حبس العالم أنفاسه بعدما أصبح الشرق الأوسط قاب قوسين مما يشبه حربا عالمية ثالثة، قد دفع بالمنطقة لمستقبل غامض. غير أن هجوم الجمهورية الإسلامية ورد الدولة العبرية ظلا لحد الآن في حدود “المتوقع” وفق معلقين ألمان وأوروبيين.
لا تزال لغة الوعيد والتهديد سيدة الموقف بين طهران وتل أبيب، فبعد الهجوم الكبير وغير المسبوق الذي شنته إيران على إسرائيل، واستعراض الدولة العبرية لقدراتها الدفاعية المتطورة بدعم من الحليف الأمريكي، تحول الاهتمام الإسرائيلي على مدى أيام إلى دراسة خيارات الرد على الهجوم الإيراني، الذي وإن كان فشل من حيث النجاعة وإحداث الأضرار، إلا أنه من الناحية السيكولوجية، يشكل سابقة وكسرا للخطوط الحمراء.
فقد كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ، التي ينطلق فيها هجوم مباشر من الأراضي الإيرانية لاستهداف الأراضي الإسرائيلية. وبالتالي، ومن وجهة نظر الردع الاستراتيجي، اضطرت الدولة العبرية للرد، رغم أن الهجوم الإيراني نفسه ليس إلا ردا على قصف إسرائيلي مفترض لملحق تابع للسفارة الإيرانية في دمشق. ولا تزال المنطقة تعيش حالة من الغموض وسط حرب كلامية مسعورة حول حق الرد وطبيعته وتوقيته ودلالاته العسكرية والاستراتيجية، وسط تحذيرات من انزلاق تدريجي إلى حرب إقليمية شاملة لا تحمد عقباها.
وبعد أيام من التردد، يبدو أن إسرائيل اختارت أخيرا كيفية الرد، إذ يعتقد أنها شنت هجوما على الأراضي الإيرانية (فجر الجمعة 19 أبريل / نيسان 2024) في أحدث ضربة متبادلة بين البلدين المتنافسين. فوفق مصادر إعلامية متطابقة فقد وقعت انفجارات في وسط إيران اعتبرها مسؤولون أمريكيون ضربة إسرائيلية ردّا على الهجوم الإيراني. غير أن وكالة أنباء “تسنيم” الإيرانية نقلت عن “مصادر مطلعة” أنه “لا تقارير عن هجوم من الخارج” وقع في إيران. غير أن المسؤولين الإيرانيين أكدوا وقوع ثلاثة انفجارات قرب قاعدة عسكرية في قهجاورستان الواقعة بين أصفهان ومطارها في وسط البلاد، وفق ما ذكرت وكالة “فارس” الرسمية. كما أن طهران قالت إنها أسقطت مُسيّرات وأنه “ليس هناك هجوم صاروخي في الوقت الحالي” على البلاد. ويبدو القصف الإسرائيلي المفترض وكذلك رد الفعل الإيراني والدعوات الدولية للتهدئة، مؤشرات قد توقف دوامة التصعيد الحالي ولو مؤقتا.
وكان مراقبون قد حذروا إسرائيل من المبالغة في حجم الرد على الهجوم الإيراني، وبهذا الصدد، نبهت صحيفة الغارديان اللندنية، (16 أبريل / نيسان 2024) بالقول: “الفخ الذي يجب على القيادة الإسرائيلية ألا تقع فيه هو الاعتقاد بأن الحرب مع إيران حتمية وأنها ستكون أكثر تكلفة بكثير إذا تأخرت، (..) وقد أعلنت إيران بالفعل أنها مستعدة للتصعيد إذا قامت إسرائيل بالانتقام. ويمكن لإسرائيل أن ترد بعد ذلك. وهناك خطر من أن يسيء كل طرف تقييم موقف الطرف الآخر، مما يجعل الحرب أمراً لا مفر منه. إسرائيل دولة تمتلك أسلحة نووية غير معلنة. لم تعد إيران ملزمة بالاتفاق النووي بعد انسحاب دونالد ترامب بشكل متهور من المعاهدة. وقد أدى فشل الاتفاق الجديد إلى جعل إيران قريبة إلى حد ما من الحصول على ما يكفي من اليورانيوم المستخدم في تصنيع الأسلحة النووية. (.) إن استهداف المنشآت النووية الإيرانية رداً على الهجوم الإيراني سيكون تصعيداً غير مسؤول. كما أنّ شن الحرب للحفاظ على السلام ليس استراتيجية جيدة بشكل عام (..) يجب منع البلدين من إشعال حريق قد يشمل المنطقة بأكملها”.
