رغم أن لديه الكثير من الملفات حافظ الرئيس التونسي قيس سعيّد على شعرة معاوية مع الإسلاميين ولم يصبهم بسوء في أشخاص قادتهم ورموزهم، ولم يعلن موقفا أيديولوجيا أو سياسيا منهم.
تعددت القراءات حول الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو، بين من رأى فيها حركة لتصحيح المسار الثوري، واعتبرها محاولة لإنقاذ الدولة من الانهيار الكامل وتلافي حالة الانفلات الأمني والانقسام الاجتماعي بعد أن ضاق الخناق حول الشعب نتيجة السياسات الفاشلة واتساع ظاهرة الفساد والعبث بمقدرات البلاد، ومن وصفها بأنها انقلاب على الشرعية والمسار الديمقراطي، الهدف منها هو إقصاء الإسلام السياسي من الحكم، وقد حاول الإخوان الترويج لهذه النظرية من باب العمل على إدانة الرئيس واستجداء التعاطف، فيما حاول الطرف المقابل التأكيد من خلال ترويجها على أن هزيمة الإسلاميين في تونس تعتبر كحلقة جديدة ضمن مسلسل فشل مشروعهم وذهاب ريحهم في المنطقة.
لم يستطع الإخوان الإقناع بأن الرئيس سعيّد اتخذ التدابير والإجراءات الاستثنائية، فقط لإقصائهم من الحكم، أو ضرب الديمقراطية، بل اكتشفوا أنهم يواجهون عزلة حقيقية نتيجة أخطائهم المتتالية، وكان سعيّد قد وضع سجلّا لتدوين تلك الأخطاء ونجح في التنبيه إليها داخليا وخارجيا، وكان مستعدا للتدخل في الوقت المناسب لإعلان حركة إنقاذ تستهدف الحكومة والبرلمان، وتستبطن رغبة في تغيير النظام السياسي والدستور، ولكنها لا تستهدف حركة النهضة إلا كجزء من المشهد السياسي والحزبي الذي يعتبره سعيّد مسؤولا أول عن الأزمات المتفاقمة.
ويمكن في هذا الاتجاه إبراز جملة من المعطيات من بينها:
أولا: موقف سعيّد من الإخوان ليس موقفا أيديولوجيا، ولم يبدر عنه عندما كان متحررا من قيود التحفظ قبل انتخابه رئيسا للبلاد 2019 ما يشير إلى ذلك، حتى أن حركة النهضة ذاتها كانت من أبرز داعميه في الدور الثاني بعد هزيمة مرشحها عبدالفتاح مورو في الدور الأول، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حليفها ائتلاف الكرامة، كما كان ترحيب الإسلام السياسي بوصول أستاذ القانون الدستوري المحافظ إلى سدة الرئاسة كبيرا، وسعت مواقعه الإلكترونية إلى فبركة صفحات تحمل اسمه على مواقع التواصل الاجتماعي، لترويج مواقف نسبتها إليه وهو منها براء، وتحول سعيّد فجأة إلى زعيم إخواني وقائد إسلامي في نظر الإسلاميين، بل وإلى وافد جديد على المحور الإخواني التركي القطري.
ثانيا: يعتبر سعيّد نموذجا للسياسي المحافظ والملتزم بالإسلام الاجتماعي والثقافي في نسخته المحلية ولا يمكن المزايدة عليه في ذلك، لا يمكن وصفه بالليبرالي أو العلماني، يتبين ذلك من خلال مواقفه من جملة من القضايا، ففي 13 أغسطس 2020، وبمناسبة عيد المرأة، قال إن الصراع حول الإرث والميراث هو صراع خاطئ، وإن الأجدر هو تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وأضاف أن المساواة كما تمت بلورتها في الفكر الليبرالي مساواة شكلية لا تقوم على العدل بقدر ما تقوم على الإيهام به.
الرئيس وجد نفسه منذ وصوله إلى الحكم أمام كمّ رهيب من المعلومات الأمنية والاستخباراتية عن ممارسات الإخوان، وفوجئ بهم ينازعونه صلاحياته
وقبل ذلك، انتقد مشروع قانون المساواة في الميراث معتبرا أنه جاء بناء على طلب من الاتحاد الأوروبي، ولا ينم عن قراءة جيدة للدستور واصفا إياه بـ”الفتنة”. وأشار إلى رفض الرئيس السابق الحبيب بورقيبة للمساواة في الميراث عام 1981 على اعتبار أن النص القرآني واضح وصريح في هذه المسألة، وفق تقديره.
