اليوميات نوع من الكتابة انتعش في الغرب بتنوع أفكاره، وأخرجها كتّابها من النمطية وما عرف عنها بارتباطها بالحميمية إلى الشأن العام وأصبحت تكتب لتنشر ولا تزج في الأدراج وتحت الوسائد والمخابئ كما كانت “اليوميات الحميمة”، فكاتب “اليوميات الخاصة” صار يتوجه إلى الجمهور ليقدم تجربته الخاصة، ومن هنا جاءت أشكال التجريب اللامحدودة واللامتناهية في هذا النوع من الأداء الذي يتجاوز الكتابة إلى فنون أخرى كالرسم والسينما.
ولذلك صار كل فرد مؤهلا لكتابة تجربته في يوميات ساحرة إذا عرف كيف يكتب تلك التجربة، فكل أيامنا مثيرة وتستحق أن تُقرأ إذا عرفنا التقاط لحظاتها التي تجعل منها تجربة خاصة. ومثلت المهن أحد هذه المداخل لكتابة التجارب، ولعل أشهر اليوميات المنشغلة بالمهن “يوميات بائعة الأنتيك” التي تروي فيها البائعة إيفون دي برومند دار في يوميات نهرية تجاوزت 10 أجزاء ذكرياتها مع زبائنها وطرائفهم اليومية وطرائف المهنة وكنوزها.
مذكرات مكتبة
قريبا من هذه اليوميات كتب الروائي البريطاني الشهير جورج أورويل “مذكرات مكتبة”، وروى فيها أسرار بيع الكتب القديمة حيث عمل بائعا للكتب. من هم الزبائن الذين يترددون على المكتبة؟ كيف كانت أمزجتهم؟ ما هي أنواع الكتب المطلوبة؟ ولمن كانوا يطلبونها؟ وقد كانت هذه المكتبة أيضا تعير الكتب، وهو ما كشف لأورويل أذواق القراء ومستوياتهم. قريبا من هذا الكتاب تظهر بالعربية ترجمة كتاب “يوميات بائع الكتب” لشون بيثل وتعريب عباس المفرجي في دار المدى، وهي يوميات يقتفي فيها بيثل أثر كتاب جورج أورويل ويدون يومياته يوما بيوم في المكتبة التي اشتراها. يروي الكاتب في بداية يومياته كيف جاء إلى عالم بيع الكتب ويسرد قصته مع محل “ذا بوك شوب” (The bookshop) وهو المكتبة التي يملكها ويديرها في ويغتاون ببريطانيا فقد كانت في الأصل لغيره، ويوم رآها لأول مرة وكان بصحبة صديق له توقع لها أن تغلق في عام واحد. كان ذلك عندما كان في الـ18 من عمره وهو يتهيأ لدخول الجامعة، وبعد 12 عاما يعود شون بيثل إلى ويغتاون لزيارة والديه في عيد الميلاد، يدخل المكتبة ويسأل عن كتاب، وأثناء تبادل الحديث مع صاحب المكتبة حول البحث عن عمل اقترح عليه المالك أن يشتري منه المكتبة لأنه سيتقاعد، أجاب وقتها الكاتب بأنه لا يملك أموالا لشراء المحل، فكانت إجابة المالك “لست بحاجة للنقود، لأي شيء تظن جعلت البنوك”، وهكذا في أقل من سنة صارت المكتبة ملك شون بيثل لتبدأ رحلته مع هذه المهنة الغريبة والشاقة، بيع الكتب. ومنذ البداية يلمح الكاتب إلى صعوبة التجربة وقساوتها بإشارته إلى مقال من مقالات جورج أورويل عن الكتب وبيعها، فيقول “ربما كان من الأفضل لي قبل ذلك قراءة مقال جورج أورويل، ما كتبه في “مذكرات مكتبة” عام 1936 يثبت كونه حقيقة اليوم، ويبدو نذيرا نافعا لكل ساذج مثلي بأن عالم بيع الكتب المستعملة هو ليس كما يتخيل المرء مجرد جلوس على كرسي وثير قرب الموقد وفي قدميه خفان، تدخن غليونا وتقرأ لغيبون (كاتب أميركي)، فيما ينهمك زبائن لطاف معك في حديث ذكي، قبل أن يدفعوا بحفنة من نقود، في الواقع، يمكن للحقيقة أن تكون أكثر اختلافا”. هكذا تبدأ يوميات في 400 صفحة بهذه الخيبة وإفشال أفق انتظار القارئ، إن عالم بيع الكتب القديمة عالم مغاير لهذه الصورة الرومانسية التي في أذهاننا.
