قراءة أخرى في مذكرات قائد أركان جزائري

إلى الفريق المغربي في قطر.. تهنئة قلبية ومزيدا من التفوق والنجاح

أواصل القراءة في مذكرات العقيد الطاهر زبيري، الذي كان من القلائل الذين كتبوا مذكرات تناولت الأحداث التي عاشوها، والتي ستكون يوما أساسا لما سيكتبه المؤرخون النزهاء عن ثورتنا وعن نضالنا وعن إنجازاتنا وأخطائنا، وإذا لم يكن للمذكرات إلا هذا الفضل فهو ما يشكر عليه قائد أركان الجيش الجزائري السابق.

وسبب توقفي عنده أول أمس واليوم هو التذكير بمجاهد كبير يعاني الآن في صمتٍ من مرض عضال، ودعوة القراء إلى كرم الدعاء له بالشفاء، وأستأنف الحديث.

كان حزب الشعب الجزائري، أهم الأحزاب السياسية الوطنية على الإطلاق، قد قام بتكوين مجموعة سرية تتولى الإعداد للعمل المسلح، ويعود العقيد في مذكراته إلى الخلف فيستذكر ما عرفته هذه المنظمة الخاصة قبل اندلاع الثورة، والتي رأسها محمد بلوزداد إلى حين وفاته، وخلفه حسين آيت أحمد الذي أطاح به مصالي الحاج زعيم الحزب لاتهامه بالتواطؤ مع مجموعة بربرية حاولت الاستيلاء على الحزب ورفضت توجهه العربي الإسلامي كما اعترضت على جمع التبرعات لصالح الشعب الفلسطيني ( ص 72) وخلفه على رأس المنظمة رجل لا يقل دهاء عنه وهو أحمد بن بلة، فأصبح غريمه فيما بعد”.

وما لم أجده في المذكرات هو أن مناضلين من المنطقة كانوا من بين من تصدوا للنزعة البربرية وكانوا سببا رئيسيا في إجهاضها، وكان في مقدمتهم شوقي مصطفاي، مما يثبت قوة الروح الوطنية في المنطقة على غرار بقية المناطق وينفي عنها ما يحاول البعض إلصاقه بها، ويؤكد ما نقوله ونكرره بأن أصحاب النزعة البربرية كانوا قلة حاولت استغلال وجود نسبة كبيرة في فرنسا من أبناء منطقة القبائل، التي كان محمد حربي يسميها، لشدة فقر سكانها، ملاذ البؤسpauvreté) (le sanctuaire de la وهكذا اضطر كثيرون إلى الهجرة بحثا عن لقمة العيش.

ثم يتوقف الزبيري عند أول شنآن حقيقي له مع الرئيس أحمد بن بلة، فيذكر بتعليق الرئيس الحاد في “الكرملين” على نكتة تشير لماريشالات الاتحاد السوفيتي، حيث قال عمّي الطاهر للرئيس ممازحا: ربما كان جيشنا يحتاج ماريشالات ( ص 88) فإذا ببن بله يقول له بغلظة واضحة لم تكن مبررة: من حسن الحظ أن الوقت قد فات لاستعمال الموسى (التي كانت تستعمل في الثورة لإعدام الخونة والمتآمرين).

 ويعلق عمي الطاهر قائلا: شعرت أن بلة وغيره من زعماء الثورة في الخارج لم يكونوا يقدرون حق التقدير جهادنا في الداخل وتضحياتنا من أجل (استرجاع) استقلال الجزائر (ص 89.

ويواصل العقيد مذكراته مؤكدا بشكل ضمني أن العلاقات كانت على ما يُرام بينه وبين وزير الدفاع العقيد هواري بو مدين والذي أصبح رئيسا لمجلس الثورة بعد عزل أحمد بن بله في يونيو 1965، ويتوقف عند حوار مع الرئيس يكشف نظرته الثاقبة فيقول : “في إحدى زياراتنا لميناء الجزائر أسر لي بو مدين بأن “الروس يريدون قاعدة عسكرية في الجزائر، ويضيف: الروس إذا دخلوا الجزائر فلن يخرجوا منها”.

 وهكذا لم يكن بو مدين، كما يؤكد قائد الأركان، “يرغب في أن يرى الجزائر مركزا للقواعد العسكرية الأجنبية، حتى ولو كانت لدول صديقة لعبت دورا في تزويد جيشنا بمختلف العتاد العسكري، من دبابات وطائرات مقاتلة وقطع بحرية، فضلا عن تدريب ضباطنا على استعمال مختلف الأسلحة، سواء في الجزائر أم في الاتحاد السوفيتي”. (ص 137).

