الأزمة الليبية تحولت إلى عنوان صاخب للمتاجرة بالمرتزقة في حالتي الدخول والخروج.
من السهل توصيف الأزمة الليبية وتحديد أسبابها والأطراف المشاركة فيها والعوامل التي أفضت إلى استمرارها حتى الآن، لكن ليس من السهل تبني خطوات تنفيذية وعملية لعلاج أوجه الخلل لتستقيم التسوية السياسية، فالهوة شاسعة بين الوصف والتطبيق.
هذا ما حدث في مؤتمر برلين الثاني بشأن الأزمة الليبية الأربعاء، حيث استغرق المجتمعون من دول ومنظمات مختلفة في إظهار دعمهم لخروج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وبعضهم أسرف في المزايدة كنوع من إبراء الذمة أو الإيحاء بحسن النوايا، لأن هذه القضية كانت البند المهمّ على طاولة برلين، مع إجراء الانتخابات.
جرى تكرار عبارات حماسية على ألسنة البعض حول رفض الاستمرار والإدانة والتعجيل بإنهاء الظاهرة، وبدت التصريحات والخطابات واللقاءات الجانبية مغرقة في الحديث عن المرتزقة كأنهم وحدهم السبب في الأزمة، وتحاشى غالبية المسؤولين الإشارة بوضوح إلى الجهات التي تتدخل أمنيا بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي لا يزال بعضها لم يحدد موقفه النهائي مما يجري من ترتيبات سياسية وعسكرية.
اتخذت معالم اللوم لكل من تركيا وروسيا طابعا ضمنيا، والأدهى أن وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس أعرب عن أن الخروج سيتم تدريجيا، وكان متفهما لذلك، بما يعني أن هذا الملف يستغرق وقتا قد يتجاوز إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر المقبل، وعلى الجميع التسليم بوجود القوات الأجنبية، وبالتالي التأثير على مجرياتها ونتائجها.
لم ينخفض عدد المرتزقة منذ مؤتمر برلين الأول في يناير من العام الماضي، وزادت الأعداد بشكل كبير أمام أعين المجتمع الدولي، ورأى البعض تدفق المقاتلين الأجانب على ليبيا وصمتوا، وطرب آخرون لتسفيرهم، وفي الحالتين لم يدخل هؤلاء البلاد سرا أو هبطوا عليها من السماء، ولم يتم تطبيق قرارات مجلس الأمن عليهم.
قامت الأمم المتحدة بحصر أعداد المرتزقة في ليبيا، وهناك قوى كبرى لديها أرقام دقيقة حول أماكن تمركزهم والدور الذي يقومون به ولصالح من والتداعيات المختلفة على العملية السياسية برمتها، ومع ذلك تتم إعادة إنتاج الخطاب الرمادي الذي يحمل تأويلات متعددة، ما جعل ملف المرتزقة عصيا على الغلق حتى الآن، وتعلو وتنخفض المناقشات حوله وفقا لحسابات سياسية وأمنية ملتبسة أحيانا.
أفضى عدم الحسم والتردد في اتخاذ الإجراءات اللازمة قبيل مؤتمر برلين لأجل إنهاء وجود القوات الأجنبية إلى تجرؤ تركيا على اقتراح بند يستثني ما يسمّى بالقوة الصديقة من عملية الانسحاب، غير أنها أخفقت في تمرير المقترح ما دعاها إلى تسجيل تحفظها على البند الخامس في البيان الختامي للمؤتمر والخاص بالمرتزقة والمقاتلين الأجانب.
يكفي هذا التحفّظ ليكشر المجتمع الدولي عن أنيابه إزاء أنقرة، إذا كان عازما على تسوية الأزمة، فقد حاولت تركيا التنصل من رعايتها للمرتزقة في ليبيا ووضعتهم في خانة القوات الصديقة، مع قواتها العسكرية النظامية التي تقول إنها جاءت وفقا لتفاهمات مع حكومة الوفاق الوطني السابقة، وهو اعتراف خطير يساوي بين الضفتين ويسيء للجيش التركي ويدخله في زمرة واحدة مع المرتزقة.
تعرضت تركيا لضغوط من جهات إقليمية ودولية لحضها على إخراج قواتها من ليبيا، وناورت وساومت وراوغت، وتنصّلت من الالتزام بخطة محددة لغلق هذا الملف، حيث تدرك أهميته كورقة رئيسية تمكنها من تحقيق أهدافها الاقتصادية، وبالفعل ربطت حل مشكلة المرتزقة في محادثات أجرتها مع السلطة التنفيذية في طرابلس بالحصول على مكاسب نوعية تتواءم مع الدوافع التي أدت بها إلى دخولهم ليبيا.
