“لا وجود لقضاء اليوم، أصبح تدخل السلطة التنفيذية مباشرا”. هكذا يردّد في تونس محامو المعارضين المعتقلين المتهمين بـ”الاعتداء على أمن الدولة”، وهي قضايا أصبحت تستهدف كل من يجرؤ على رفع صوت نقدي أو يفكر في بدائل للحكم في تونس. وما يحدُث اليوم داخل المؤسّسة القضائية له علاقة مباشرة بفقدان الضمانات القانونية التي كانت تحمي حقوق المواطن، فمنذ 25 يوليو/ تموز 2021 تمكّنت الدولة العميقة من تمرير، من دون عوائق، خطّتها الرامية إلى تجريف البنية الديمقراطية التي ولدت من رحم الثورة من خلال مهاجمة أحد ركائزها الأساسية، وهي استقلال القضاء.
حلّ رئيس الجمهورية، في 13 فبراير/ شباط 2022، المجلس الأعلى للقضاء، واستبدله بهيئة يعيّن أعضاءها، تنفيذا لرؤيته أن “القضاء وظيفة وليس سلطة”. وعقب هذا القرار في يونيو/ حزيران 2022 عزل 57 قاضياً من السلسلة الجنائية. قرار نقضته المحكمة الإدارية لفائدة 47 منهم ولكن من دون أثر بسبب رفض وزيرة العدل تنفيذ الأحكام. وبذلك أُعطي الضوء الأخضر للعقوبات والمضايقات التي يتعرّض لها اليوم كل قاضٍ متشبث باستقلالية قراره، وخصوصا منهم قادة جمعية القضاة التونسيين.
سيكون وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية في تونس البشير العكرمي في قلب هذه المعركة التي واجهت فيها السلطة القضائية السلطة التنفيذية. وسيكون هذا القاضي هدفاً لحملات النقابات المهنية ومن يسايرها من السياسيين، ووصم وتشهير منهم. وقد روّجت وسائل الإعلام هذه الحملات على نطاقٍ واسع من دون تثبت في الوقائع أو أخذ أي مسافة بتمكينه من حقّ الرد. كان للعكرمي فقط الحق في أن يُثلب، فتم فصله تعسفيًا من مهامه، ثم وضعه رهن الإقامة الجبرية قبل أي تتّبع قضائي ورفع الحصانة عنه، ثم زجّه في السجن ثم في مستشفى الأمراض العقلية. وبذلك، كان استبعاد وكيل جمهورية محكمة تونس (تعالج ما يقرب من 60% من القضايا المنشورة في كامل الجمهورية ولها اختصاص ترابي في قضايا الإرهاب) مدخلا لتركيع المؤسّسة القضائية التي كانت في طريق انعتاقها.
اتهامات وقضايا أصبحت تستهدف كل من يجرؤ على رفع صوت نقدي أو يفكر في بدائل للحكم في تونس
اعتقل العكرمي في أوائل فبراير/ شباط 2023 بتهم خطيرة، منها “التواطؤ مع الإرهابيين”. وعهدت النيابة العمومية التحقيقات إلى مسؤولين أمنيين سبق أن وجّهت لهم تهمة التزوير والتعذيب من وكيل الجمهورية نفسه. من هنا، انطلق مسلسل الانتقام، إذ تعرّض للإذلال وسوء المعاملة، بلغ حد إيوائه قسريا في مستشفى الأمراض العقلية في17 فبراير 2023. الصور التي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي له عند خروجه من المستشفى وحدها تلخّص مستوى التدنّي الذي وصلت إليه المؤسّسة القضائية ومستوى الانحطاط الذي بلغته أخلاقنا السياسية.
لمّا أفرج عنه الأطباء في 24 فبراير/ شباط اعتقلته من جديد قوّات الأمن التي حاصرت المستشفى لمنع عائلته من مرافقته إلى منزله، ثم جرى عرضه على قاضي التحقيق في قطب مكافحة الإرهاب الذي قرّر إبقاءه في حالة سراح. لكن بسبب عدم رضى الأمنيين على هذا القرار، سيوضع العكرمي رهن الاعتقال في إطار قضية جديدة أعاد نشرها أعضاء “حزب الوطنيين الديمقراطيين” بتهمة “التواطؤ مع إرهابيين” سبق أن نظرت فيها محكمة تونس التي قرّرت عدم سماع الدعوى في عام 2016، في انتهاكٍ صارخٍ لمبدأ اتصال القضاء.
