحى الجمالي والفني للكتابة، بل لصالح انتماءاتٍ وتشعبات حولت كتبهم إلى نفاياتٍ تجارية تُصنع من أجل مجتمع تجاري لا أكثر.

وفي اتجاه آخر، ينحو الكاتب الفرنسي دانيال بناك (1944) في كتابه “متعة القراءة” نحو وجهاتٍ مغايرة، إذ يصف إجماع الحديث على أهمية القراءة ووجوبها بالأمر الكئيب، فآثار الكلمات كما يصفها ثقيلة كالرصاص على سمع من لا يريدها، ويذهب ليؤسس فعل القراءة على مبدأ الرغبة بالدرجة الأولى، فالعبارات التي تشجّع على جمع الكتب وترك السينما والتلفاز تبدو وكأنها تقطع السبل أمام الوصول إلى الغاية منها، بل تقضي أكثر على “فعل المتعة” من دون أن يبرئ مناهج المدرسة، ويحملها مسؤولية دفن الرغبة في القراءة، إذ يتفق مع بلوم في وصف ما يدرَّسُ في المدارس “بالقراءة”. أما حب القراءة فلا مكان له، لذا يبقى سؤاله عالقاً ومفتوحاً على البحث والتعدد: يبدو لي الأمر وكأن هناك اتفاقاً أزلياً على أن لا مكان للمتعة في المناهج المدرسية.

يطرح بناك منفذاً عبر استبدال “الجبر على القراءة” بدفع من لا يرغبون فيها للمشاركة فيما أسماه “السعادة الخاصة للقراءة” والذي قد يوصل لقراءات ذكية في مراحل لاحقة، إلا أنه رفض اعتبارها فعلاً قائماً على التواصل، وفضل اقترانها بالصمت، إذ لا مناص يبدو من دخولها طور العزلة، طالما أننا بنظرة إلى العالم نعلم أنه لا يزال يسير في أسوأ الطرق، فالمؤلفات تتكدس، وسيولٌ من الكتبة تتوالى. ما الذي تغير؟ وهل أصبح العالم مكاناً أفضل؟

لذا علينا أن نعيد تأسيس علاقتنا بالكتب على نحو مغاير لما سبق. ثمة علاقة تجمع بين الفعل وخلق الظروف لأدائهِ، وبمجرد طرح سؤال الوقت عن القراءة ندرك أن الرغبة بها غير موجودة، خاصة لدى الطلبة، إذ باتوا ينظرون إلى الكتب كما لو أنه من المستحيل إنهاؤها، ربما انطلاقاً من خوفهم المتعلق بالمدة، أو لعلاقتهم المترنحة بزمن وسمَ توجهاتهم النفسية والسلوكية بسمةِ عالمهم. إلا أن تفسيراً آخر أكثر اتساعاً يأخذ به بناك حيث يتجه إلى تعديل النظرة للوقت الممنوح لقراءة كتاب ما، إذ شبّه الزمن الذي نحجزه للقراءة بزمن العشق، وهو مثله يطيل من زمن العيش، فهل رأينا يوماً محبّاً لا يجد وقتاً للعشق؟ يقول متسائلاً من دون أن يخضعَ القراءة لسلطة الوقت الحياتي، بل يجعلها كالحب، أسلوب حياة.

“كان يفتح عيوناً، ويشعلُ مصابيح” هكذا تصف إحدى القارئات معلّمها في كتاب بناك، ويبدو مع اختلاف بلوم وبناك في اتجاهات كتابيهما، إلا أن ثمة نقطة بالغة الأهمية يعوّلان عليها، إذ لا بد من رسم المصالحة بين القراء والكتب، من خلال الحفاظ على الشرط الوحيد لبقاء الرغبة بها، ورسم أهدافٍ مثلى منها، وهو ألا نطلب من القراءة شيئاً في المقابل، بل أن تبقى القراءة للقراءة، وإذا ما تطور الأمر أن تذهب لصالح العيون التي تتفتح، والوجوهِ التي تدهش، وللأسئلة التي ترى النور.. وتحلق.

غنوة فضة – غنوة فضة كاتبة سورية / الميادين نت

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

كتاب ضحايا حريق الفن.. عبد الحليم يستعيد جيلاً مسرحياً منسياً

المصري عيد عبد الحليم يصدر كتاب "ضحايا حريق الفن"، ويسلط الضوء على سيرة 55 شخصاً من جيل المسرحيين المصريين الذين ماتوا في الحريق الذي اندلع بمسرح محافظة "بني سويف" عام 2005.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
20 − 10 =