أجهز نفسي لمقال نوعي جديد مثل كل مرة، أجري الاتصالات وأدير حوارات وأحاول أن أعصر المصادر الموزعة في العواصم لاستخلاص معلومة أو زاوية رؤية جديدة، يترافق ذلك كله مع متابعة إخبارية وقراءات طويلة لدراسات وأحيانا كتب وتقارير متخصصة.
كان موضوع مقالي لهذا الأسبوع عن القدس، وتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، التي لا يمكن قراءتها إلا إعلان أزمة شديدة مع الأردن، وربما تنصلا من طرف إسرائيل عن اتفاقية وادي عربة.
في خضم كل ذلك، يأتي الخبر الصاعق (صاعق حقا) باغتيال الزميلة الأكثر رقيا واحترافا وخبرة في الصحافة التلفزيونية السيدة شيرين أبو عاقلة، رحمها الله.
بعد كثير من الحزن والوجع على هذا الفقد المفجع، أعود إلى عملي مواصلا الحديث عن ذات الموضوع، القدس، والصراع الفلسطيني “العربي” – الإسرائيلي، لكن هذه المرة وضعت شيرين أبو عاقلة بوصلة جديدة للأفكار.
شيرين، ابنة القدس، بمعنى أن المزاودة عليها من أي طرف كان ليس أكثر من عبث ساذج، فهي المقدسية بالولادة والمنشأ والتواتر. وشيرين رحمها الله ابنة القدس المسيحية، وهذا يرسخ حضورها المقدسي في أورشليم الكتاب المقدس، مدينة المسيح حيث الصلب والمهد والقيامة.
والسيدة شيرين رحمها الله صحفية معروفة لا عربيا وحسب، بل عالميا من خلال تقاريرها التي استمرت أكثر من عشرين عاما وعلى مدار شبه يومي لتكون صوتا فلسطينيا هادئا واثقا ومهنيا محترفا بلا جعجعة ولا استعراض ولا إنشائيات بلا طائل، كانت تنقل الحدث باحتراف وتصنع مادتها الخبرية بمصداقية لا أجندات فيها.
لك أن تختلف مع محطة الجزيرة أو تتفق معها، تلك قصة مشروعة لكل متلقٍ ومع أي محطة يريد انتقادها، لكن لا أعتقد أن أيا من محترفي الصحافة يمكن أن يجد نقدا لعمل أستاذة كبيرة مثل شيرين أبو عاقلة، ومن هم مثلها من أساتذة كبار شكلوا بمهنيتهم حالة أيقونية رفعت من شهرة قنواتهم وليس العكس.
شيرين، ابنة غرب النهر، تلقت معرفتها العلمية والأكاديمية في الإعلام من شرق ذلك النهر، هي ابنة “الأردن” بضفتيه. مما يضع حاجزا آخر أمام مزاودات إقليمية إضافية.
وشيرين “المشمولة برحمة الله يقينا” كانت دوما مسلحة بميكرفونها وكلمتها التي تعتني بصياغتها احتراما لكل من يتلقى منها الخبر، وفي يومها الأخير على هذه الأرض، كانت تلبس خوذتها وسترتها الصحفية التي تعكس تمسكها بأن تكون مشروع حياة لنفسها ولأسرتها ومحبيها، ومع ذلك تلقت رصاصة قاتلة قنصت منها الحياة وأنهت المشروع كله واخترقت تلك المساحة الصغيرة المكشوفة تحت الخوذة فوق الأذن.
الراحلة شيرين أبو عاقلة، وضعتنا جميعا أمام الأسئلة التي يجب أن يواجهها العالم كله، وأول الأسئلة: إلى متى؟
شيرين، المقدسية المسيحية التي ارتقت روحها إلى خالقها، أجابت، للأسف بمقتلها المفجع، على إرهاصات اختصار القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والنزاع كله في مقدسات وأماكن عبادة إلى ما هو أوسع من ذلك، وأعادت لعبارة تحرير الأرض والإنسان ألَقها ومعناها الحقيقي بدون أي تفسيرات واسعة أو ضيقة.
كل ما نحتاجه اليوم، أن نتأمل في التضحية العظيمة التي تجسدت بشيرين أبو عاقلة لنفهم تماما حدود النزاع والمختلف عليه. هي أرض محتلة من ضمنها مدينة القدس المتنازع على سيادتها، وهناك قانون دولي لخّصته الأمم المتحدة بقرارات دولية على رأسها قرار ٢٤٢ بانسحاب إسرائيلي من كل الأراضي التي احتلتها عسكريا عام ١٩٦٧.
انتهينا اليوم إلى عملية سلام مصابة بالشلل الرباعي الكامل بلا أي أمل في أي حركة فيها، وسلطة حكم “بوليسية” حتى في دورها بالوكالة الأمنية عن إدارة الاحتلال فهي عاجزة عن تقديم ما يفيد شعبا محاصرا ومعزولا ويفقد الأمل يوما بعد يوم، وفصائل فلسطينية “متناحرة” لا تستطيع الخروج من عقدتها الأزلية بالتكسب والارتزاق من حالة الاحتلال نفسه.
وفي الطرف الآخر، يمين إسرائيلي يعكس مزاجا يمينيا متطرفا يسود في المجتمع الإسرائيلي، ويتنافس بينيت وليبيد فيه على تقديم عروض التشنج السياسي لتثبيت الموقع السياسي بدون أي إدراك للهاوية التي تنتظر الجميع بلا استثناء.
كان طريق شيرين أبو عاقلة الأخير والموثق بفيديو هو الطريق إلى جنين، لكن الطريق الوحيد للجميع حاليا ولا ترف انتظار هذه المرة، هو الطريق إلى السلام. طريق واضح يحتاج أن ينزل المتعصبون فيه جميعا عن ارتفاعاتهم الشاهقة، خصوصا ارتفاعات حكام تل أبيب التي تجاوزت الأرض والواقع.
وللحديث بقية.. بعد كل هذا الوجع على شيرين أبو عاقلة، وليكن ذكرها مؤبدا.