من المفارقات التي تستدعي الوقوف أمامها، باعتبار أن الأمر سوري بامتياز، فوز الطفلة شام، ابنة حلب ذات السبع سنوات، ببطولة الدورة السادسة لمسابقة تحدّي القراءة بالعربي، التي تقيمها إمارة دبي، بالتزامن مع صدور قانون الإعلام في سورية، واستبدال وزارة الإعلام الجديد بالوزارة الحالية، في بلد عانى سابقًا، وما زال، من أشكال القمع وكمّ الأفواه ومصادرة الحرّيات والفساد والرقابة الصارمة على كل نشاط إبداعي أو ثقافي أو حتى اجتماعي، ما دفع بالشعب، في لحظة إدراك لما يعاني، إلى الانتفاض، مطالبًا بداية بالإصلاحات واحترام حقوقه، قوبل بالعنف إلى أن استولد العنف في المقابل وصار السلاح سيّد الموقف، وهو البوصلة التي دفعت بالحراك، وبقضايا الشعب، إلى المهاوي المختلفة، وصارت سورية مقسّمة الأجزاء، تتحكّم بها سلطات الأمر الواقع في كل مناطقها، مدعومةً من أطراف خارجية، بل إن جيوشًا تمثل دولًا متنوعة صارت تمارس عملياتها على الأرض السورية من دون مواربة، وصار القرار السوري موزّعًا ومرهونًا للقوى الخارجية المسيطرة.
شام قرأت، وتقرأ، ولقد أذهلت المتابعين بعذوبة طفولتها وجمال وجهها وسرعة بديهتها ومقدرتها اللغوية والقرائية التي تفوق عمرها بكثير، فمن أين لطفلةٍ بهذا العمر أن تمتلك أدوات التميز والتمكّن من الفعل القرائي، وهي بالكاد تتعلّم رسميًّا، بحسب المناهج المقرّرة، ومناهج العالم بالتوازي أيضًا، كيف تركّب جملة مفيدة؟ شام التي نجت من الموت في هذه الحرب الخسيسة، لكنها لم تنجُ من حياةٍ قضمت طفولتها، فخطف الموت والدها وهي بعد رضيعة، وعاشت، وهي تكبر، الشرط السوري القاتل للحياة فكيف بالمواهب؟
الطفلة شام حالة فردية. ما من شك في أنها تمتلك ملكات تميّزها عن أقرانها، لكن الملَكات وحدها لا تكفي، بل تحتاج مقومات لرعايتها
منذ عقود تتراجع القراءة بوصفها قيمة من منظومة القيم الاجتماعية، والرسمية أيضًا، حتى تكاد تنعدم، وهذه ظاهرةٌ بدأت منذ عقود، حتى وصلت إلى الحضيض في وقتنا الحالي، فقبل خمسين عامًا على سبيل المثال، كانت المكتبة ركنًا أساسيًّا في معظم البيوت، وكانت للكتاب مكانة مبجّلة، وهناك، في المقابل، مكتبات في المدارس، بكل مراحلها الدراسية، وفي المعاهد والجامعات، عدا المكتبات العامة التي تشكّل أحد الأركان الأساسية للمراكز الثقافية في المدن والبلدات السورية، وكانت المكتبات الخاصة شائعة ومزدهرة، لها روّادها وزبائنها المهتمّون بمتابعة الكتب والجديد من إصداراتها، وكان الكتاب إحدى أرفع الجوائز التي تقدّم للطلاب المتفوّقين.
وفي هذا الصدد، تحضرني ذكرى، حين كنت في الصف الأول ثانوي، وقبل موعد توزيع النتائج وتكريم الطالبات المتفوّقات، استدعتني نائبة المديرة إلى مكتبها، عرضت عليّ كتابين، واحداً علمياً عن دراسة بعض الظواهر في الطبيعة، وآخر أدبياً عن الأدب الجاهلي لشوقي ضيف، وقالت لي إنهم يريدون شراء بعض الكتب لمكتبة المدرسة، ويرحبون برأي بعض الطالبات.
اخترت يومها كتاب شوقي ضيف، وعند توزيع الجوائز، اكتشفت أنها كانت حيلة لمعرفة نوع الكتاب الذي أفضّله لتكريمي بحصولي على المرتبة الأولى في الثانوية، وما زال الكتاب في مكتبتي ذكرى عن مرحلة كانت بمثابة الاشتعال الأخير لشموعنا. حتى اجتماعيًا، كان تقديم كتاب هديّة في مناسبات متنوعة عادة رائجة ومبهجة.
لكن مع الوقت، في غفلة منّا، مثل كثير مما كان يقع في حياتنا ونحن غافلون، فيجعلها حياة خاوية من أكثر مقومات الإنسانية، اختفت المكتبات من المدارس، ولم يبقَ منها غير شاغر وظيفي يسمى “أمين/ة مكتبة”، وظيفة كانت تدفع الرشى وتُشغّل الوساطات من أجل الحصول عليها، باعتبارها موقعًا وظيفيًا خاليًا من العمل، بإمكان صاحبها البقاء في بيته، أو التفرّغ لأعماله الأخرى من دون أن يتأثر سير العمل بغيابه، ويقبض راتبه إلى آخر تعويض.