ألمانيا وأوروبا ـ مزيد من العقوبات ضد طهران
وكما كان متوقعا، قرر قادة الاتحاد الأوروبي (17 أبريل/ نيسان) فرض مزيد من العقوبات على الجمهورية الإسلامية بعد هجومها على إسرائيل. وأجمع قادة التكتل القاري على إدانة طهران، مجددين التزامهم بأمن وسلامة الدولة العبرية. وبهذا الشأن قال رئيس القمة شارل ميشيل في بروكسل: “نشعر أنه من المهم جدا بذل كل ما في وسعنا لعزل إيران”، مضيفا أن تشديد العقوبات يستهدف بشكل خاص الشركات المشاركة في إنتاج المسيرات والصواريخ في إيران.
ومن جهته، شدّد المستشار الألماني أولاف شولتس على أنه “من المهم ألا ترد إسرائيل بهجوم واسع النطاق”. وذهب شولتس إلى الاعتقاد بوجود توجه محتمل نحو تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وهو ما تطالب به إسرائيل منذ سنوات. وصرح شولتس بأن الاتحاد الأوروبي يجري حاليا فحصا قانونيا بخصوص هذا الموضوع.
أمّا وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، فذهبت في نفس الاتجاه وطالبت إسرائيل بالتصرف بحكمة وتروِ. فعقب لقاء جمعها بكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الإسرائيلي اسحق هرتسوغ، قالت بيربوك (17 أبريل/ نيسان): “لا اتحدث عن الاستسلام. أتحدث هنا عن ضبط النفس الحكيم والذي لا يقل عن القوة في شيء”. وأضافت الوزيرة أن “السلوك الخطير” من جانب إيران لن يمر دون عواقب إضافية، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي فرض على طهران عقوبات كبيرة بالفعل وسيواصل ذلك.
غير أن صحيفة “تاغس أنتسايغر” السويسرية (17 أبريل/ نيسان) انتقدت ضعف الدبلوماسية الأوروبية وكتبت: “إيران أقرب من أي وقت مضى من صنع القنبلة الذرية، وتدعم الجماعات الإرهابية في البلدان المحيطة بإسرائيل منذ سنوات وبدأت هجوما مباشرا كبيرا على عدوها اللدود. والآن تم تجاوز خط أحمر جديد. (..) ليس هناك مجال كبير للمناورة بعد سنوات من الاسترضاء. ومرة أخرى، يواجه الأوروبيون حالة من الفوضى في طموحاتهم في مجال السياسة الخارجية. (..) لا يقتصر الأمر على أن النظام في طهران على وشك امتلاك سلاح خطير في متناول اليد. لقد استغل الحرس الثوري القوي الوقت لتسليح محور أعداء إسرائيل، من ميليشيا حزب الله في لبنان إلى حكام اليمن وسوريا والعراق إلى إرهابيي حماس في قطاع غزة. والآن ليس لدى الاتحاد الأوروبي خيار سوى التحذير، بعجز، من احتمال التصعيد”.
غزة ـ كيف يوظف نتنياهو الأزمة مع إيران؟
صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” الألمانية كتبت في 17 أبريل/ نيسان متسائلة عمّا إذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستغل الأزمة مع إيران وتوجه كل الأنظار إليها، لخلق حقائق جديدة على الأرض في غزة بإنشاء منطقة عازلة هناك. وكتبت تقول: “إن واقع شن إسرائيل لحرب ضد حماس منذ ستة أشهر لم يتم نسيانه، ولكن للمرة الأولى تلاشت هذه الحرب ولو لفترة وجيزة وتوارت إلى الخلف. ويعتقد البعض أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سعيد للغاية بهذا الأمر”.