وأتذكر هنا موقف الرئيس بو مدين من الأساطيل الأجنبية في البحر الأبيض المتوسط، فقد قال يوما بأنه إذا كان الأسطول الأمريكي يفرض علينا وجوده فلن نقف ضد وجود الأسطول السوفيتي أمامه.

وابتداء من الفصل التاسع يبدأ العقيد طاهر زبيري في استعراض أوجه الخلاف مع الرئيس بو مدين، ويمحورها حول قضية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، أو من أطلق عليهم “DAF”، أي (Déserteurs de l’Armé Française) وهي تسمية أطلقت على الجزائريين الذين كانوا مجندين بشكل دائم وعن طواعية داخل وحدات الجيش الفرنسي خلال فترة الاحتلال، ولا يُقصد بهم الجزائريون الذين قضوا فترة الخدمة العسكرية الإجبارية في صفوف الجيش الفرنسي على غرار والد الثورة مصطفى بن بو العيد وأحمد بن بلة (الذي تلقى وساما من الجنرال شارل دوغول على بطولته في معركة “كاسينو”) وهو ما أكسبهم خبرة قتالية أفادتهم في حرب التحرير، كما لا يُقصد بهم الضباط الجزائريون الذين فرّوا من الجيش الفرنسي في السنوات الأولى للثورة (ص 169) ولكنهم لم يكونوا يتمتعون بشعبية وسط المجاهدين، بل كان ينظر لهم بعين الريبة (ص 171)

ويقول عمي طاهر: “أولئك الضباط عرفوا بمستواهم العسكري الجيد سواء من حيث التدريب أو من حيث الانضباط (..) وخلال قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي (1963-1967) كان مجموع هؤلاء بجميع رتبهم نحو 200 ضابط وضابط صف، ولكن أبرزهم كان الرائد عبد القادر شابو (..) والحق أن شابو كان يحترمني ولم يحدث طيلة قيادتي لأركان الجيش أن اصطدمت معه أو حدث خلاف بيننا، لكنني كنت أرفض من حيث المبدأ أن يتولى أولئك الضباط مناصب قيادية حساسة في الجيش (..) وهذا ما كان يوافقني فيه بو مدين (ص 172) الذي سعى إلى إحداث التوازن بين الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وقدماء ضباط جيش التحرير في المناصب والمسؤوليات (ص 173) وكان قادة النواحي العسكرية كلهم من قدماء ضباط جيش التحرير”.

وابتداء من ص 174 نحس بأن العقيد زبيري بدأ يسجل تحفظاته على العلاقة مع الرئيس، والتي يضعها في البداية على عاتق بعض ضباط جيش التحرير الذين يقول عنهم أنهم يحسون بقلق نتيجة لما يرونه من ازدياد لنفوذ الضباط الفارين، ويقول العقيد بأن “ما أصبح يقلقه أكثر هو أن الرئيس كان يستشير الرائد شابو في القضايا العسكرية للجيش بدون الرجوع إليّ” (ولست أعرف ما هي نوعية هذه القضايا لأن العقيد لم يشر لها) “رغم أن بو مدين كان يحترمني كثيرا ويقدر مكانتي (..) ومع ذلك بدأت أشعر أن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي استطاعوا أن يُشكلوا حاجزا بيني وبينه (ص 174، وهو لم يقل…بينه وبيني) وكان همّ أولئك الضباط كان تصفية الجيش من بعض الإطارات من المجاهدين، خصوصا أولئك الذين قد يشكلون خطرا على تمدد نفوذهم في الجيش” (ص 178).

ولابد للأمانة التاريخية القول إن أكبر خطأ ارتكبه الرئيس هواري بو مدين هو نسيانه أن الموت لا يستأذن أحدا، وهكذا ظل على يقين بقدرته على التحكم في الأمور ووضع كل متجاوز عند حده، ولا بد للأمانة أيضا من أن أقول أنني، وفي حدود ما أعرفه، لم أعرف تجاوزا لحدود المهام العسكرية من كل من عرفتهم من معظم أولئك الضباط.

وأجد نفسي مضطرا للخروج من مذكرات العقيد الزبيري لأسجل ما أعتقد أنه ضرورة الأمانة التاريخية.

 فأنا أعترف بأنني لم أكن أحمل ودا كبيرا تجاه أول من تعرفت عليهم من الضباط الفارين، والذين بدأ التحاقهم بصفوف الثورة بفضل العقيد كريم بلقاسم في 1956، وربما كان من أسباب نفوري منهم أن أول من عرفته كان الكومندان “إيدير”، الذي قاد حملتنا إلى منطقة جنوب الصحراء الجزائرية في 1957، والذي كان يتعامل باستعلاء معنا، رفقائي وأنا من طلاب القاهرة الذين تطوعوا بدون أن يجبرهم على ذلك إلا شعورهم الوطني.

