تراجعات مجانية حرفت القضية الفلسطينية عن جوهرها
شبه الكاتب والباحث الفلسطيني ، الدكتور رمزي بارود، الذي يعيش في الغرب ويكتب وينشر بالإنجليزية، التعامل مع القضية الفلسطينية من قبل بعض الأنصار وحتى من قبل فلسطينيين بمحلول يتفه إذ يسكب عليه المزيد من الماء. يستعمل الباحث العبارة الإنجليزية Watered -down
وجدت المفردة “ابتذال” الأفضل للتعبير عما قصده الباحث من المبالغة في تبسيط القضية لدرجة التفاهة . عملية الابتذال تقلب الحقيقة وتناقض الموضوعية لدى طرح الموضوع الفلسطيني؛ بينما إسرائيل، وهي تحرص على تكييف رسالتها كي تكون مقبولة لدى أوسع طيف ممكن، لا تحيد عن العنف والعنصرية بهدف محو شعب فلسطين من الوجود. كذلك الأمر حيال أكرانيا؛ فالدعاية المتواصلة أربعا وعشرين ساعة في الغرب لا تنحرف انملة عن تحديد الضحية والجاني. يخلص الكاتب الى ضرورة التزام الحقيقة بدل الابتذال، لتقديم الموضوع الفلسطيني مكتملا ثقافيا على حقيقته من اجل تشكيل جبهة ثقافية مهيمنة داعمة للقضية الفلسطينية، تكون الشرط الضروري لإحداث التغيير المطلوب. ورد في المقالة:
في العشرين من شباط وافق مجلس الأمن على بيان وصفته الميديا بانه “صب الماء ” على صيغة طرحت سابقا لمشروع قرار يطالب اسرائيل أن ” تكف في الحال عن جميع الأنشطة الاستيطانية بالضفة الغربية”. إن علاقة ما يسمى المجتمع الدول بنضال الشعب الفلسطيني اتسمت دوما بمحاولات ’ تخفيف‘ واقع رهيب.
ونحن نصغي لبيانات يصدرها سياسيون اميركيون ، امثال مايك بومبيو وزير الخارجية ، ترفض حتى الاعتراف بأن إسرائيل تحتل فلسطين في المقام الأول يحدونا الميل لنسيان ان العديدين من بيننا ، الى حد ما يضعفون القضية الفلسطينية كذلك.
بينما تصدر تقارير عن بيتسيلم ، وهيومان رايتس ووتش وأمنيستي إنترناشيونال تصف إسرائيل بانها ” دولة أبارتهايد ، تضاف الى حوارات سياسية تنحو نفس المنحى ، يتساءل المرء : لماذا مضت عقود حتى تم التوصل لهذه الاستنتاجات ؟ وما هو التبرير الحقوقي والأخلاقي ل” ابتذال” القضية طوال هذه السنين، واسرائيل هي كيان أبارتهايد من لحظة قيامها ، وحتى قبل قيامها ؟
“ابتذال القضية” مضى اعمق من هذا ، كما لو ان مؤامرة تنفذ كي لا نصف الحقيقة حول ما يحد ث لفلسطين وشعب فلسطين بأسمائها الحقة: جرائم حرب ، جرائم ضد الإنسانية ، إبادة جنس ، أبارتهايد وما الى ذلك . فقد عشت نصف عمري أنشط في مجتمعات الغرب وأتصل بها مروجا للتضامن مع شعب فلسطين وتحميل إسرائيل مسئولية الجرائم التي تقترفها ضد شعب فلسطين. وعند كل خطوة بالدرب ـ وفي كل مجتمع او فوق منبراجد من يصدني ، حتى من قبل أنصار لفلسطين.
سواء كانوا مدفوعين ب” حب” أعمى لإسرائيل أو بشعور بالذنب للجرائم التاريخية ضد الشعب اليهودي، او خشيةً من ’الإزعاج‘، الإساءة الى مشاعر مجتمعات الغرب، أو استجابة مباشرة لأنصار إسرائيل ، فإن الحصيلة تميل لأن تكون نفسها: إن لم يكن تأييدا غير مشروط لإسرائيل فبالتأكيد ، من ثم ، “ابتذال” الواقع التراجيدي للشعب الفلسطيني.
إن ابتذال صيغة الحقيقة ، من الطبيعي ان لا تكون الحقيقة قطعا. من غير المحتمل ان تفضي الى مواقف أخلاقية حازمة أو الى أفعال سياسية ذات معنى. حقا إ لو كان ثمة قيمة لابتذال الحقيقة، لتحررت فلسطين منذ زمن؛ لا تقف الأمور عند هذا التشويه ، إنما يبقى نقص حقيقي للمعلومات المتعلقة بجذر الجرائم الإسرائيلية اليومية في فلسطين، واسبابها وطبيعتها وعواقبها.