مؤتمر برلين الثاني فوّت فرصة ثمينة لغلق الكثير من الملفات الجانبية جراء عدم قدرته على توفير الآلية اللازمة لتطبيق مخرجاته ويكاد يكون نسخة مكررة في هذه المسألة من المؤتمر الأول
استقبلت موسكو أيضا تلميحات وإشارات ونداءات خشنة وأخرى ليّنة، وجميعها ترفض وجود قوات فاغنر الروسية على الأراضي الليبية، لكنها لم تتعرض لممارسات جادة تجبرها على الرحيل، أو لا يملك أحد ذلك، وحتى أنقرة لا تزال الضغوط الواقعة عليها بعيدة عن المستوى الذي يدفعها نحو اتخاذ قرار حاسم بالخروج.
تكمن المعضلة في أن كل طرف في المجتمع الدولي يريد جرّ ليبيا إلى الطريق الذي يريده ويلبي تطلعاته، ولذلك كلما لاحت في الأفق فرصة للاقتراب من حل الأزمة ضاعت، أو يتم إدخالها في دروب ودهاليز تقلّل من فرص استثمارها، وتحولت الأزمة إلى عنوان صاخب للمتاجرة بالمرتزقة في حالتي الدخول والخروج.
فوّت مؤتمر برلين الثاني فرصة ثمينة لغلق الكثير من الملفات الجانبية جرّاء عدم قدرته على توفير الآلية اللازمة لتطبيق مخرجاته، ويكاد يكون نسخة مكرّرة في هذه المسألة من المؤتمر الأول، مع الفارق في المحتوى التفصيلي للبنود، والأجواء الراهنة التي بدت أكثر ميلا للهدوء في ليبيا، وارتفاع درجة التوافق على المستوى الدولي.
كانت عملية التوافق كفيلة بصدور وثيقة أشدّ صرامة وتنطوي على وسائل محددة لتنفيذها، ويشير عدم حدوث ذلك إلى أن نتائج المؤتمر سيتم التعامل معها على أنها إحدى حملات العلاقات العامة أو تحسين الصورة الذهنية، حيث أرادت بعض الدول غسل سمعتها الملوثة في ليبيا وتبييض وجهها سياسيا.
تؤكد حصيلة برلين أن المجتمع الدولي يصرّ على اختراع العجلة من جديد، فإذا كانت القوى التي تتحكم في مفاصل الأزمة حريصة على التسوية عليها أن تتجه مباشرة إلى الجهات التي تعرقل التسوية، وهي معروفة، وعليها أن تتعامل مع الأمور بواقعية كبيرة، فخروج القوات الأجنبية والمرتزقة وإجراء الانتخابات هما جزء من رزمة مشكلات أسهمت في تغذيتها الأجندات المتعارضة والأهداف المتصادمة.
أفضى التركيز على المرتزقة إلى التغطية على الدور الذي تلعبه بعض القوى المحلية الحريصة على رعاية الميليشيات والعصابات المسلحة وتوفير الملاذات الآمنة لها ووضع المطبّات لتعطيل عملية الانتخابات، أو إتمامها في أجواء حرب تمكن من التأثير على توجهات الناخبين والتلاعب بنتائجها، وهو ما يجب الانتباه إليه جيّدا.
يمثل رهن الأزمة بإرادة قوى خارجية فقط تقزيما للطيف الواسع من الليبيين، فلا أحد ينكر حجم الدور الخارجي منذ بداية الأزمة، غير أن حدود تأثيره تتوقف على حسم الصراع بين الجهات الداخلية ومدى اللحمة الوطنية والتفاهمات بين القوى المجتمعية.
إذا انتبهت السلطة التنفيذية الراهنة إلى هذه المعادلة واشتغلت عليها بجدية سوف تقلل من محتوى الروافد الخارجية، وتجبر القوى التي تتلاعب بورقة المرتزقة على الرضوخ لحل الأزمة، فلن تبقى قوات تابعة لتركيا وروسيا أو غيرهما من دون أن تجد البيئة المناسبة لها، وهو ما يستدعي استنفارا وطنيا حقيقيا طال انتظاره.