ويرى عدد من المراقبين أن الرد على الهجوم الإيراني والقضاء على حماس في رفح في آن واحد هما أمران صعبا المنال، فمن الصعب على إسرائيل التعامل مع الجبهتين في نفس الوقت. غير أن بنيامين نتنياهو جدد عزمه على تحقيق الهدفين وأن المشكلة قد تكون قضية جدول زمني ليس إلا. صحيفة “رزيكزبوسبوليتا” البولندية (18 أبريل/ نيسان) كتبت معلقة: “من ناحية، لا يستطيع الغرب تجنب إدانة إيران الآن. لكن في المقابل، فإن إطلاق اليد لنتنياهو سيؤدي إلى التصعيد وحينها لن يتمكن أحد من السيطرة على الوضع. وعود ثقاب ترميه طهران سيؤدي إلى حريق في المنطقة بأكملها”.
رد إسرائيلي “معتدل” لحصد الزخم الدبلوماسي
وأفادت تقارير إعلامية إسرائيلية وأخرى أمريكية أنّ القيادة الإسرائيلية درست مرتين على الأقل خيار ضربات انتقامية سريعة ضدّ طهران وترددت قبل اتخاذ قرارها. وكشفت قناة “كان” التلفزيونية العمومية الإسرائيلية أن بنيامين نتنياهو قرّر، إثر محادثة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، عدم تنفيذ تلك الخطط الانتقامية. صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية، (17 أبريل/ نيسان)، ذهبت في نفس الاتجاه وكتبت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بات يتمتع بميزة تفضيلية بعد الهجوم الإيراني وكتبت: “هذا هو الطريق المسدود الذي غالبًا ما تجد الأنظمة الاستبدادية نفسها فيه: فهي مضطرة إلى استعراض عضلاتها، لأسباب داخلية أيضًا.. وإما لأسباب تتعلق بسمعة النظام، حتى لو كان ذلك غير حكيم أو حتى غبي. والواقع أن عواقب الهجوم (الإيراني) تكشف الآن ضعف طهران السياسي والدبلوماسي والعسكري. وبهذا المعنى، فإن الرئيس جو بايدن على حق، عندما قال لنتنياهو: لقد حققت نصرا، اقبله، لا تتخلص منه. وإذا قرر نتنياهو الرد بقسوة من باب الانتقام، فإنه سيهدر الفوز بميزة غير متوقعة. والآن توفر له الدبلوماسية والمهارة السياسية الفرصة لاستغلال الوضع الجديد لزيادة عزلة إيران بالتعاون بين إسرائيل وواشنطن وما يسمى بالدول العربية المعتدلة إضافة إلى لندن وباريس”.
صحيفة “دي ستاندارد” البلجيكية، (16أبريل/ نيسان) ذهبت بدورها إلى انتقاد بنيامين نتنياهو وكتبت بأن الحرب المدمرة في قطاع غزة تسببت في فتور الصداقة بين حلفاء إسرائيل بشكل كبير. لكن هذه الدول نفسها لا تزال تنظر إلى إيران باعتبارها عدوًا أكبر. “غير أن حكومة نتنياهو تلعب بلا رحمة لعبة البوكر مع الولاءات. ويدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن جيرانه يريدون تجنب حرب إقليمية. وهو يعلم أن أوروبا، وبالتأكيد الولايات المتحدة الأمريكية، لن تحرم إسرائيل أبداً من الوسائل العسكرية للدفاع عن نفسها. وقد كرر الرئيس الأمريكي جو بايدن مرات عديدة بالقول إن دعمنا لإسرائيل لا يتزعزع. وفي الوقت نفسه، حذر بايدن إسرائيل من شن هجوم مضاد على إيران. ولكن ماذا سيفعل إذا أرسلت إسرائيل قاذفات قنابل إلى طهران؟ التخلي عن الدعم؟ إنه لا يستطيع حتى فرض وقف لإطلاق النار في غزة”.
