قرار الحكومة بتعديل سعر صرف الدولار سيزيد من أعباء اللبنانيين وقلقهم ويلتهم مدخراتهم في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية. كما ستكون للقرار عواقب وخيمة على الحياة اليومية للمواطنين. لكن لماذا اتخذت الحكومة هذا القرار الآن؟
لم تغب اللبنانية لينا بوبس (62 عاما) عن أي مظاهرة ضد الأوضاع الاقتصادية والمالية المتردية في لبنان منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 ما منحها لقب “أم الثورة”.
وفي مقابلة مع DW، قالت إن حياتها قد تغيرت بشكل كبير خلال السنوات الثلاث الماضية، وأصبحت ناشطة متفرغة لدعم الشباب في لبنان، مضيفة “قبل الأزمة الاقتصادية، كنت أعيش حياة مرفهة، وكان بإمكاني السفر إلى الخارج ربما كل شهر. لكن الآن بالكاد أستطيع تأمين معيشتي. ليس لدي بطاقة ائتمان، لقد سرقت المصارف أموالنا.”
وبنبرة يعتصرها الأسى، قالت بوبس إنها لا تعلم ماذا يخفي لها المستقبل في ظل استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في بلاد الأرز، “لقد تغير حياتي تماما، ولهذا أنا هنا في الشارع” للاحتجاج.
بيد أن بوبس يساورها المزيد من القلق عقب إعلان الحكومة عن خفض سعر الصرف الرسمي للدولار مقابل الليرة اللبنانيةمن 1507,5 ليرة لبنانية لكل دولار إلى 15 ألف ليرة لبنانية بما يعادل عشرة أضعاف سعر الصرف الرسمي الحالي.
وعلقت بأن تأثير ذلك “سيكون فظيعا على الناس حيث سيرتفع سعر كل شيء وسيكون ذلك صعبا علي أنا شخصيا وعلى الجميع”.
ما سبب تعديل سعر الصرف الآن؟
يشار إلى أن وزير المالية اللبناني، يوسف خليل قد أعلن أواخر سبتمبر/ أيلول الفائت أن البنك المركزي سيستخدم سعر صرف قدره 15 ألف ليرة مقابل الدولار بدلا من 1507 بداية من الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني.
ويعود سبب هذا التعديل لسعر الصرف إلى عدة عوامل أبرزها أنه منذ تفجر الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، عمدت السلطات إلى تخفيض سعر قيمة الليرة رسميا لأول مرة، فيما يتمثل السبب الثاني في أن هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام توحيد أسعار الصرف المتعددة.
وتعد مسألة توحيد أسعار الصرف أحد الشروط المسبقة لحصول لبنان على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار (3.09 مليار يورو) بموجب الاتفاق المبرم مع الصندوق في أبريل/ نيسان الماضي.
الجدير بالذكر أن الليرة اللبنانية فقدت على مدى السنوات الثلاث الماضية أكثر من 95 بالمائة من قيمتها، فيما تجاوز معدل التضخم 200 بالمائة وسط تقديرات من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) بارتفاع معدل الفقر من 42 بالمائة عام 2019 إلى 82 بالمائة في عام 2021.
وعلى وقع ذلك، وجد اللبنانيون أنفسهم في ورطة التعامل مع أسعار صرف متعددة، بغض النظر عن سعر الصرف الرسمي المحدد عند 1507,5 ليرة إذ يوجد في البلاد ما يُعرف بـاسم “لولار ” المستخدم لسحب الودائع من البنوك والمحددة حاليا بـ 8 ألاف ليرة لبنانية.
وتضم القائمة أيضا سعر الصرف الخاص بالبنك المركزي الذي تستخدمه البنوك التجارية وتجار الصرف الأجنبي المحدد بـ 29800 ليرة لبنانية كما يوجد سعر الصرف الخاص بالسوق الموازي المحدد حاليا عند 39800 ليرة لبنانية وهو السعر الذي يعكس القيمة الفعلية لليرة مقابل الدولار.
وفي ذلك، يقول وسيم مكتبي، الخبير الاقتصادي والباحث في مركز “مبادرة سياسات الغد”، إن قرار وزير المالية اللبناني ليس ملزما فيما لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على بدء تنفيذه. ويضيف في مقابلة مع DW أن الإعلان يعد بمثابة “خطوة في الاتجاه الصحيح للوفاء بالمتطلبات. ورغم ذلك، فإنه لا يتوافق مع شروط صندوق النقد الدولي، لأن الوزارة تضع سعر صرف آخر فقط ولا تعمل على توحيد أسعار الصفر الأخرى”.
