تاريخُ الأديان لا يخبرنا بوجود إيمان يمكن أن يتحقّقَ في روح الإنسان من دون أن تنعكس آثارُه في حياته، وفي الواقع الذي يعيشُ فيه. الإيمانُ يتخذُ شكلًا من أشكال الحياة الروحية والأخلاقية، وهذا النوع من الحياة الروحية والأخلاقية هو ما نعنيه بالدين.
يظنُ بعضُ الناس خطأ أن الإيمانَ يمكن أن يتحقق ويُعبّر عن حضوره الفاعل في حياة الإنسان بلا دين، وبلا أن يتجسدَ كسلوك. الإيمانُ في آثاره العملية هو الدينُ في أفقه الروحي والأخلاقي. الإيمانُ حالةٌ وجودية كالفرح والمحبة، وليس صورةً ذهنية مجردة،كلُّ حالة وجودية لها آثار على شاكلتها، الفرح مثلًا تظهر آثارُه في مشاعر الإنسان، وتنعكسُ آثارُه على وجهه وتعبيرات جسده. تاريخُ الأديان لا يخبرنا بوجود إيمان يمكن أن يتحقّقَ في روح الإنسان من دون أن تنعكس آثارُه في حياته، وفي الواقع الذي يعيشُ فيه. الإيمانُ يتخذُ شكلًا من أشكال الحياة الروحية والأخلاقية، وهذا النوع من الحياة الروحية والأخلاقية هو ما نعنيه بالدين.
ليس بالضرورة أن يكون هذا الدينُ نسخةً لأحد الأديان المعروفة، إذ يمكن أن يتخذ الإنسانُ لنفسه دينَه الخاص، لكن هذا الدين الخاص يعجزُ عن الإفلات كليًا من البنية اللاشعوريّة لدين أهله، ولا تختفي نهائيًا آثارُ ذلك الدين المترسبة في أعماقه. يظل الدينُ الذي ورثه من أهله ومجتمعه وبيئته المولود فيها يعبّر عن نفسه في لغته وثقافته وعاداته وعلاقاته الاجتماعية، وأوضح تعبيراته تتجلى في الوفاء للقيم الإنسانية السامية في ذلك الدين. حتى في كتابات مفكرين أعلنوا إلحادَهم لا تختفي آثارُ دين الولادة والنشأة الأولى الكامنة في أعماقهم، ويمكن للخبير أن يقرأ ما تحجبه كلماتُهم ويتوارى في نصوصهم من إشارات لما هو غاطس من الدين.
لا يمكن أن يظل الإيمانُ حالةً خاملة أو كسولةً أو مضمرةً لا أثر لها في حياة الإنسان، الإيمانُ يكرّسُ الحياةَ الروحية والأخلاقية، الإيمانُ يتجسدُ في مواقف إنسانية نبيلة. الإيمانُ تتسامى فيه شخصيةُ الإنسان فيتخذ شكلَ تديّن رحماني وأخلاقي.كلُّ إيمان يكشف عن حضوره العملي في تديِّن الإنسان،كلُّ إيمان يتحقق في تديّن، وإن لم يكن كلُّ تديّن مرآةً ينعكس فيها الإيمانُ الأصيل، التديّنُ الشكلي والشعبوي يضمحلُ فيه الإيمانُ المُلهم لأعذب معاني الحياة.
كي تظل جذوةُ الإيمان متوهجةً، ويواصل الدينُ حضورَه وفاعليته وتأثيره في الحياة يحتاجُ إلى وقود، العبادةُ هي الوقود. الدينُ كالمصباح الذي لا يضيء إلا عند اتصاله بمصدر الطاقة، في أية لحظة يتوقف وصولُ الطاقة ينطفيء ضوءُ المصباح. إنه كأصناف النباتات التي لاتعيش إلا إن كانت أرضُها مشبعةً بالماء. الدينُ كائنٌ حيٌّ يحتاج إلى ما يغذّيه، وإلى ما يوقظ نبضَ الحياة فيه على الدوام، إنه لا يستمدّ حضورَه وفاعليته وتأثيره إلا بالعبادة. في لقاءِ الله تُبهِجُ الأرواحَ المتعبَةَ السكينةُ، والقلوبَ المضطربةَ الطمأنينةُ، “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ”.
