رواية “بين الغاز والرصاص أمضيت عمري”.. حين يخط أبرز قادة المقاومة الشعبية كتابه الأول

اعتقلونا ودروعا بشرية استخدمونا”، و”عن المداهمات الليلية وأساليب الإرهاب الوحشية”، و”أول شعار هتفته وبالخيزرانة ضُربت لأجله”، و”يوم أفشلت السلطة فعالياتنا الداعمة للأسرى على حاجز سالم”.

ليست تلك عناوين عريضة في الصحف المحلية، ولا هي شعارات أو هتافات اعتاد خالد منصور -أحد أبرز قادة المقاومة الشعبية بالضفة الغربية- أن يصدح بها وسط الجماهير الغاضبة وخلال الاحتجاجات السلمية ضد المحتل، بل هي قصص نضال عاشها وراح يرويها في كتابه الأول “بين الغاز والرصاص أمضيت عمري” لتكون وقودا لجيل قادم.

وجاء منصور المكنى بـ”أبو ساري” لينقل تجربته المقاوِمة ويدون أحداثا لم يرد لها أن تكون جزءا من الماضي أو حتى الحاضر وإنما المستقبل، ليوثق “ملاحم بطولية” -حسب وصفه- تؤكد لهذه الأجيال أن “شعبنا لم يستكن ولم يستسلم”.

خالد منصور عرف بمواجهته الاحتلال والتحريض على مقاومته (الجزيرة)

عن المخيم والحزب الشيوعي

وهي أيضا خطوة مهمة لمنصور ليحكي عن مواجهته الاحتلال ويحرض على مقاومته، ولم يسقط من بين طياته جانبا من سيرته الذاتية، هناك في مخيم الفارعة شمال نابلس، حيث ولد وترعرع عام 1958، ثم انتقاله للدراسة في الجزائر وهو ابن 19 عاما.

ولاحقا إلى سوريا ليكمل مسيرته التعليمية التي غلب عليها العمل الحزبي وانخراطه بصفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أصبح في ما بعد يعرف بـ”حزب الشعب”، ويشغل منصور منصب عضو في مكتبه السياسي.

“في العام 1949 يبدأ تاريخ منظمة حزبنا في مخيم الفارعة بعد عام من النكبة وقيام المخيم، وأسس المنظمة رفاق كانوا يحملون تلك الأفكار في ديارهم الأصلية، ومثل النار في الهشيم توسعت المنظمة وضمت العشرات”.

وهنا يتحدث منصور عن دور مزدوج لحزبه، دور نضالي يتمثل بمقاومة الاحتلال مباشرة وبالتحريض عليه عبر البيانات السياسية وغير ذلك، وآخر اجتماعي وجماهيري عبر الأنشطة التطوعية “فقبل الانتفاضة الأولى 1987 كان الشيوعيون هم الأبرز في العمل الوطني ضد الاحتلال، كما كانوا الأبرز في العمل الاجتماعي الجماهيري”.

كل ذلك شكّل رصيدا في مخزون الذاكرة لدى منصور البالغ من العمر 64 عاما، ولم يجعله مدونا لسيرة ذاتية فحسب، بل موثقا لمرحلة مهمة من المقاومة الشعبية، فالكاتب منصور مستمر بفعالياته الممتدة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها.

شارة الكتاب وشرارته

وجاء في عنوان قصته “استهدفوني بالرصاص ليقعدوني وعن ساحات المواجهة يبعدوني” “أنا الميدان عشقي، وكل المقاومين رفاقي، أمضيت كل عمري أركض من قرية لقرية ومن جبل لجبل ومن مخيم لمخيم ومن حاجز للاحتلال إلى آخر، لبيت ما أستطيع من نداءات الواجب، أنا أغار على الوطن إن تألم وإن أهينت كرامته، وأغار على المقاومين حين لا أكون معهم في المواجهات”.

في 144 صفحة من القطع المتوسط يقع كتاب منصور -الذي صدر مؤخرا- وجاء سلسا في قالب قصصي مشوق ومترابط بالمفهوم العام، لكن لكل حدث قصته، ولكونه قريبا من الرواية الذاتية لم يقحم منصور في كتابه مقدمة تعريفية أو ملخصا أو إهداء وشكرا.

ولم تتخلل الكتاب عناوين فرعية ولم يقسّم إلى فصول أيضا، كما لم يصدر عن دار نشر، ولتكاليف الطباعة العالية أخذ المركز الفلسطيني للسلام والديمقراطية (مؤسسة غير حكومية) على عاتقه طباعة الكتاب.

خالد منصور ناشط في مقاومة الاحتلال منذ أكثر من 50 عاما (الجزيرة)

وكان لافتا تدوين الكاتب اسمه برأس كل صفحة وفوق العنوان الرئيس للقصة وتاريخ كتابتها، وكانت الأولى في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021 والأخيرة في 18 أغسطس/آب الماضي.

ويعيد منصور ذلك إلى إصابته برصاص الاحتلال في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2021 بفعالية للمقاومة الشعبية في بيت دجن شرق نابلس، وقعوده لأشهر عن المشاركة بأي نشاط نظرا لوضعه الصحي الصعب وتهتك عظام ساقه.

حينها ناداه أحد الجنود الإسرائيليين وقال بلكنته العبرية “أخورا أخورا”، أي ارجع للوراء، لكن منصور راح يتقدم بخطوة محاولا تجاوز الحاجز الترابي الذي وضعه جيش الاحتلال، فأطلق عليه أحد جنوده الرصاص الحي من مسافة أمتار قليلة فأصابه وسقط على الأرض.

