اليوم هناك لحظة فارقة في تونس كشفت عن طبيعة الصراع القائم بين الوطنية وما فوقها وبين الانتماء للبلاد والانتماء للعقائد الوافدة والمشاريع العابرة للحدود وبين القادرين على التضحية في سبيل الوطن.
الاعتداء البدني واللفظي الذي تعرضت له رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر عبير موسي تحت قبة البرلمان التونسي، لم يكن الأول ولن يكون الأخير، وقد يتجدد في أي لحظة، وقد يتطور إلى ما هو أعنف وأشرس. فتونس اليوم في عين العاصفة، والصراع على أشده بين المشروع الوطني الحداثي وبين المشروع الإخواني الذي يبدو أنه مستعد لممارسة كل أشكال الإقصاء الممنهج بهدف إزاحة ما يعتبرها عقبات وعراقيل أمام خطته لبسط نفوذه على البلاد بمنطق الأقلية المهيمنة التي يمكن أن تستقطب من خارجها ذوي المصالح والأطماع الشخصية والفئوية والسياسية والاقتصادية والوظيفية، ومن اعتادوا على نزعة التبعية المرَضية للسلطة والأكل من كل الصحون، لمساعدتها على تنفيذ أجندتها، وهذا ما يتم فعلا اليوم.
لقد كان الاعتداء الهمجي المباشر على موسي في قاعة الجلسات، انعكاسا للوضع المتردي الذي بلغه لا العمل البرلماني فقط، وإنما المشهد السياسي عموما في ظل إحكام الإخوان قبضتهم على مراكز النفوذ والقرار، وتأكيدا على طبيعة المخططات الموضوعة من قبل تيار الإسلام السياسي وتابعيه لإقصاء منافسيهم، ومن قد يحول دون استمرارهم في نهش فريسة الدولة المستباحة والوطن – الغنيمة، ولو عبر صندوق الاقتراع. بل إنه حتى المعارضة الحقيقية تزعجهم، وتمثل بالنسبة إليهم عقبة كأداء لا بد من إزالتها بكل الأساليب الممكنة كما حدث في العام 2013 عندما تعرض الزعيمان اليساريان المعارضان شكري بلعيد ومحمد البراهمي للاغتيال برصاص من قيل إنهم إرهابيون سعت حركة النهضة لاستعمال جميع أدواتها لضمان عدم الوصول إليهم، وفق ما بيّنته هيئة الدفاع عن الشهيدين.
كان بورقيبة يطلق على بلاده صفة الأمّة التونسية في محاولة لقطع الطريق أمام الأفكار الوافدة باسم الأمميات المختلفة، فتح عينيه باكرا على المشاريع الشيوعية والإسلامية والقومية، وعمل على ترسيخ مبدأ الوطنية التونسية
منذ عشر سنوات وتونس تواجه مصيرا قاتما، اجتمع فيه الفقر والعجز والمرض والفوضى والفساد والإرهاب الذي بدأ في الشوارع وتغلغل في الجبال وانتهى في صورته السياسية إلى البرلمان، ولا تزال له عيون في كل مكان تترصّد لحظة الإذن بالتحرك، وما تهديد الإخوان في كل مناسبة بأن استبعادهم عن الحكم يعني الدخول بالبلاد في حرب أهلية، سوى مؤشر على أنهم غير مستعدين للفشل أو للاعتراف به، هم فقط يرون أن قدرهم الحكم الذي لا رجوع عنه، وكل من ينازعهم هذا القدر معرض للإقصاء العنيف وربما الدموي، وهو ما جعل زعيمة الحزب الدستوري الحر ترتدي بدلة واقية من الرصاص وتعتمر خوذة خشية التعرض إلى رصاصات طائشة قد تنسب إلى مجهول أو مجنون أو مندفع خارج عن إرادة التنظيم.
منذ أكثر من عام والحزب الدستوري الحر يتصدر نوايا التصويت بفارق كبير عن حركة النهضة، وهذا ما أثبتته استطلاعات الرأي الدورية الداخلية المعلنة والخارجية والسرية التي ينظمها الإخوان وغيرها. وهو أمر طبيعي يعكس ميل جانب كبير من التونسيين إلى استعادة دولتهم الوطنية التي تتجه إلى الانهيار نتيجة المشاريع العقائدية الوافدة، وممارسة الحكم بمنطق غنائمي لا علاقة له بالتجربة والكفاءة. كما أنه يمثل دعما شعبيا متزايدا لمواقف الحزب الراديكالية من الإسلام السياسي ومخرجات الربيع العربي ومنها التبعية المفضوحة لبعض القوى الإقليمية والدولية، والتي تجسّدت خلال الأيام الماضية في محاولة استغلال الوضع الصحي الكارثي في البلاد لتمرير اتفاقية مع صندوق قطر للتنمية من قبل الائتلاف البرلماني بقيادة النهضة، رغم ما يشوب تلك الاتفاقية من شبهات خرق للقوانين المحلية وانتهاك لسيادة الدولة ومن سعي لاستعمالها في مسارات المغالبة التي يمارسها الإخوان اعتمادا على المال القطري بأوجهه الاستثمارية و”الخيرية”.