السلطة الفلسطينية تلعب دورا هاما في ابتذال فهمنا لجرائم إسرائيل المتواصلة ؛ في الحقيقة البيان الهزيل الصادر عن الأمم المتحدة ليس من شانه أن يحل محل القرار الملزم لولم توافق عليه السلطة. ومهما يكن ففي الأماكن الفلسطينية التي لا تملك السلطة فيها نفوذا سياسيا نواصل البحث عن فهم مبتذل لقضية فلسطين. وفي كل يوم تقريبا، يطرد من مؤتمر، لقاء، ورشة او نشاط أكاديمي فلسطيني او نصير للفلسطينيين ، متحدث او كاتب او فنان او ناشط، يرفض تبسيط موضوعته/ ها عن فلسطين.
غالبا ما تتشكل مخاوف – رفض التمويل، حملات تشويه ، أو فقدان مكانة رفيعة – تكون المنطق خلف التورط الدائم في مصيدة ابتذال القضية الفلسطينية؛ احيانا يتورط جماعات فلسطينية ومنظمات الميديا من تلقاء انفسهم. وهناك منظمات مؤيدة للفلسطينيين ، طلبا للحماية من حملات التشويه ، او من التدخل الحكومي ، أو حتى من إجراءات قضائية ، تسعي في الغالب للالتحاق بأشخاص ” ذوي سمعة طيبة” من التيار الرئيس، سياسيين او سياسيين سابقين، شخصيات مشهورة، لكي يظهروا صورة اعتدال. ومع هذا ، بمعرفة أو بدون دراية ، مع الزمن يشرعون تعديل رسالتهم كي لا يفقدوا الدعم الذي كسبوه بصعوبة من قبل مجتمع التيار الرئيس. هذه الجماعات، بذلك ، بدلا من قول الحقيقة للسلطة تشرع في توجيه خطاب سياسي لا يضمن سوى بقائهم ، وليس أكثر.
في “دفاتر السجن” حث أنطونيو غرامشي ، المثقف الإيطالي المعادي للفاشية على تشكيل ” جبهة ثقافية ” عريضة من أجل إقامة صيغتنا للهيمنة الثقافية. على كل حال ، لم يدع غرامشي الى ابتذال الخطاب الراديكالي بالمقام الأول. فقط أراد توسيع سلطة الخطاب الراديكالي كي يصل الى ما هو أوسع من إطار المتلقين، وذلك كنقطة بداية لإحداث تحول جذري بالمجتمع. وفي الحالة الفلسطينية ، على كل حال ، لدينا ميل لعمل العكس: بدلا من الاحتفاظ بالحقيقة متماسكة ننحو باتجاه جعلها أقل صدقا وذلك كي تبدو مستساغة أفضل.
الصهاينة، بينما هم مبدعون في تكييف رسالتهم بحيث يتقبلها جمهور اوسع ، نادرا ما عمد الصهاينة تبسيط لغتهم الفعلية؛ على العكس من ذلك ،الخطاب الصهيوني لا يساوم في طبيعته العنصرية العنيفة ، التي تتواصل لتصل في النهاية محو الشعب الفلسطينيين من التاريخ ومن الثقافة ومن التعاطف وكذلك من ميدان الحقوق.
نفس الأمر ينطبق على الدعاية الموالية لأكرانيا والمناهضة للروس، المنطلقة من ميديا الغرب على مدار الساعة. في هذه الحالة يندر الانحراف عن الرسالة ، فيما يتعلق في من هو الضحية ومن هو المعتدي.
تاريخيا، كان من الصعب على حركات التحرر المناهضة للكولنيالية في إفريقيا وغيرها أن تبسط مقاربتها للكولنيالية،لا من حيث اللغة ولا أشكال النضال. أما الفلسطينيون، من جهة اخرى ، فيبقون على حافة هذا الواقع المراوغ بتبذلاته ؛ ببساطة لأن ولاء الغرب لإسرائيل يجعل من التوصيف الحقيقي للنضال الفلسطيني أكثر “راديكالية” من أن يحتمل. هذه المقاربة ليست إشكالية أخلاقيا وحسب، بل هي غير تاريخية وغير عملية.
ليست تاريخية وليست عملية لأن أنصاف الحقائق ، او الحقائق المبتذلة يستحيل ان تفضي الى العدالة او ان تحدث تغييرا مستداما. ربما كنقطة بداية لتجاوز المصيدة التي وجدنا انفسنا في”ابتذالها ” ان نتامل هذه الكلمات قالها احد أعظم الشخصيات المثقفة في التاريخ الحديث ، مالكولم إكس:
” أقف مع الحقيقة، أيا كان قائلها؛ أقف مع العدالة ، مع أي أو ضد أي كانت؛ انا إنسان ، اولا وقبل كل شيئ ، وبذلك فأنا مع كل شخص او كل شيء يفيد الإنسانية جمعاء.”
الحقيقة بأبسط أشكالها وأشدها التصاقا بالحياة،هي الموضوع الوحيد الذي يجب مواصلته بلا كلل الى ان تتحرر فلسطين وشعبها.