يتجدد الاحتفاء بها بشكل لافت، وإن كان افتراضيا، كأنهم يستعيدون ما كانت عليه بلادهم قبل الحرب؛ ليبقى يوم الأغنية اليمنية (1 يوليو/ تموز) منبرا احتفائيا يُكرّس، من خلاله، اليمنيون، على منصات التواصل الاجتماعي، مدى انحيازهم للفن في مواجهة قُبح الحرب؛ وكأنهم يقولون لبعضهم وللعالم: هذه الحرب لا تمثلنا!
ويحتفي اليمنيون للعام الثالث بيوم أغنيتهم باعتباره المتاح ليس ليواسوا أنفسهم بما صارت إليه بلادهم فحسب، بل أيضا ليعيدوا الالتفاف حول فكرة اليمن الذي يحلمون به، وكأنها وسيلة من وسائل المواجهة. لا يقتصر الاحتفاء على يوم واحد، بل يستمر بضعة أيام من خلال تداول الأغاني للرواد والمؤثرين في مسار هذه الأغنية؛ وهي الأغاني التي تُمثل أيقونات تعكس خصوصية الغناء في بلادهم؛ بل إنهم يحتفون بكل ألوان الغناء لديهم؛ وكأن التنوع الذي يبتهجون به غنائيا يؤكد مدى وحدة بلادهم؛ بل تتراجع، خلال هذه المناسبة، أصوات الهُويات التي صنعتها الحرب؛ ليتكرس اسم اليمن كما يعرّفه الفن، ما يؤكد خصوصية الفن كمحتوى ثقافي يُجدد جمال هُويتهم في ذاكرة الراهن المتشظي.
لقد عكست الأغنية على مدى تاريخها أحلام وتطلعات اليمنيين في مراحل مختلفة، وعلى الرغم من معاناتها الحالية من إشكالية الاجترار التي يُكرّسها الجيلان الأخيران من الفنانين الشباب، إلا أنها ارتبطت بأحوال اليمنيين وعبّرت عن مشاعرهم وأحاسيسهم وارتبطت بقضيتهم الوطنية؛ وهذه الأخيرة ارتبطت بها الأغنية ارتباطا وثيقا، بل استطاعت أن تتماهى بمراحل النضال السياسي وبقائهم رفيقا مساندا لمراحل التحول الوطني، واللافت في هذا الجانب أن أصوات الأغنية الوطنية، ما زالت، حتى اليوم، محل إجماع واحترام كل فئات وأطياف المجتمع، على الرغم من التشرذم الذي صنعته سنوات الصراع.
يبقى السؤال: ما الذي يجعل اليمنيين يحتفون بهذا الشكل اللافت بالغناء في مرحلة يعيش فيها وطنهم مرحلة حرجة؟ الجواب أن الأغنية استطاعت أن تحتوي مراحل التحول في تاريخهم الحديث، وبقيت معبّرة عن جمال نضجهم الإبداعي شعرا ولحنا وغناء؛ وبالتالي يجدون فيها ما يعبّر عن إمكانية استعادة بلدهم من بين فكي الحرب؛ لاسيما مع ارتباط الأغنية هناك بإيقاعات شعبية قريبة من الذاكرة الجمعية، علاوة على قرب كلماتها من هموم وأحاسيس وثقافة الناس بمختلف فئاتهم، وهنا انتقد البعض ما اعتبروه اهتمام هذه الأغنية (الزائد) بالكلمات أكثر من ارتباطها باللحن والموسيقى؛ وهو ما يراه هؤلاء أحد أسباب تعثر تطورها.
يشارك في الاحتفاء عددٌ كبيرٌ من اليمنيين، بمن فيهم يمنيو الشتات الذين يجدون في هذا الاحتفاء شكلا من أشكال تجديد العلاقة بهُويتهم في المهاجر.
على الرغم من تمحور الاحتفاء افتراضيا، إلا أن ثمة فعاليات، وهي محدودة جدا، يشهدها الواقع الحقيقي، كالندوة التي أقامها، الأحد الماضي، المركز الثقافي اليمني في القاهرة، بمشاركة عدد من الباحثين المهتمين بالأغنية اليمنية.
يأخذ الجانب الاحتفائي (الافتراضي) أشكالا مختلفة أبرزها التعريف بمعالم وملامح الخصوصية في الغناء اليمني، إلى التوقف عند أبرز المشاكل التي يعاني منها، وفي مقدمتها ندرة المراجع الموسيقية في المكتبة اليمنية؛ وهو ما يعوق جهود أي باحث في هذا المجال، ولهذا لقي صدور كتاب «من هنا مرّ الغناء دافئا- شعراء ومطربون يمنيون» للكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني، عن دار نشر مواعيد، احتفاء لافتا ليس باعتباره صدر بالتزامن مع يوم الأغنية اليمنية، بل لكونه أيضا يشكل إضافة للمكتبة اليمنية في رف الموسيقى، وتشجيعا للآخرين للإسهام في رفد المكتبة اليمنية بمراجع تكشف النقاب عن تاريخ ومراحل تطور وأسباب تعثر الأغنية هناك.
وفي هذه السياق طالب المترجم اليمني، رياض حمادي، بإيجاد ببليوغرافيا خاصة بالغناء اليمني. وقال: نحتاج إلى ببليوغرافيا إلكترونية مفتوحة تُسهل الوصول إلى صفحات شعراء الغناء اليمنيين وقصائدهم، وإلى صفحات المغنين وأغانيهم بجودة عالية. وأضاف: نحتاج أيضا إلى مشروع تنويت الأغاني/ الموسيقى اليمنية، أي تحويلها إلى نوتات، كما نحتاج إلى دراسة مهمة عن عوامل ازدهار الأغنية اليمنية خلال عقد الستينيات وحتى بداية التسعينيات إلى درجة أن كل فنان تميز بأسلوب خاص به.
إلى ذلك أعلنت منصة الأرشيف اليمني على مواقع التواصل عن إمكانية الوصول إلى كلمات 4370 أغنية يمنية تم جمع كلماتها في النسخة التجريبية الثانية من موسوعة الغناء اليمني على الرابط: https://music.yemenarchive.com
وكانت دائرة التوجيه المعنوي التابعة لوزارة الدفاع اليمنية، قد أصدرت عام 2005 «موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين» وهي أول وأكبر موسوعة فنية يمنية ضمت 3695 قصيدة غنائية لأكثر من مئتي شاعر وفنان يمني، وصدرت في عشرة مجلدات بالإضافة إلى مجلد خاص بالفهارس. وعلى الرغم من ذلك لا تخلو بلدان الحروب من مفارقات في الواقع الحقيقي؛ فبالتزامن مع الاحتفاء (الافتراضي) بيوم الأغنية اليمنية، السبت، اعتدت نقطة عسكرية في محافظة لحج/ جنوبي البلاد على فرقة موسيقية بالضرب خلال عودتها من إحياء عُرس في منطقة الصبيحة، وأعطبت آلاتهم الموسيقية، وفق ما أعلنه الفنان ياسر فيصل علوي.
صنعاء ـ القدس العربي