تتصل فكرة الاصلاح السياسي في أية دولة – طامحة نحو المدنية – بركائز أساسية لا يمكن التغافل عنها وذلك كشرط أساسي لتحديث المنظومة السياسية والتحول نحو دولة القانون بكل تجلياتها الدستورية والأدبية، أولى تلك الركائز وأهمها تتعلق بالحاضنة الشعبية بوصف الشعب مصدر السلطات في الدستور الاردني.
علينا ان نتفق بأن مدى نجاح الاصلاح السياسي والاداري يعتمد على خصوبة الحاضنة الشعبية بشكل حيوي وتوقها نحو التغيير الايجابي والأفضل، حاضنة شعبية يمكن الاستثمار في ثقافتها المتأصلة للانتقال للديموقراطية الحقيقية وسيادة القانون، يلزم من باب أولى اخضاع تلك الحاضنة للتقييم والنقد كخطوة أولى في المكاشفة والتشخيص للوصول للعلاج والتعافي بعيداً عن المسكنات وعوامل الاصلاح التي أبدع في ترتيلها وزراء التنمية السياسية ولجان الاصلاح لدينا خوفاً من الاشتباك مع الرأي العام وكشف الحقيقة بلا شعبوية.
اليوم وبعد 100 عام على تشكيل الدولة الأردنية ما الذي تغير على ثقافة الحاضنة الشعبية لجعلها جديرة بالإصلاح والمطالبة فيه، اليوم المشهد مليء بالاشتباك وفقدان الثقة بين الرأي العام- بوصفه السواد العريض للحاضنة الشعبية- وبين الحكومات المتعاقبة رؤساء ووزراء من أبناء الشعب ايضاً!!، حكومات متعاقبة يتم تشكيلها جغرافياً استجابةً للضغط المناطقي مما لا يخفى على أي مشاهد للشأن المحلي، هناك دوماً حالة من ( الحرد والزعل ) تلازم محافظات بأكملها لا يدخل ابناءها في الفريق الحكومي، الذهنية الشعبية تعتبر المنصب الوزاري غنيمة وتشريف خارج حسابات التكليف الأمر الذي يفسر ظاهرة تلقي التهاني والتبريكات، ذات الأمر يفسر ميل كثير من الوزراء ورؤساء الحكومات لتركيز الاعمال والمشاريع في محافظاتهم على حساب باقي مناطق الوطن باعتبار ذلك استحقاقاً دستورياً وحقاً مكتسباً للمحافظة الأم.
المشهد الانتخابي هو الآخر يرتبط بمخرجات الحاضنة الشعبية( التي تطالب بالإصلاح)، السواد الأعظم ليس لديه القابلية في التخلي عن رواسب القبلية والمناطقية لاختيار نائب بحجم الوطن يتحلى بالقوة والأمانة والحضور النوعي داخل أروقة السلطة التشريعية، الهويات الفرعية تتعاظم على حساب الهوية الوطنية، نائب الحارة والمخيم يكسب الرهان على ثقافة الحاضنة الشعبية على مر الأعوام، الكنافة والمنسف ما زالت تصلح كبرنامج انتخابي والمال السياسي لم يصبح ظاهرة يتم الحديث عنها لولا وجود الجيوب المتعطشة له، وظيفة نائب الخدمات نسخت نائب الرقابة والتشريع، كل ما ذكرت مهم لكن الأهم يتمثل باعترافنا بحقيقة ان الفساد النيابي والحكومي نتاج فساد مجتمعي ايضاً.
على وقع احداث الربيع العربي المشؤوم تصدّرت شعارات الإصلاح ومكافحة الفساد كل المسيرات والاعتصامات المترامية الوجود، بدا ان اليافطات باتت نسخة مكررة شعارها مكافحة الفساد والضرب بيد من حديد على الفاسدين، الجميع ينتظر خبراً لا يبقي للفاسدين أثراً خاصةً في المحافظات الفقيرة وللغرابة فان الغالبية هناك ايضاً حشدوا الجموع لاستقبال أحد المتهمين على اهازيج ( يا… لينا وحقك علينا)، باقي ابناء المحافظة لم يمارسوا الاستنكار عالأقل وفضلوا السكوت.
المشهد الاردني مليء بالتناقض والتشفي وممارسة النميمة والردح السياسي، الغالبية تؤيد مكافحة الفساد خارج نطاق دفتر العائلة والهوية الفرعية، والمسؤول ( ابن الشعب) ينتظر دعماً سياسياً لكي يبدأ بواجبه الرقابي والوظيفي-المعين بموجبه اصلاً- وباقي المحتجين قاسمهم المشترك اردن خالي من التجاوزات في( كبسة زر)، الانتقال للمدينة الفاضلة في نظر غالبية الشعب يتطلب قراراً مفاجئاً من الملك والكل يجهل أدوات القرار ومراحله الدستورية وابجدياته القانونية، الجميع في الاردن يتحدثون عن الحالة المرضية التي يمر بها الوطن بانتظار العلاج المفاجيء والجميع ايضاً لا يملكون الشجاعة لاعطاء التشخيص الحقيقي للمرض وأسبابه قبل القفز لمرحلة العلاج، حتى رؤوس المعارضة في كافيهات اللويبدة-أبناء الحاضنة الشعبية- مثّلوا المحتجين ثم مثّلوا عليهم وخرجوا من بينهم ثم خرجوا عليهم ثم سكتوا بمناصب حين اتخذوا من المعارضة كمصدر دخل.
تناول الحاضنة الشعبية كأحدى المرتكزات الرئيسية لعملية الإصلاح من الضرورة بمكان لتشخيص أسباب التراجع في العملية الديموقراطية، فحتى يكون الشعب مصدراً للسلطات لا بد من فحص وتشخيص المصدر للتأكد من جاهزيته وسلامة بنيته الثقافية والسياسية للبناء عليه في اية عملية سياسية وتحول حقيقي نحو المدنية ودولة القانون ( العميقة) حيث أن ثقافة القانون المتجذرة هي التي تشكل الدعم النفسي الكافي نحو اتخاذ القرار الوظيفي على اختلاف درجاته بلا وجل وخوف من الضغوطات، وكمثال بسيط فان موظفي الدولة في المؤسسات الأوروبية مثلاً ليس لديهم القابلية لتجاوز القانون مقابل التعليمات فهم أبناء حاضنة شعبية ناضلت النفس والهوى والثقافة الهدامة لافراز رجال الدولة الحقيقيين ونواب الأحزاب، فالديمقراطية تصلح للشعوب الحية التي تُعلي الوطن ولا شيء سواه.
المقولة التي تتكرر بان الإصلاح يحتاج لارادة سياسية، تتعامى قصداً عن حقيقة ان الإصلاح أساساً وقبل كل شيء يحتاج لارادة تغيير صادقة من الحاضنة الشعبية أولاً قبل القاء اللوم على صاحب الارادة السياسية، والمشهد الاردني باختصار أن الأحزاب، مؤسسات المجتمع المدني، النواب، النقابات، الشعب، الرأي العام، الحكومات، الكل يطالب الكل بالإصلاح والشعب يطالب ابناء الشعب بالصلاح والمشكلة لا تزال ترواح مكانها في ذات الحاضنة الشعبية.
خلدون مدالله المجالي – كاتب اردني
Khldounalmajali123@gmail.com