يوميات في شكل خاص
يتخذ كل مدون يوميات في العالم نسقه الخاص داخل نمط اليوميات نفسه، فما يجعل منها يومية هو التزامها أساسا بالتاريخ، أي تصدير تاريخ اليوم أعلى الصفحة ثم كتابة أو تثبيت أي شيء فيها، مثل: أحداث، تأملات، أجسام غريبة عبر “الكولاج” (فن قص ولصق القصاصات)، تدوين مقال، فكرة، كلمة، فراغ، ولكن ما يكسب تلك اليوميات خصوصية هو ما يجترحه المدون من علامات تشير إلى يومياته دون غيره. وقد جعل شون كل يومياته مصدرة بعبارة لجورج أورويل من كتابه “مذكرات مكتبة” وعدد الكتب المطلوبة عبر الإنترنت وعدد الكتب الموجودة وينهيها بعدد الزبائن وإجمالي الإيرادات، وما بين هذه الثوابت يروي لنا شون طرائف يومه مع الزبائن وقصصهم الغريبة، فاليوميات في الأصل مثل الجرد الذي يقوم به التاجر، والذي تخللته ملاحظات وتأملات وانفعالات وأفكار.
الزبائن غريبو الأطوار
منذ اللحظة الأولى يجثم جورج أورويل بسوداويته على اليوميات، حيث يفتتح الكاتب كتابه عبر مقتطفات من كتابه “مذكرات مكتبة”، وكان المقطع الأول الافتتاحي محذرا من امتهان هذه المهنة، حيث يضع الكاتب هذا الحوار القصير “أتود أن تكون مهنتك بائعا للكتب؟ إجمالا، رغم لطف رب العمل معي وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل: لا”. إن هذا التصدير القصير يشتغل في الكتابة كما لو كان بيانا سيعمد الكاتب إلى توضيحه بعد ذلك على طول المئات من الصفحات، وينطلق الكاتب من جديد من سيرة أورويل وعلاقته بالكتب، فيكتب “عزوف أورويل عن ارتكاب فعل بيع الكتب قابل للفهم”. “ثمة طراز بدائي لأصحاب محل بيع الكتب غير اجتماعي، وليس متسامحا، نافد الصبر”، هكذا يضعنا الكاتب في جو غريب وفيه مفارقة، محل عمومي لبيع بضائع هي الكتب، والبائع غير اجتماعي وغير متسامح. ويضيف في موقع آخر أنه متذمر من إشارة أورويل إلى هذه المهنة كفعل إجرامي يقوم به الشخص في حقه نفسه عندما يستعمل عبارة “يرتكب”، ويبدأ شون بيثل بتشويه تلك الصورة الرومانسية لمحل بيع الكتب وبائع الكتب وحشد الشخصيات الغريبة في المحل بداية بالعملة. ويتحدث الكاتب عن مدّعي حب الكتب الذين يمثلون إزعاجا دائما لمحل هو المكتبة، فالمكتبة هي المكان الوحيد الذي يمكن أن تدخله وتقلبه كما تشاء وتخرج دون أن تشتري شيئا ولا تدفع فلسا واحدا، هؤلاء المدعون يصفهم بالكثرة مقابل محبي الكتاب الحقيقيين، ويصفهم بأسلوب ساخر قائلا “الناس المولعون بالكتب حقا ندرة من النوادر رغم وجود أعداد كبيرة ممن يدّعون ذلك، مثل هؤلاء من السهل التعرف عليهم، غالبا ما يقدمون أنفسهم بوصفهم “أهل كتب”، قد يرتدون قمصانا أو يحمل كل منهم حقيبة عليها شعارات تؤكد بالضبط حبهم للكتب، لكن الوسيلة الأكثر تأكيدا للتعرف عليهم هي أنهم لا يشترون كتبا أبدا”.
يزور المكتبة أناس تتوقع منهم أي سلوك، يفسدون مزاج شون عادة كالذي حدث يوم الاثنين 3 مارس/آذار، حيث أفسد الزبائن جمال اليوم بسلوكياتهم، فيقول متذمرا بأسلوب تهكمي “نهار جميل آخر أُفسد في مرحلة مبكرة من رجل يرتدي قميصا وجوارب طويلة حد الركبة، قلب كومة كتب وتركها مبعثرة على الأرض، بعد ذلك بفترة وجيزة دخل زبون يصفّر ذو شعر بقصة ذيل حصان ويرتدي قبعة أستطيع أن أفترض أنه اقترضها من مهرج، اشترى نسخة من كتاب باولو كويلو “الخيميائي”. ويروي الكاتب قصص الكثير من الزبائن الذين يشترون الكتب عن طريق الإنترنت ومشاكلهم ومراسلاتهم وتهديداتهم وابتزازهم أحيانا لتشويه سمعة المكتبة، لأن الطلبات تأخرت أو للتهرب من دفع الثمن أو استرداده، كأن يرسل أحد الزبائن الرسالة التالية “لم أستلم كتابي بعد، رجاء حلوا لي المشكلة، لحد الآن لم أكتب تقييما بشأن خدمتكم”، ويكتب زبون آخر “هذا أمر شائن، لا أعرف كيف واتتك الجرأة أن تدعو نفسك بائع كتب وأنت تبعث مثل هذه النفايات”.