هجوم “رخيص” وتكلفة دفاعية “باهظة”
بعد الهجوم الإيراني، جاء وقت تقييم الحصيلة بحسابات الربح والخسارة، بما في ذلك التكلفة للطرفين المهاجم كما المدافع. فرغم أن الهجوم الإيراني لم يستغرق سوى بضع ساعات، إلا أن التصدي له كان مكلفا من الناحية المالية. وبهذا الشأن قدر ريم أمينوش، وهو ضابط وكبير المستشارين الماليين سابقا في الجيش الإسرائيلي، تلك التكلفة، التي ساهمت فيها جيوش إسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا والأردن بنحو 1.1 مليار دولار. ويعتقد أن إسرائيل تصدت لثلثي المسيرات والصواريخ الإيرانية، فيما تكلف الحلفاء بالثلث الباقي. غير أن هذا لم يمنع الطرفين الإسرائيلي والإيراني، كلا بطريقته، بإعلان الانتصار في لعبة قد تتحول إلى حرب شبه نووية في أي وقت. لقد حققت إيران هدفها، فقد أبقت إسرائيل في حالة من الترقب لعدة أيام. وفي العالم العربي شاهد الجميع على شاشات التلفزيون كيف انفجرت الصواريخ الإيرانية في سماء الدولة العبرية، ولعل هذا الفعل الإعلامي هو “النجاح” الرئيسي للعملية العسكرية الإيرانية. غير أن إسرائيل من جهتها احتفلت بنجاحاتها، واستعادت نوعا من الردع الذي تبدد بعد هجوم حماس عليها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ورأى الجميع قدراتها العسكرية المتفوقة. وإضافة إلى ذلك، فإن معظم الدول الغربية التي أدانت إسرائيل علنًا في السابق بسبب العملية في غزة، أعربت الآن عن تضامنها ودعمها للدولة العبرية في حربها ضد إيران.
وبِشأن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية (16 أبريل/ نيسان): “لو أن أكثر من 300 طائرة بدون طيار وصواريخ باليستية وصواريخ كروز وصلت إلى أهدافها في إسرائيل، لما كان بإمكان جو بايدن قول ما قاله لبنيامين نتنياهو: “ارضوا بالنصر”. لقد أبلت إسرائيل بلاءً حسناً في مواجهة الهجوم الكبير الذي وقع يوم السبت، لكنها حصلت على مساعدة من الولايات المتحدة وآخرين. (…) وهناك أيضًا قضية التكاليف غير المتكافئة. الطائرات بدون طيار رخيصة الإنتاج وسهلة النقل، ولكن قد يكون إسقاطها مكلفًا. (…) إن أحداث مساء السبت هي درس في سبب حرص الولايات المتحدة على عدم نفاد ذخيرة الدفاع عنها أبدًا”.
صحيفة “إلباييس” الإسبانية (15 أبريل/ نيسان) اعتبرت أنه: “يمكن تفسير الاستراتيجية الإيرانية (في الهجوم على إسرائيل) بأنها رغبة في التحكم والسيطرة، حيث تم تجنب عامل المفاجأة. لكن الهجوم المباشر من الأراضي الإيرانية على إسرائيل (…) يمثل قفزة نوعية خطيرة نحو سيناريو حرب إقليمية يجب تجنبه بأي ثمن. (…) ويتعين على المجتمع الدولي ـ الذي أدانت ديمقراطياته الرئيسية هذا العدوان، أن يتخذ كافة التدابير اللازمة لوقف الدوامة التي انزلقت إليها إسرائيل وإيران، والتي سوف تؤدي حتماً إلى حرب ذات عواقب عالمية. يجب أن تتغلب الدبلوماسية على خطاب الحرب لدى البلدين، والذي ثبت أنه لا يقدم أي حل ولا يؤدي إلا إلى مزيد من الخوف والدمار والموت”.
حسن زنيند – DW عربية