ورغم أن وزارة المالية لم تحدد بعد كيفية تطبيق قرارها الأخير أو تضع إطارا زمنيا لتنفيذه، إلا أن خبراء يؤكدون أن سعر الصرف الرسمي الجديد سيلقي بظلاله على حياة اللبنانيين اليومية.
شهدت العديد من المصارف اللبنانية عمليات اقتحام من المودعين لاسترداد مدخراتهم
وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي اللبناني فرحات فرحات، الذي شارك عام 2019 في تأسيس “رابطة المودعين في لبنان”، إن الخطوة تهدف إلى زيادة إيرادات الدولة. ويضيف في مقابلة مع DW”أعتقد أنه سيكون ثمة انخفاض في قيمة الليرة لأن الموظفين سيضطرون للجوء إلى مدخراتهم لشراء المزيد من السلع المستوردة؛ وبالتالي سيزداد عجز البنوك التجارية”.
وفي ضوء أن لبنان يعد دولة مستوردة، فإن أي زيادة في معدل الضرائب الجمركية وضريبة القيمة المضافة من شأنها أن تؤدي إلى زيادة أسعار السلع وبالتالي ارتفاع التضخم.
ما مصير ودائع المدخرين؟
وبعيدا عن توقعات الخبراء، فإن حديث اللبنانيين العاديين يعطي صورة قاتمة عن تداعيات القرار الجديد. فرغم انتقاله إلى دبي منذ عام 2010، إلا أن اللبناني ريتشارد نحاس قال إنه يشعر بالقلق، إذ أن الآثار الناجمة على سعر الصرف الجديد ستكون “مأساوية” نظرا لأن نصف مدخراته بالليرة اللبنانية، لذا سوف تنخفض قيمتها.
وأضاف في مقابلة مع DW “أنا في وضع سيء لأن مدخراتي كانت تحميني في حالة الضرورة. لكن الآن، لا يمكنني الحصول على أموالي من البنك، لذا ليس أمامي أي حل إذا واجهت مشاكل هنا”.
وأكد نحاس، وهو مهندس في عامه الرابع والأربعين، أن والده الذي مازال مقيما في لبنان يعاني من اكتئاب جراء الوضع الاقتصادي الصعب، مضيفا “كان يُتظر إلينا قبل الأزمة الاقتصادية بأننا أبناء الطبقة الوسطى ممن يستطيعون العيش بمدخراتهم. لكن الآن، مع ارتفاع التضخم ومع تحديد سعر جديد للصرف، سيكون من الصعب العيش بمدخراتنا؛ فلا يمكن زيارة الطبيب أو حتى شراء احتياجاتنا”. وقال “في ظل هذا الوضع، يجب أن أساعد أسرتي في لبنان، لكني لست في وضع جيد “.
تطمينات حكومية!
من جانبه، سعى رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى طمأنة اللبنانيين بأن تطبيق سعر الصرف الجديد سيكون على نحو تدريجي مع استثناء في البداية الميزانيات العمومية للبنوك وعمليات تسديد قروض الإسكان، مشددا على أن إعفاء المصارف كان سببه تجنب تحملها المزيد من الخسائر وتخفيف أعباء ارتفاع التكاليف منذ عام 2019.
ورغم ذلك، فإن تحديد سعر صرف جديد سوف يؤدي على الفور إلى ارتفاع الضرائب الجمركية، ما سيؤثر سلبا على الأسعار خاصة السلع المستوردة.
وفي ضوء ذلك يدعو الخبير الاقتصادي فرحات الحكومة إلى إيجاد “حل عادل” لأصحاب الودائع في المصارف: مثل إتاحة فرصة حصول المودعين الذين لديهم ودائع بأقل من 20 ألف دولار، على أموالهم لمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار.
والجدير بالذكر أن لبنان شهد مؤخرا تزايد عملياتاقتحام مصارف من قبل مودعين للحصول على أموالهم. وفي تعليقه على ذلك، قال نحاس “إنهم مضطرون إلى ذلك لأنهم في أمس الحاجة إلى أموال لشراء الطعام والذهاب إلى المستشفى. أنا أتفهم ذلك تماما”.
ميادين + DW عربية