صار الطريق هكذا معبدا لحرب ضد القضاة المستقلين من نقابات الأمن. ستتكرّر المشاهد التي تعرقل فيها نقابات الأمن سير مرفق العدالة في محاكم عديدة في إفلات تام من العقاب. وقد انطلقت الحملات على القاضي في بداية عام 2015، غداة الهجمات الإرهابية على متحف باردو ونزل الإمبريال في سوسة. كان العكرمي متعهدا بهذين الملفين، وأسند الأبحاث إلى فريق أمن القرجاني (في العاصمة)، إلا أنه تبيّن أن بعض الاختبارات الفنية كانت مزوّرة والاعترافات تحت التعذيب، فقرّر العكرمي سحب الملف منهم، وإحالته إلى فرقة أخرى لمكافحة الإرهاب في الحرس الوطني. ستؤدّي التحقيقات الجديدة إلى تورّط المجرمين الحقيقيين الذين أتيح لهم المجال بذلك لارتكاب هجوم ثان في فندق إمبريال في سوسة بعد ثلاثة أشهر. أما ضباط القرجاني فقد قرّر تتبعهم بتهمة التعذيب والتدليس.
في هذا السياق، سيفرض الجلّادون على رأي عام مصدوم وبحسّ نقديٍّ ضعيف رواية “الشرطة التي تعتقل [الإرهابيين] والعدالة التي تفرج عنهم”. والغريب أنه في حين كانت “سكوتلاند يارد” (شرطة لندن) تثني على حسن سير التحقيقات، توجّه وفد من البرلمانيين التونسيين، من بينهم عضوة في حركة النهضة، إلى القرجاني مع باقات من الورد لهؤلاء الجلادين، في الوقت الذي كان البشير العكرمي يتعرّض فيه للاعتداءات على حياته الخاصة والتشهير.
وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية في تونس، البشير العكرمي، في قلب المعركة التي واجهت فيها السلطة القضائية السلطة التنفيذية
صار الطريق هكذا في تونس معبّدا لحربٍ ضد القضاة. تحت غطاء المطالبة بالحقيقة في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، انخرط أعضاء من حزب الوطنيين الديمقراطيين الذين ينشطون في إطار “لجنة الدفاع عن الشهيدين” من دون أي تحفظ في هذه الاعتداءات على العكرمي، المكلّف بالتحقيق في قضية بلعيد. وذلك من خلال توظيف التعاطف الهائل الذي أثارته هذه الجرائم البشعة. وقد ضاعف مهاجموه ضراوتهم، ونسبوا له أبشع الاتهامات: “إخفاء عناصر الملف لحماية أنصاره داخل حزب النهضة”. وفي هذا المناخ المتوتّر، سيكمل القاضي تحقيقه في الملفّ، وستؤيد الدرجات القضائية الأخرى نتائجه. كما نظرت محكمة التعقيب في طعون القائمين بالحقّ الشخصي على قراراته من دون ظهور أي عنصر يُبطل الاستنتاجات التي توصل إليها في ما يتعلق بمنفّذي العملية، إلا أن سرّ من أمر بالاغتيال لا يزال قائما.
وفي 9 فبراير/ شباط 2022، في مؤتمر صحافي استمر ساعتين، بثته بالكامل على الهواء وسائل الإعلام العمومية، هاجمت “لجنة الدفاع عن الشهيدين” المجلس الأعلى للقضاء مطالبة بحلّه، وأعلنت عن تنظيم وقفة احتجاجية أمام مقرّه، ثم نزل رئيس الحمهورية عند رغباتهم بعد أيام قليلة وحلّ المجلس.
لم يتردّد العكرمي في مقاضاة أمنيين عديدين (اغتيالات، تعذيب، فساد)، وخصوصا في قضية المنيهلة في مايو/ أيار 2016، حيث شهدت تصفية مواطنين تونسيين خارج إطار القانون وتدبير مروّع لهجوم وهمي من الأمن، فأذن بفتح أبحاث شملت 25 مسؤولا أمنيا، منهم مَن تقلد منصب وزير الداخلية. كما قرّر إثر عمليات تنصّت خارج نطاق القانون توجيه الاتهام إلى مدير المصالح الفنية.
قضية العكرمي مؤشّر إلى القوة الهائلة في تونس لآلة التضليل التي نجحت في تسميم بعض النخب السياسية والجمعياتية التي فقدت قدرتها على تمييز القضايا الحقيقية لرهانات سيادة القانون.
سهام بن سدرين – ناشطة خقوقية تونسية، رئيسة هيثة الحقيقة والكرامة