كان أعلى الأصوات رفضا لتلك الاتفاقية من داخل البرلمان هو صوت كتلة الحزب الدستوري الحر ورئيستها عبير موسي، وهو ما جعل الحزام التكفيري للإخوان يفقد أعصابه، ويتجه لتعنيفها بالضرب في مناسبتين خلال يوم واحد، إلى جانب التعنيف اللفظي والحرب الإلكترونية والمحاصرة الإعلامية. وهو ما مثل سابقة اضطرت أغلب القوى إلى استهجانها والتنديد بها، غير أنه لا أحد يحاول أن يواجه الحقيقة في عمقها، وهو أن البلاد تواجه خطر الانقلاب على هويتها الوطنية ونموذجها المجتمعي وخصوصياتها الثقافية والحضارية بالدفع بها نحو الأخونة المعلنة وفق أجندات تغلغل تام يؤدي فيها أصحاب المصالح والأطماع والإرهابيون الافتراضيون والباحثون عن فتات التمويلات القطرية والحالمون بالترقيات الوظيفية والراغبون في استمرار ظاهرة الفساد والمستظلون بغطاء العجز الحكومي ومن قلبوا ظهر المجن للنظام السابق بعد أن كانوا يطعمون من قصعته، أدوارا أكثر من أدوار حركة النهضة ذاتها.
منذ عشر سنوات وتونس تواجه مصيرا قاتما، اجتمع فيه الفقر والعجز والمرض والفوضى والفساد والإرهاب الذي بدأ في الشوارع وتغلغل في الجبال وانتهى في صورته السياسية إلى البرلمان
عندما كان التونسيون يتحدثون عن الفكر البورقيبي أو المدرسة البورقيبية، إنما كانوا بالأساس يتحدثون عن رؤية الزعيم الراحل الفكرية لتجربة بناء الدولة التونسية بخصوصياتها الحضارية وضمن إطارها الجغرافي. لم يكن بورقيبة معاديا للعروبة والإسلام كما يتهمه البعض، بل كان يزايد بهما في مناسبات عدة، وكان يرفض سيطرة المشاريع الأيديولوجية والسياسية العابرة للحدود، وكان يخشى ذوبان الشخصية المحلية في محيطها بما يضعها في مرتبة التبعية الدائمة للقوى المهيمنة على مسارات التجاذب إقليميا ودوليا.
كان بورقيبة يطلق على بلاده صفة الأمّة التونسية في محاولة لقطع الطريق أمام الأفكار الوافدة باسم الأمميات المختلفة، فتح عينيه باكرا على المشاريع الشيوعية والإسلامية والقومية، وعمل على ترسيخ مبدأ الوطنية التونسية التي تحولت إلى عقيدة لحزبه، ولا يزال البورقيبيون يدافعون عنها بشراسة من خلال الحزب الدستوري الحر الذي يجد نفسه اليوم في مواجهة مفتوحة مع كل المشاريع الفكرية والسياسية الوافدة سواء كانت يمينية أو يسارية. فالقوميون والشيوعيون والإخوان ورغم التناقضات في ما بينهم، إلا أنهم يبدون عداء متوارثا للدولة الوطنية البورقيبية. وعندما تعتبر عبير موسي أن مرجعيتها السياسية والفكرية هي الحبيب بورقيبة ورفاقه من زعماء الحرب الوطنية، يبدو في المقابل خصومها ممن يتبنون مرجعيات من خارج التربة التونسية، وممن أعربوا في مناسبات سابقة عن طي صفحات الخلاف في ما بينهم لمواجهة ما يصفونه بالاستبداد المحلي، دون استحياء من إبداء الموالاة للاستبداد الخارجي.
اليوم، هناك لحظة فارقة في تونس كشفت عن طبيعة الصراع القائم بين الوطنية وما فوقها، وبين الانتماء للبلاد والانتماء للعقائد الوافدة والمشاريع العابرة للحدود والآفاق، وبين القادرين على التضحية في سبيل الوطن، وبين من يمارسون الانتهازية المطلقة في سبيل مصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية والأيديولوجية. وقد تبيّن من خلال هذا اللحظة أن معركة حقيقية تدور بين من يرون في تونس البدء والمنتهى والوطن والمرجعية والأمل والطموح، وبين من يرون فيها سكنا قد يتغيّر إلى أي مكان، وكسبا قد يأتي من الخراب كما يأتي من البناء، وقطعة أرض ملحقة بخارطة لا حدود لها.