كما دافع عن تنفيذ عقوبة الإعدام خلال حملته الانتخابية في العام 2019، وفي 29 سبتمبر 2020 دعا إلى تطبيق عقوبة الإعدام إثر مقتل شابة خنقا من قبل شخص له سوابق في الإجرام. وقال “من قتل نفسا بغير حق جزاؤه الإعدام”، وأضاف “تُوَفَّر له (المتهم) كل ظروف الدفاع عن النفس، وإذا ثبت أنه ارتكب قتل نفس أو أكثر فلا أعتقد أن الحل هو كما يدعي البعض عدم تنفيذ عقوبة الإعدام”، وتابع “لكل مجتمع خياراته ولنا خياراتنا ومبادئنا والنص موجود”، في إشارة إلى الفصل السابع من المجلة الجزائية.
كما أكد رفضه للمثلية الجنسية، التي يطالب بها البعض، مؤكدا في الوقت نفسه أنه لن يتراجع “عن الحقوق والحريات، فكل المواطنين أحرار في فضائهم الخاص ولكنهم مطالبون بالالتزام بمجموعة من القيم في الفضاء العام”.
هذه المواقف إضافة إلى إصراره على التحدث بالعربية الفصحى، لاقت هوى لدى تيار الإسلام السياسي، ولكن بالأساس لدى التيار المحافظ الذي رأى في الرئيس تجسيدا فعليا للمصالحة مع الهوية وانسجاما مع خصوصيات الثقافة الوطنية وقطعا مع ما يتهم به النظام السابق من نزوع إلى التغريب.
ثالثا: للرئيس سعيّد قراءات للعلاقة بين الدين والدولة، وسبق له أن قال وهو رئيس للبلاد إن “النقاش سيبقى مفتوحا دائما، حول ما إذا كان الإسلام هو دين الدولة”. وحاضر وهو أستاذ للقانون الدستوري في 12 سبتمبر 2018 بمناسبة افتتاح الموسم الجامعي في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، قائلا “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل”.
الرئيس حال دون حصول تصادم الرئيس حال دون حصول تصادم
وهو الفصل الوحيد الذي تم الاحتفاظ به من دستور 1959.
وقد جاء في التقرير العام للدستور المؤرخ في 24 يناير 2013 في فقرة المبادئ العامة أنه “بتوافق وطني واضح وبمبادرة تاريخية، تم الاتفاق على الاحتفاظ بالفصل 1 من دستور 1959”.
وقال سعيّد “المجالس بالأمانات ولكن الله وحده يعلم الدور الذي قمت به من أجل الإقناع بضرورة الإبقاء على الفصل 1 من دستور 1959 في دستور 2014”.
رابعا: المرة الوحيدة التي تطرق فيها سعيّد إلى موضوع الإسلام السياسي باللفظ المباشر في أبريل 2021 عندما زار جامع الزيتونة بمناسبة حلول شهر رمضان، حيث أوضح في حديث مع شيوخ الجامع ومفتي الجمهورية، أن “الله توجه إلى المسلمين والمؤمنين وليس إلى الإسلاميين، والنبي إبراهيم كان مسلما ولم يكن إسلاميا.. نحن مسلمون والحمد لله على نعمة الإسلام ولسنا إسلاميين”، وتابع “هذا الفرق وهذه المناورة الكبرى التي يقصد منها تفريق المجتمع.. لم تكن القضية قضية إسلام وغير إسلام”. وقد اعتبر مناوئوه من الإسلاميين أن ذلك الموقف واحد من نتائج زيارته إلى مصر من 9 إلى 11 أبريل، وربطوه بحفاوة استقباله من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي وزيارته إلى ضريح الزعيم جمال عبدالناصر.
وحاول البعض ربط ذلك بسعي منه للانقلاب، فيما يمكن فهم ذلك الموقف في إطار الردّ على الحرب المعلنة ضد مؤسسة الرئاسة من قبل حركة النهضة وحليفها ائتلاف الكرامة وهما لا يخفيان ولا يتنكران لهويتهما العقائدية، إلا أن القيادات النهضوية كانت قد بدأت منذ سنوات في إنكار أن تكون امتدادا للإسلام السياسي واستبدلت المصطلح بالإسلام الديمقراطي على غرار الديمقراطية المسيحية في محاولة لاستعطاف المجتمعات الغربية.
خامسا: لا يمكن الحديث عن معاداة سعيّد للإسلام السياسي كشكل من أشكال المشاركة في الحكم، ولكن كممارسة لتيار يتجاوز حجمه الطبيعي ويعمل على التغلغل في مفاصل الدولة ولو بالاعتماد على الانتهازية والفساد والتحالف مع رموزه والتبعية للخارج وتحريض الأجنبي على أبناء الوطن، ويستغل الديمقراطية كأداة للوصول إلى السلطة قبل أن ينقلب عليها.