ولم تكن تلك الإصابة الوحيدة للكاتب منصور، فقد تعرض لعشرات الإصابات بالرصاص المطاطي والاختناق بالغاز المدمع وغاز الفلفل السام الذي تسبب في غيابه عن الفعاليات لفترة.

منصور ليس مشاركا فقط، بل هو أيضا “هتِّيف” يحشد المئات حوله بصوته وشعاراته الرنانة.

ويقول محدثا الجزيرة نت “دفعتني الإقامة الجبرية بالمنزل لتوثيق تجربتي في العمل السياسي والجماهيري والكفاحي، خاصة أن ذاكراتي حاضرة بكل المواقف والتفاصيل التي مررت بها”، وساعد منصور في ذلك احتفاظه بأرشيف موثق بالصور والتواريخ لأحداث وقعت منذ عام 1989.

خالد منصور في فعالية للمقاومة الشعبية أثناء حصار نابلس الأخير (الجزيرة)

حتى لا تموت الذاكرة

ولم يكتب منصور عن كل تجاربه وأنشطته التطوعية والسياسية والاحتجاجات المحلية، وصب جل جهده على تقديم فعاليات المقاومة الشعبية، ورغم ذلك لم يغلق الباب أمام الأحداث الأخرى.

وعن سر الانتقال من مرحلة الرواية الشفوية والتخزين في الذاكرة إلى التدوين المكتوب، يقول منصور إن هدفه نقل التجربة والمعرفة للأجيال القادمة، ولإيفاء مناضلين كثر حقهم “وأخشى أن يضيع التاريخ الشفوي بموت من صنعوه”.

ويضيف أن التوثيق “يحمي التراث النضالي من الضياع، ويحافظ على صيت شخوصه المقاومين”، وكونه لاجئا عانى بفعل غياب واندثار حكايات اللجوء لم يرد منصور للرواية حول المقاومة الشعبية أن تلاقي المصير ذاته، ورغم أهمية كتابه بحفظ التجارب ونقلها فإنه أراد “تطويرها وتعزيزها”، ويدعو بصوت عال إلى تخليصها من الكثير من الشوائب “ولا بد من وقفة مع الذات لكل الناشطين بالمقاومة الشعبية لتقييم التجارب” يقول منصور، ويضيف منتقدا أن “المقاومة الشعبية ليست بأفضل حالا، بل تحولت إلى أنشطة نمطية وأعمال مبنية على ردود فعل رغم وجود طاقات بشرية باسلة”.

وفي الميدان يتسلح منصور بكوفيته الفلسطينية المتوجة بعقال الرأس، ووريقات صغيرة خط عليها شعارات للهتاف، فخالد منصور أو “أبو ساري” كما يعرف بين رفاقه وجمهوره هتِّيف في المظاهرات والفعاليات منذ كان ابن 15 عاما.

خالد منصور بعد إصابته وسقوطه أرضا في فعالية للمقاومة الشعبية خلال حصار نابلس الأخير (الجزيرة)

هذا ما يرفضه

في كتابه يرفض منصور توقف المقاومة الشعبية بمفهومها الواسع “صمود وتصد وتحد”، ويرفض كذلك تسميتها بالمقاومة الشعبية “السلمية”، معتبرا أن لفظ “سلمية” يحاصرها، ويدعو إلى تطويرها لتستوعب إبداعات وأشكالا أخرى كمقاومة المقاطعة.

والمقاومة الشعبية -برأي منصور- ليست بديلا عن أشكال النضال الأخرى، بما فيها “الكفاح العنيف”، ولكن بما يتلاءم مع الزمان والمكان والظرف وموازين القوى والإمكانيات.

حتى من يكتبون حول المقاومة الشعبية يصنفهم منصور لنوعين هما: ذو نوايا صادقة هدفه نقل التجربة للناس، وآخر أناني هدفه الكسب الإعلامي والدعاية الشخصية.

بين قنابل الغاز والرصاص بمختلف أنواعه قضى منصور حياته في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال (الجزيرة)

وتميز غلاف الكتاب بدخان الغاز المدمع وبصورتين التقطتا لمنصور في الميدان، تظهر إحداهما ثنيه يد أحد المستوطنين وحولها كتب قصته “يوم كسرت يد المستوطن اللعين”، والأخرى وهو يتصدى لجندي إسرائيلي أشهر بندقيته في وجه منصور.

يضع منصور خاتمة لكتابه تفتح الآفاق حول القادم من كتاباته، فهو يعد لكتاب ثان وثالث، فتجربته النضالية المتواصلة منذ 50 عاما وذاكرته لا تزالان تزخران بكثير من القصص والأحداث، وهو أيضا لا يزال نشطا ولم يبرح صفوف المقاومين بل يتقدمها، ويصدح صوته في أرجاء المكان حيث يوجد.

المصدر : الجزيرة

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

“مايد إن أفريكا” لوحة موسيقية أفريقية يقودها التونسي زياد الزواري.. فيديو

أفريقيا قارة الألوان والتنوع والثقافات استمدّت اسمها من الاسم القديم لتونس منذ الفترة الرومانية وهو “أفريقية”. وفي عرض أطلق عليه عنوان “مايد إن أفريكا” (صُنع في أفريقيا) اختار عازف الكمان التونسي زياد الزواري الاحتفاء بتنوع الثقافة التونسية الضاربة في العمق الأفريقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
15 − 10 =