العبادةُ مكونٌ أساسي في ماهية كلِّ دين، حيثما كان الدينُ كانت العبادةُ والطقسُ، لأن الدينَ يعبّر عن الحاجة للصلة بموجود لا متناهٍ في وجوده وقدرته وعلمه وكلِّ شيء. العبادةُ هي التعبيرُ الحي عن هذه الصلة. الصلةُ الوجودية مالم تظل متدفقةً دائمةَ الفيض، فإنها تتبدّد وتتلاشى، ومالم تظل مضيئةً باستمرار، فإنها لو انطفأت تصاب روحُ الإنسان بالوهن والعجز، ومالم تظل منهمرة، فإنها لن تبلغ غايتها فتروي الظمأ الوجودي.
العبادةُ الحقيقية تُثري رؤيةَ الدينِ للعالَم، ففي الإسلام تُثري الصلاةُ الصادقة رؤيةَ المسلم للعالَم، وتُلهمها بمعناها الروحي والأخلاقي، وتجعل من هذا المعنى أفقًا تتشكّل في ضوئه حياةُ الإنسان الخاصة وعلاقاتُه الاجتماعية المتنوعة. وحسب تعبير علي عزت بيغوفيتش: “ليست الصلاةُ مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالَم، إنما هي أيضًا انعكاسٌ للطريقة التي يريد الإسلامُ بها تنظيمَ هذا العالَم”.
الإيمانُ كائنٌ حيّ يقظٌ فوّار، وهو أمرٌ وجودي، لا يتحقّق ويزدهر من دون روافد يستقي منها وجودَه، وتتجدّد بها حياتُه. إنه جذوةٌ مشتعلة، وهذه الجذوةُ بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئاً فشيئاً حتى تنطفئ. مالم تتكرّر الطقوسُ والصلاةُ في سياق تقليدٍ عباديٍّ مرسومٍ، يذبل الإيمانُ ويذوي حتى يصير حطاماً. الإيمانُ بمثابة حديقة الأزهار، مالم نواظب على سقيها تذبل وتموت وتندثر. الصلاةُ والطقوسُ كأنها ينابيعُ مياه عذبة صافية تسقي حديقةَ الإيمان، لولاها لاندثر وأصبح هشيماً تذروه الرياح.
اهتمَ كلُّ دين معروف اهتمامًا واضحًا بالعبادة، وحرصت كلُّ الأديان على رسم تفاصيلها بجلاء، وحذّرت مَنْ يتبع الدينَ من أدائها كيفما يشاء خارج رسمَها المحدّد، لأنه يهدرُ وظيفتَها ويمسخُ هويتَها. القولُ بأن لكلِّ شخص عبادته وصلاته الخاصة كلامٌ غريبٌ على منطق الأديان، وما ترمي إليه العبادةُ فيها، وأغربُ منه محاولات بعض الناس ترقيع والتقاط عناصر متضاربة من أديان مختلفة في عباداتها وطقوسها وشعائرها، وخلطها ببعضها ولصقها بصورة متناشزة مشوّهة، وممارستها بشكل يمحقُ الدينَ، وينتحلُ حالةً زائفة للإيمان.
إن تاريخ الأديان الطويل ينبؤنا بأن العبادات تشكِّل رافدًا يغذي الصلة الوجودية الحيّة بالوجود المطلق، الذي يتجلى في كلِّ دين على شاكلة شريعة أتباعه. وأن ما تتميز به العباداتُ يكمن في اشتراك ماهيتها وصورتها بين أتباع الدين الواحد. ولم يصادف أن نجد دينًا أتاح لمعتنقيه أن يختاروا عباداتهم خاج اطار شريعتهم، أو يلتقطون عناصرها من أديان متنوعة كيفما يشاؤون.
في ضوء هذا المفهوم للعبادة في الأديان، نجد الهندوسي يؤدي طقسَه وعبادتَه الخاصة في معبده، وفي المسيحية يؤدي المسيحي قدّاسَه في كنيسته، وفي الإسلام يؤدي المسلمُ صلاتَه في مسجده.كيفيةُ القداس الذي يؤديه المسيحي في الكنيسة، تختلفُ عن كيفيةِ طقس الهندوسي في معبده، وتختلفُ عن كيفيةِ صلاة المسلم في مسجده، وهكذا الحالُ في الأديان الأخرى.