هذا حال المكتبات في غالبية المدارس التي أبقت عليها الحرب والعمليات العسكرية بعد 11 عامًا من الدمار، أمّا المكتبات العامة فلم يعد ذلك الزخم من الاهتمام بها وريادتها من كثيرين ممن لم تكن لديهم القوة الشرائية لاقتناء كتب كثيرة، فكانوا يستعيرون الكتب منها، أو أولئك الراغبين بالمطالعة وكانوا يرتادونها لأجل هذا النشاط المهم. أمّا المكتبات الخاصة التي شكلت علامة هامة في تاريخ مدن سورية كثيرة، من دمشق إلى باقي البلدات، فلم يصمد منها إلّا القليل والشحيح في محتوياته. وأمّا في البيوت، فلم تعد هناك برّادات لحفظ الطعام، ولم يعد هناك طعام يسد الرمق ويسكت البطون الخاوية، فكيف بوجود مكتبة؟
صارت حياة السوري مرهونة لتأمين الحد الأدنى من قوت أطفاله، هذا الحد الأدنى قد لا يتجاوز حصته من الخبز والسكر والشاي، فكيف للكتاب أن يكون له مكان في اهتمام السوريين؟ قضت هذه الحرب اللعينة على الأحلام والطموحات لجيل بكامله، ولأجيال تتشكل وفق شروطها. لذلك يمكن القول إن الطفلة شام حالة فردية.
ما من شك في أنها تمتلك ملكات تميّزها عن أقرانها، لكن الملَكات وحدها لا تكفي، بل تحتاج مقومات لرعايتها، وهذه ربما توفّرت لها بصورة خاصة، من خلال التقاط هذه الملَكات وتوجيه الأوامر برعايتها بشكل خاص، طالما أن الأمر يمثّل مشاركة باسم الدولة السورية في نشاطٍ يتجاوز المحلية، ويفتح نوافذ وأبوابًا على الخارج ويسلط الأضواء على سورية، فلقد كانت شاركت في التنافس على مستوى القُطر قبل أن تدخل المنافسة على مستوى الوطن العربي.
لذلك كان حصولها على البطولة ظاهرة فريدة من حيث احتفاء السوريين بها، فقد أصبحت ظاهرة بسرعة كبيرة “ترند”، واحتلت مواقع التواصل والصحف والشاشات، وجرى تكريمها على مستوى رسمي من الحكومة في دمشق، وابتهج بها السوريون على مختلف انتماءاتهم “السياسية”، من دون أن يخلو الأمر من بعض التجريح بهذا التفوّق والتكريم.
تتراجع القراءة في سورية بوصفها قيمة من منظومة القيم الاجتماعية، والرسمية أيضاً، حتى تكاد تنعدم، حتى وصلت إلى الحضيض
المفارقة التي تعيدنا إلى موضوع القراءة بوصفها نشاطا إنسانيا ضروريا من أجل نمو الوعي وازدهاره، ومن أجل التقدّم ورسوخ المجتمعات والدول، هي قانون تشكيل وزارة الإعلام الجديد في سورية، الذي يشكل، مع قانون الجرائم الإلكترونية، ما يشبه فكّي كمّاشة على العقل والإرادة وحرية التفكير والقول والتعبير، وعلى المنتج الثقافي في الدرجة الأولى، فإذا كانت الرقابة متنوّعة وشديدة إلى هذا المستوى والاتساع، فكيف يمكن إنشاء جيل يقرأ، أولًا، وماذا يقرأ ثانيًا؟
أقرّ البرلمان السوري في دمشق، يوم الثلاثاء 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، مشروع مرسوم إحداث “وزارة إعلام” جديدة لتحلّ محل الوزارة القديمة المحدثة بالمرسوم التشريعي رقم 186 بتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول 1961، يهدف، كما جاء في خطاب وزارة الإعلام، إلى “إيجاد قانون عصري يتماشى مع التطورات الحاصلة في مجال الإعلام والاتصال، وخاصة في الأمور الإجرائية التي لم يشملها القانون النافذ”.
وبعد الاطلاع على التفصيلات، سوف يبدو واضحًا تشديد الرقابة، عن طريق الوزارة الجديدة، وتحكّمها بمختلف جوانب الإعلام ومؤسساته من خلال إجرائه تعديلات على “قانون الإعلام” رقم 108 الذي صدر بمرسوم رئاسي في سبتمبر/ أيلول عام 2011، بما يخصّ النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، و”اعتماد مكاتب إعلامية لوسائل الإعلام غير السورية ومراكز البحوث الإعلامية واستقصاء الرأي ومراكز التدريب”، بالإضافة إلى منح التراخيص لدور النشر، ما يعني زيادة الرقابة على الكتاب.
من دون إهمال الرقابتين الاجتماعية والدينية اللتين زادت سطوتهما في السنوات الأخيرة، نتيجة للحرب التي ألمّت بالبلاد، وانقسام المجتمع ونكوصه نحو المنظومة الماضوية في ما يتعلق بالثقافة الحاضنة للنشاط البشري وسلوك الجماعات، السطوة المباركة من الأنظمة المسيطرة أو سلطات الأمر الواقع في كل المناطق السورية، ومنها مناطق سيطرة النظام.
أي قراءة ينتظرها السوريون في ظل هذا الخراب الممنهج؟ بل هل يعني الكتاب شيئًا مهمّا بالنسبة لغالبية الشعب المنزلقة بسرعة إلى ما دون خط الفقر؟ وهل وصول طفلة لمّاحة وذكية مثل شام، بشكل فردي، إلى تبوّؤ بطولةٍ من هذا النوع يمكن أن يقنع أي ذي بصر وبصيرة بأن القراءة والكتاب والوعي العام في أفضل حالاته في سورية المنهكة المنتهكة؟ المجد للقراءة، ومبارك تميزك يا شام وجهود أمك أيضًا.
سوسن جميل حسن – كاتبة وروائية سورية