أفكار وأسرار المهنة
تكشف اليوميات عن أسرار مهنة تجارة الكتب المستعملة، إذ يفتح صاحب المكتبة لتغذية نشاط المكتبة أو مقاومة كساد تجارة الكتب الفضاء للقاءات ثقافية تبدو بعيدة عن عالم الكتاب، كاستضافة أشهر رجل حامل للأوشام يقدم عرضا وحكايته مع الوشم للجمهور، أو استضافة فنانين شباب لتقديم عروض في المكتبة. كما تكشف يومية الاثنين 10 فبراير/شباط عن فكرة إطلاق النوادي في المكتبة لتغذي الإيرادات، ويحدثنا الكاتب عن “نادي الكتاب العشوائي”، وهو ناد شهري انظم إليه أكثر من 150 مشاركا يقدمه الكاتب قائلا “الراندوم بوك كلوب هو فرع من المكتبة أنشأته قبل بضعة أعوام عندما ساءت الأعمال وبدا المستقبل غامضا، مقابل 95 جنيها إسترلينيا في السنة يستلم المشتركون كتابا كل شهر، ولا يحق لهم إبداء الرأي في نوع الكتاب الذي يستلمونه، فالاختيار هو بالكامل مسؤوليتي”، ويكشف لنا أن ذلك استثمار في المدمنين على القراءة، وهو ما حفظه “من الإرباك المالي أثناء فترة عصيبة في تجارة الكتب”. وكما أشرنا في البداية إلى تشابه يوميات بائعة الأنتيكا وبائعي الكتب المستعملة فإن المؤلف يعقد نفس التشبيه بين التجارتين من باب الإثارة التي تقدمها كل من المهنتين، فيقول “عندما أذهب إلى مكان لشراء الكتب يخلق الإحساس بالتوقع نوعا من الإثارة تسيطر علي كما لو أنك تلقي بشبكة في البحر غير عارف أبدا ما ستجد فيها، أعتقد أن تجار الكتب وتجار الأنتيكا يشتركون بإحساس الإثارة ذاك نفسه”. ويعترف الكاتب بجملة من الأسرار لعل أطرفها ما رواه على صفحة فيسبوك الخاصة بالمكتبة، حيث إنه بعد أن تابع الكثير من الصفحات الشبيهة قرر التركيز “على سلوك الزبون، خاصة الأسئلة الغبية والزبائن الجهلة، يظهر أن هذا أتى بنتيجة، فكلما زاد هجومي على الزبائن ازداد متابعو الصفحة إعجابا”.
تراجيديات المهنة
يروي الكتاب قصصا مؤثرة متعلقة بمهنة تجارة الكتب، خاصة ما يتعلق ببيع أهل الفقيد مكتبته، وهي عروض مغرية للتاجر الذي يتنقل لتثمين الكتب المعروضة ولكن تلك الزيارات تترك أثرا نفسيا كبيرا عنده عندما يلتقط تاجر حساس أمورا سرية متعلقة بمالكي الكتب تقذف في قلبه شعورا غامضا بالذنب باعتباره الشخص الأخير المكلف بمحوهم. ويقول “تجربة تفريغ ملكية ميت هي تجربة مألوفة لدى معظم الناس في تجارة الكتب المستعملة، وهي تجربة تجعلك تغدو ببطء متحجر العاطفة، عدا حين يتعلق الأمر بزوجين ميتين بلا أطفال، لسبب أو لآخر الصور على الجدار، الزوج في زيه النظامي، الزوجة -وهي شابة في باريس- تثير نوعا من كآبة ما كانت لتوجد لو كان لديهما أطفال يعيشون بعد موتهما، إزالة مجموعة كتب كهذه تبدو أنها الفعل النهائي لمحق شخصيتهما، أنت مسؤول عن محو الدليل على أنهما كانا موجودين”.
كتاب “يوميات بائع الكتب” جدير بالقراءة، خاصة للذين يهمون بفتح مكتبات لبيع الكتب أو لدراسة شخصية القارئ، وهو كتاب يقدم الكثير من الأفكار عن عالم الكتاب والقراءة في أسلوب قصصي ساخر وبسيط، ويعطي نصائح خفية من خبير في الترويج للكتب. وما زال شون بيثل يبتكر أساليب جديدة للخروج بالكتاب من عزلته، آخرها الفيديو الغنائي الترويجي الذي وضعه وعماله للمكتبة، وأعتقد أن هذا العمل الذي دون فيه صاحبه يومياته وعالمه اليومي الروتيني لم يجعله مشهورا فقط، بل حوّل محله إلى معلم سياحي، فلا أحد اليوم يفكر في زيارة ويغتاون، ولا يضع المكتبة وصاحبها ضمن برنامجه السياحي.
أكد رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بغزة خليل الحية استشهاد رئيس المكتب السياسي للحركة يحيى السنوار، في مواجهة عسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي جنوبي القطاع أول أمس الأربعاء.