لا ننكر التشابه في بعض عناصر العبادات والطقوس والشعائر في الأديان، الذي يعبر عن مشتركات الأديان والثقافات في المجتمعات المختلفة، إلا اننا لم نجد تطابقًا وتماثلًا كليًا بينها، لكلٍّ عبادة بصمتها الخاصة ولونها الذي يعكس صورةَ الديانة المشتقة منها. لكلِّ إنسان حياته الروحية، روحُ الإنسان تتغذّى من العبادات المشتركة في ديانته. صلاةُ الحلاج والبسطامي والنفري وابن عربي وجلال الدين الرومي ومحمد حسين الطباطبائي، وغيرهم من العرفاء، هي صلاةُ الإسلام ذاتها، غير أنهم تهذبوا وتسامت أروحهم بنور الله، وابتهجوا بمحبّته.
الحياةُ الروحية تتحقّق في سياق شريعة محدّدة، الحياةُ الروحية تتطلب أن تستقي على الدوام من العبادة الخاصة بهذه الشريعة، بوصفها من سنخها وترتسم فيها صورةُ الديانة، وينعكس فيها شيءٌ من عناصر البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان. فلو ركّبَ الإنسانُ على ديانته تقليدًا عباديًا مستعارًا من ديانة أخرى،كما لو أن مسلمًا كان يمارس تقليدًا طقوسيًا هندوسيًا أو العكس، سيفضي ذلك إلى التناشز بين طقس ترتسم فيه صورةُ ديانة غير ديانته، والحياة الروحية في أفق ديانته. لكلِّ ديانة طقسٌ خاص من جنسها، بمعنى أنه مشتقٌّ من طبيعة البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان، وكيفية رؤيتها للعالَم، وبصمة الحياة الروحية فيها.
الحياةُ الروحية للأديان في مختلف المجتمعات تُدلّل على ذلك، ففي المجتمعات الغربية التي يُمنَح الأشخاصُ فيها حريةً دينيةً واسعة، لا تسودها ظواهر، مثل: مسلم يصلي في معبد هندوسي، أو هندوسي يؤدي طقسَه في المسجد. وقلّما نعثر على أشخاص يتخبطون في تجريب الأديان وطقوسها، بغيةَ إرواء ظمئهم الأنطولوجي، وعادةً ما يعيش مثل هؤلاء ضياعًا وتمزقًا وقلقًا واضطرابًا، ذلك أنهم كشارب ماء البحر، كلّما شرب منه اشتدّ ظمؤه.
يُشاع أن العرفاء يبلغون مقامًا في سلوكهم الروحي يهجرون فيه العبادةَ، وهذا غير صحيح، لأن ذوي البصائر من العرفاء يشددون على أن: الشريعةَ توصل إلى الطريقة، إلا أن الشريعةَ لا تتعطّل عند بلوغ الطريقة، وأن الطريقةَ توصل إلى الحقيقة، إلا أن الشريعة لا تتعطّل عند بلوغ الحقيقة. لا طريقةَ بلا شريعة، لا حقيقةَ بلا طريقة. الشريعةُ غطاءُ الطريقة، الطريقةُ غطاءُ الحقيقة. هذا ما فسّروا فيه ما هو منسوب للنبي الكريم “ص”: “الشريعةُ أقوالي، والطريقةُ أفعالي، والحقيقةُ أحوالي”. “الشريعةُ أمرٌ بالتزام العبودية، والحقيقةُ مشاهدةُ الربوبية، وكلُّ شريعةٍ غيرُ مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكلُّ حقيقةٍ غيرُ مقيدةٍ بالشريعة فأمرها غير محصول. والشريعةُ جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقةُ إنباءٌ عن تصريف الحق. فالشريعةُ أن تعبده، والحقيقةُ أن تشهده. والشريعةُ قيام بما أمر، والحقيقةُ شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر”. حسب تفسير أبو القاسم القشيري. ويقول أحمد زروق: “الشريعةُ أن تعبده، والطريقةُ أن تقصده، والحقيقةُ أن تشهده. أو تقول: الشريعةُ لإصلاح الظواهر، والطريقةُ لإصلاح الضمائر، والحقيقةُ لإصلاح السرائر”.