لكن النفور تضاءل بعد أن تعرفت على عدد هام منهم، زطتن أولهم قائد سلاح الطيران بعد استرجاع الاستقلال سعيد آيت مسعودان، ثم تعرفت بخالد نزار وبو تلة وشلوفي وكثيرين آخرين، وكانت الصورة التي أخذتها عنهم الانضباط في التصرفات العامة، بالإضافة إلى ما كنت سمعته آنذاك عن كفاءتهم المهنية.

وكان من أهم ما تميز به الجميع الوفاء لبعضهم البعض، وربما كان ذلك نتيجة لروح عدائية أحسّوا بها من بعض المجاهدين.

لكن هناك حادثة عشتها، تبرز نظرة الرئيس بو مدين لهؤلاء الضباط الذين ارتبطوا به ووثق بهم واستطاعوا إنجاز الكثير من المهام التي أسندت إليهم، وكثيرون منهم أنهوا حياتهم وزراء أو سفراء.

ففي أبريل 1971 سقطت مروحية عسكرية أنهت حياة عدد من أولئك الضباط وكان منهم عبدالقادر شابو، وشيعت جنازتهم في موكب مهيب، ودفنوا في مقبرة العالية أمام ضريح كل من الأمير عبد القادر وغيره من قيادات المقاومة الوطنية.

وفي يونيو 1971 التحقت برئاسة الجمهورية كمستشار للرئيس، وبعد نحو عام اتجهت إلى مقبرة العالية لإعداد تظاهرة لا أذكر مناسبتها، ولعلها كانت احتفالا بتصحيح 1965.

وفوجئت هناك بعمال المقبرة وهو يفتحون قبور الضباط ويستخرجون توابيتهم، فكلمت هاتفيا الأمين العام للرئاسة آنذاك الدكتور محمد أمير لأبلغه بما يحدث ولكنه أخبرني بحسم أن تلك تعليمات الرئيس، وسألت عن الأمر فقيل لي بأنهم سينقلون إلى المنطقة التي يدفن فيها كبار الشخصيات، والموجودة على الطرف الآخر من الطريق الذي يخترق المقبرة، وفهمت يومها أن الرئيس أراد أن يفهم الجميع بأن تقديره لأولئك الضباط هو شيئ ولكن مساواتهم بالأمير أو برواد الحركة الوطنية وقيادات الثورة شيئ آخر.

ويتناول الطاهر الزبيري في مذكراته دور الجزائر في الصراع مع الكيان الصهيوني فيقول بأن الجزائر “لم تكن في أي وقت من الأوقات محايدة في الصراع العربي الإسرائيلي، حتى وهي تحت الاحتلال الفرنسي، بل إنه وبمجرد إعلان الصهاينة عن قيام دولة إسرائيل في 1948 شرع حزب الشعب في جمع التبرعات لصالح القضية الفلسطينية (وقد أشرت إلى هذا عند تناول الأزمة البربرية) رغم أن المنظمة الخاصة التي أسست في 1947 كانت في أمس الحاجة إلى الأموال لشراء السلاح إعدادا للثورة (ص 141).

ويتناول العقيد جهود الجزائر في حرب 1967، كما يتناول القضايا المتعلقة بتعيين قيادة الوحدات الجزائرية المشاركة في دعم الصمود المصري، والتي انتهت بتعيين من رشحه هوَ، أي عبد الرزاق بو حارة، و يروي عمّي الطاهر أنه “في ذروة الإحساس بالهزيمة ظهر بو مدين وألقى خطابه الشهير (..) وبدون أن تقصد ذلك خرجت الجزائر من عزلتها المفروضة عليها عربيا بشكل غير رسميّ منذ تنحية بن بلة، وأصبحت أكثر حضورا في القضايا العربية المصيرية (ص 163) وقد استشهد خلال الشهر الأول بعد اندلاع حرب الاستنزاف بعد ذلك نحو 17 جنديا جزائريا، ولكننا لم نخسر أية طائرة مقاتلة على ما أذكر” (ص165).

وما زال هناك الكثير مما يجب أن يروى وما أتركه لفرصة أخرى، داعيا المولى عز وجل أن يشمل برعايته العقيد الطاهر زبيري.

دكتور محيي الدين عميمور – كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

تنهيدة.. ليبيا إلى أين المصير أو إلى أين المفر؟

الحرب الجارية الآن في غزة ليست كقبلها من الحروب العديدة الفلسطينية والعربية X الإسرائيلية، لا في منطلقها، ولا في جغرافيتهH، ولا في أطرافها (شعب X دولة)، ولا في اصطفافات دول المنطقة والعالم، ولا في تداعياتها القريبة، ولا في نتائجها الأبعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
9 + 5 =