آراء مغاربية – تونس | الهاربون من سيدي بوزيد

بعد عشر سنوات تبدو الأشياء كما لو أنها قد مشت في الطريق الخطأ فلا الياسمين فاح بعطره ولا الربيع أطل وكأن الزمنين اللذين وقف البوعزيزي شاهدا بينهما هما زمن الإهمال وزمن الفوضى.

قبل عشر سنوات أضرم شاب تونسي اسمه محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجا على الأوضاع المعيشية في بلده. حدث ذلك في بلدة مهمشة اسمها سيدي بوزيد.
بعد تلك الحادثة، تونس لم تعد تونس. كانت فاصلة بين زمنين.
حينها بدأت ثورة الياسمين التي كانت اللحظة التي انبعث منها “الربيع العربي”. كان الوقت حينها شتاء في تونس ولكن المجاز “الياسمين” أوحى بمجاز آخر وهو “الربيع” أو هكذا نفهم بحسن نية واستبسال عاطفي.
ولكن بعد عشر سنوات تبدو الأشياء كما لو أنها قد مشت في الطريق الخطأ. فلا الياسمين فاح بعطره ولا الربيع أطل بنضارة شبابه. وكأن الزمنين اللذين وقف البوعزيزي شاهدا بينهما هما زمن الإهمال وزمن الفوضى.
لقد أخطأت تونس أكثر من مرة في التعامل مع الديمقراطية. لذلك اختارت أشخاصا للحكم لا يصلحون له وليست لهم صلة بالشعب ولا بالثورة
صارت الجملة الأكثر تداولا بين التونسيين هي “لقد فشلت الثورة”.
قبلها كانت هناك ثقة وكان هناك أمل ولم تكن كلمة الفشل تمر على لسان أحد. اليوم بعد كل ما شهدته تونس من انهيارات عبر السنوات العشر الماضية بات كل شيء واضحا. لم تخسر تونس زمنا عزيزا فحسب بل وخسرت أيضا اقتصادها وضُربت كل مصادر الرزق فيها وانتشرت البطالة بين شبابها وتصاعدت الأرقام التي تشير إلى الفقر والبؤس والتعاسة.
التونسي اليوم واحد من أكثر سكان الكرة الأرضية تعاسة.
عشر سنوات من التحول كانت مقياسا لانحدار وانحطاط الحياة السياسية وفساد الأحزاب وخلو جعبة الزعماء من أي مشروع اقتصادي وطني يمكنه أن يعيد لتونس كرامتها المرتبطة بتمكينها من إدارة ثرواتها البشرية والمادية.
خرجت قوى الظلام والتخلف من أوكارها تحت الأرض لتغدر بتاريخ عظيم من التحضر والتمدن وسمو الأفكار والسلوكيات ورفعة وإنسانية وعدالة القوانين التي كان التونسيون ينعمون بها وصارت جزءا من حياتهم اليومية.
فجأة وجد التونسيون أنفسهم في مواجهة حشود من المرضى الذين اتخذوا من “ثورة الياسمين” مركبا للوصول إلى السلطة. كانت السلطة غنيمتهم فصاروا يقودون إما مباشرة وإما مشاركة ولقد وجدت بعض الأطياف في الفوضى مناسبة لخيانة حقيقة الثورة.
لقد نسيت أهداف الثورة ولم يعد أحد يتحدث عن الحرية والكرامة واكتفى الكثيرون بما يمكن إنجازه على مستوى الحياة المعيشية، غير أن الأساليب والوسائل التي اتبعها القابضون على السلطة من أجل ذلك كانت كلها ترقيعية.
لا مجال هنا لإنكار حقيقة أن حركة النهضة قامت بلعب دور خطير، كان الهدف منه نسف أهداف الثورة التي هي أهداف إنسانية والتعامل مع الثورة باعتبارها واقعة تحولت تونس من خلالها إلى الإسلام كما لو أن تونس كانت قبل استيلاء حركة النهضة على الحكم بلدا كافرا.

كانت الثورة بطموحات وآمال مَن قاموا بها في مكان، فيما كانت حركة النهضة ومعها الأحزاب والكتل السياسية الأخرى تقود الحياة السياسية إلى الخواء وتنزلق بالحياة الاقتصادية إلى الدمار.
كان يمكن أن تقوم حرب بين تونس العاصمة والجهات وبالأخص المدن المهمشة لو أن تلك الجهات كانت تملك سلاحا. فشبابها العاطلون عن العمل وقد وصلوا إلى لحظة الاعتراف بفشل ثورتهم لم يعد أمامهم سوى أن يقاتلوا دفاعا عن قيمهم المدنية التي تم تدميرها من قبل جماعات الإسلام السياسي.
مر الزمن سريعا. ها هي سيدي بوزيد تعلن عن احتفائها بالعشرية الأولى من ثورة الياسمين. حدث وطني ينبغي أن تكون تونس كلها مستعدة فيه للذهاب إلى سيدي بوزيد لتقديم الشكر. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
الرئيس قيس سعيد اعتذر لانشغاله بأمور القصر. الاتحاد التونسي للشغل اختفى بطريقة غامضة، أما رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب فإنهما لم يعيرا الأمر اهتماما.
كان هناك هروب جماعي من مواجهة سيدي بوزيد.
لم تخسر تونس زمنا عزيزا فحسب بل وخسرت أيضا اقتصادها وضُربت كل مصادر الرزق فيها وانتشرت البطالة بين شبابها وتصاعدت الأرقام التي تشير إلى الفقر والبؤس والتعاسة
لم يكن أحد مستعدا لمواجهة الشعارات التي رفعت. لم يكن في إمكان أحد أن يخبر التونسيين كيف صارت أحوالهم المعيشية أسوأ مما كانت قبلها. لا قيس سعيد ولا راشد الغنوشي ولا هشام المشيشي. فالثلاثة طارئون على الثورة غير أنهم صاروا حكاما بسببها. فهل انتموا إليها عبر السنوات العشر الماضية؟
ما نتج عن سياستهم يؤكد أنهم ليسوا على صلة بأهداف الثورة. لم يكن أحد منهم يعلم أن الشعب الذي ضربه الفقر كان يفكر بالحرية والكرامة قبل أن تصيبه أوضاعه المعيشية المنهارة في مقتل.
لقد أخطأت تونس أكثر من مرة في التعامل مع الديمقراطية. لذلك اختارت أشخاصا للحكم لا يصلحون له وليست لهم صلة بالشعب ولا بالثورة. فهل نلومهم على هروبهم الجماعي من مواجهة سيدي بوزيد التي لم يتعرفوا على ألمها؟
ذلك درس لتونس وشعبها.

فاروق يوسف – كاتب عراقي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الانتخابات المحلية التونسية أو لزوم ما لا يلزم

الانتخابات المحلية التي شهدتها تونس 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري هي المحطّة الانتخابية الرابعة بعد استفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021، فقد سبقتها الاستشارة الشعبية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور يوم 25 يوليو/ تموز 2022 والانتخابات البرلمانية في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها و29 يناير/ كانون الثاني 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
16 + 2 =