الرئيس سعيّد ليس ضد الإخوان كإخوان ولا ضد الإسلام السياسي كإسلام سياسي ولكنه ضد ممارسات فاشلة لحركة النهضة وأحزاب أخرى
منذ وصوله إلى الحكم وجد الرئيس نفسه أمام كمّ رهيب من المعلومات الأمنية والاستخباراتية عن تحركات وممارسات الإخوان، وفوجئ بهم ينازعونه صلاحياته عن طريق منصب زعيمهم راشد الغنوشي في رئاسة البرلمان، ولاسيما في ملف العلاقات الخارجية، كما اكتشف شبكة العلاقات التي يديرونها من وراء الستار، وقد أطلق في مناسبات عدة تحذيراته لحركة النهضة دون أن يسميها، ووجه رسائل مضمونة الوصول إلى الغنوشي دون الإشارة إليه بالاسم أو بالصفة من باب حفظ المقامات كما يقول.
ورغم أن لديه الكثير من الملفات، حافظ سعيّد على شعرة معاوية مع الإسلاميين، ولم يصبهم بسوء في أشخاص قادتهم ورموزهم، ولم يعلن موقفا أيديولوجيا أو سياسيا منهم، ولم يبدِ ما من شأنه أن يدل عن حلّ حركة النهضة أو ملاحقة زعمائها قضائيا، ولا عن فتح ملفات التنظيم السري والتسفير والأجهزة الموازية، وإنما جعل كل التدابير المتخذة من قبله في 25 يوليو ضمن إطار سياسي ذي صلة بالأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، وبوصول طبيعة النظام المعتمد وفق دستور 2014 إلى مداه من الفشل نتيجة تشتت السلطات بما بات يهدد بانهيار مؤسسات الدولة، وباتساع دائرة الفساد ونهب المال العام، ووصول البرلمان إلى مرحلة الانهيار الكامل بعد تحوله إلى ساحة للعنف الجسدي واللفظي، والتحصن من القضاء والتستر على الإرهاب والفساد والتصنت على الحياة الخاصة للأفراد والتغول على بقية مؤسسات السيادة وتمرير الاتفاقيات المشبوهة والتنمّر على مقام الدولة ورموزها ومنها مؤسسة الرئاسة، إضافة إلى المساس بمصالح تونس الخارجية.
سادسا: الرئيس سعيّد لم يربط موضوع “الخطر الداهم” المنصوص عليه في الفصل 80 من الدستور، بالإسلام السياسي، ولا بحركة النهضة، ولكن بالعمل على ضرورة “حفظ كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها وضمان السير العادي لدواليب الدولة” وذلك بعد تدهور العلاقات بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة والبرلمان، ودخول البلاد تحت غطاء الكارثة الصحية، وعجز السلطات الحكومية عن مواجهة ذلك.
وعندما خرج المحتجون إلى الشوارع في 25 يوليو، كان أول ما استهدفوه هو مقارّ حركة النهضة، وهو ما يشير إلى موقف شعبي من الحركة كان يمكن أن يتحول إلى مواجهة ميدانية مفتوحة بين الأغلبية الساحقة من التونسيين من جهة والإخوان من جهة ثانية، لكن الرئيس حال دون حصول التصادم، وأنقذ النهضة من غضب الشارع.
سابعا: لم يذكر سعيّد في يوم من الأيام مفردة “الإخوان” ولم يتعرض لحركة النهضة بالاسم والصفة، ولا لأحد من قادتها بالانتقاد المباشر، بل كان في مناسبات عدة قد استقبل عددا من قيادييها الحاليين (سمير ديلو وعلي العريض مثلا) ومن قادتها المستقيلين (لطفي زيتون) وفسح المجال في أكثر من مناسبة للقاء مع الغنوشي. ولم يعرف عنه أنه سعى لإحراج الحركة بفتح ملفات التهم الموجهة إليها، ولكن بالمقابل، له مواقف معلنة من الأحزاب ودورها، ومن البرلمان، ومن الدستور، ومن النظام السياسي، وجميعها تصب في خانة الصراع مع النهضة كحزب سياسي يسعى إلى فرض هيمنته على الدولة.
وعندما يتعلق الأمر بحزب آخر فإن لسعيّد الموقف ذاته، فهو اليوم يتخذ موقفا معاديا من حزب قلب تونس بسبب ما يشوبه من فساد، ومن الحزب الدستوري الحرّ بسبب موقفه من الثورة، ومن النهضة بسبب محاولة رئيسها منازعته سلطاته وكذلك كنتيجة لتحالفها مع الفساد ودفاعها عن الفاسدين.
الرئيس سعيّد ليس ضد الإخوان كإخوان ولا ضد الإسلام السياسي كإسلام سياسي ولكنه ضد ممارسات فاشلة لحركة النهضة وأحزاب أخرى.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي