الفقر والمحتل الأجنبى وسُلطات الذكور

قليلة هى الأعمال الفنية ، التى تبنى قيما جديدة ، للعلاقات بين البشر ، تكون أكثر انسانية ، وعدلا ، وحرية . وبالتالى تخلق حضارة مغايرة ، يمكنها اسعاد الانسان ، والارتقاء به . هذا بالطبع ، دون أن تكون فجة ، غير جذابة ، تخل بشرط توافر المتعة ، والبهجة .

وهذا أمر ، تشترك فيه ، كل بلاد العالم . مما يوضح ، كم هو صعب جدا ، أن يتورط مثلا ، فيلم ، فى اقناع البشر ، بأن حياتهم كاذبة ، مزيفة ، عنصرية ، وأن عليهم ، فعل شئ ما ، لتغييرها ، ورغم ذلك ، يستمتعون بالفيلم ، على مدى ساعتين . وربما يشاهدونه ، أكثر من مرة.

” الثورة ” ، مع ” المتعة ” ، هذا هو التحدى ، أو السهل الممتنع ، فى أى عمل فنى .

ان المتعة فى العمل الفنى ، متعة ، تحرض على التفكير ، فى آفاق جديدة ، وعلى اعادة طرح الأسئلة ، وعلى غربلة العواطف ، والمشاعر الانسانية ، بشكل

بشكل خفى ، ناعم ، تماما مثل ، آشعة الشمس ، فى الخريف ، التى تتسلل الى الجلد ، فى هدوء ، وسلاسة ، ونعومة .

وكل هذا ، لابد أن ينبع ، من قيم الجمال ، والاستمتاع ، والسرور . والا أصبح العمل الفنى ، غير فنى ، وقبيحاً ، ومنفراً ،وفاشلاً .

يُقال أن افتقاد العمل الفنى ، للمتعة ، والجمال ، والنعومة ، يجعله مباشرا ، مثل الخطب السياسية ، والأغانى الوطنية الحماسية.

لكننى أرى ، أن الخطب السياسية ، والأغانى الوطنية ، الحماسية ، حتى تكون مؤثرة ، لابد أن تكون ، مثل العمل الفنى ، ممتعة ، و جميلة ، و هادئة ،

و سلسة .

أتخيل لو مثلا ، منذ ثلاثينيات القرن الماضى ، كنا نشاهد أفلاما سينمائية ، تقدم لنا ، التحدى الأكبر ، والسهل الممتنع ، أى الثورة ، مع المتعة ، لكان لدينا تيار جماهيرى واسع ، وأجيال متتالية ، ورأى عام شعبى ، متقدم ، يقف الى جانب الحرية ، والعدالة ، والجمال . وكنا خطونا ، خطوات واسعة ، على طريق الرقى الحضارى .

لكن بكل أسف ، هذا لم يتحقق.

ودعونى أضرب مثلا واحدا ، بقيمة الشرف فى مجتمعاتنا . كل الأفلام العربية ، كلها ، دون استثناء ، اعتبرت أن شرف الزوج ، هو خيانة الزوجة ، وشرف الأب ، أو الأخ ، أو شرف كبير العائلة ، الذكر ، لا يُقاس بسلوكياته ، وأخلاقه ، هو شخصيا . ولكن بفقد الأنثى ، لعذريتها ، قبل الزواج .

وهو الأمر ، الذى يستوجب قتلها ، سترا للعرض الذى تم انتهاكه ، والتخلص من أكبر عار يمكن أن يلحق بالأسرة أو العائلة ، واستعادة للشرف ، الذى تمت استباحته . وجاءت جريمة شنعاء مقززة ، اسمها ” جريمة الشرف ” ،

تعبيرا ماديا مجسدا ، لهذا التفكير الهمجى البربرى ، والمضحك أيضا .

يزيد على هذا المفهوم المتدنى لمعنى الشرف للانسان ، سواء كان رجلا ، أو امرأة ، أن الذكرالذى استغل حب ، وثقة ، الفتاة ، الضحية ، يذهب حرا ، دون عقاب ، دون أى نبذ ، اجتماعى ، أو قانونى ، أو أخلاقى . على العكس ، فهو يعتبر الدونجوان الذى يجب الزهو به ، والصياد الماهر للفتيات والنساء ، الواجب

تقدير براعته فى رسم الخطط للايقاع بهن . وربما يصبح قدوة ، للشباب المحبط المكبوت ، أو غير المحبط ، والغير مكبوت ، للتصرف مثله ، حتى ينالون المديح الذى يلقاه الدونجوان ، أو صيًاد الفتيات والنساء .

وحتى يكون الفيلم ، متمردا ، على هذا المفهوم غير الشريف لمقياس الشرف ، لابد أن تكون كل أسرة الفيلم ، الكاتب ، والمخرج ، والأبطال ، والمنتج ، يؤمنون برسالة الفن ، فى التغيير ، والقيادة ، والريادة ، وضرورة كشفه ، للقيم ، والعلاقات ، والأخلاق ،التى تكرس للظلم ، والفساد ، والانحلال ، والذكورية ، والقبح ، والتفرقة ، وازدواجية المقاييس .

والحق يُقال ، أن السينما المصرية ، قدمت أعمالا كثيرة ، كشفت قبح ، وقهر ، وتسلط ، وفساد ، القيم الطبقية ، حيث ” الأعلى ” ، ماديا ، واجتماعيا ، يستغل ، ويقهر ” الأدنى “.

كما قدمت السينما المصرية ، أفلاما كثيرة ، عن مقاومة الشعب المصرى ، وتوحده ، ضد الاحتلال الأجنبى ، والاستعمار الخارجى .

والسينما المصرية ، متخمة بالأفلام التى تقف الى جانب الأمانة ، والوفاء بالكلمة ، والاخلاص فى العمل ، ونزاهة اليد ، ونظافة الذمة .

لكننا لا نجد أفلاما ، كشفت بالقدر نفسه ، وبالدرجة نفسها ، قبح ، وقهر ، و تسلط ، وفساد ، القيم الذكورية .

والشئ الجدير ، بالملاحظة ، أنه اذا وجدت بعض الأفلام النادرة ، تصور الفتاة ، أو المرأة ، اذا تمردت على القيم الذكورية ، فانها فى آخر الفيلم ، لابد من عقابها ، بالقتل ، والموت ، أو يحدث لها حادث ، يشلها ، ويقعدها عن الحركة ، طوال حياتها ، أو يطولها النبذ الاجتماعى ، والأخلاقى ، لتعيش مأساة أو عدة مآسى ، وحيدة ، بائسة .

أو يتم ترويضها ، لتدخل ، مرة أخرى ، الحظيرة الذكورية ، وقد ندمت أشد الندم ، على تمردها ، وعدم طاعتها .

لا يوجد فيلم عربى واحد ، يصور امرأة ، لا تطيع الازدواجية الأخلاقية ، وتفضح غياب العدالة بين الزوجة وزوجها ، وتتمرد على سلطات الذكور فى الأسرة أو العائلة ، وتكون نهايتها ، حياة هادئة ، سعيدة ، ناجحة.

والسؤال ، لماذا يكون التمرد على التفرقة الطبقية ، بين الفقراء ، والأغنياء ، أو التمرد على سُلطة المستعمر المحتل الخارجى ، أمرا مستحسنا ، يؤيده الجميع ، ويرفع صاحبه الى قمة البطولات ، بينما التمرد على التفرقة بين النساء والرجال ، وعلى سُلطات الذكور ، داخل الزواج ، وخارجه ، أمر مستهجن من الجميع ، مجرم ، ومكروه ، ومحرم ، وينزل بصاحبته ، الى قاع النبذ الاجتماعى .

تحظى المرأة الفقيرة ، بمنْ يتعاطف معها ، ضد الفقر ، وضد ُسلطة المحتل الأجنبى ؟ . ولا تحظى بأى تعاطف ، حين تقف ضد سُلطة الذكر .

ان القهر الواقع على النساء من مهانة الفقر ، أو مذلة احتلال المستعمر الخارجى ، ليس أهون من مهانة ومذلة الوقوع تحت سٌلطات الذكور .

هناك فارق جوهري، شاسع ، بين نجوم السينما ، أو الفن عامة ، و نجوم التغيير الحضارى المتقدم .

هناك فارق كبير ، بين موهبة فطرية ، و جهد واع ، لدور الموهبة ، فى تغيير الحياة .

هذه هى محنة ، و أزمة ، و مأساة ، الفن ، فى مجتمعاتنا ، وربما فى العالم كله … المواهب كثيرة ، متعددة . لكنها لا تحمل رؤية لعدل المقاييس المختلة .

هى تكتفى ، بتقديم التسلية ، الممتعة . وهذا فى حد ذاته ، هدف لا غبار عليه . ولكن الى جنب الأعمال المسلية الممتعة ، لابد أن تكون هناك أعمال فنية ، خاصة فى السينما ، تقدم التسلية الممتعة ، ومعها تثير التساؤلات الممنوعة ، وتحرض على الشك فى المسلمات والموروثات والاجابات المعلبة الجاهزة ، وتحفز العقول النائمة على اعادة تأمل الحياة ، وتمنح نورا كان خافيا ، أو محجوبا بجدران أسمنتية مسلحة .

على أن يتم ذلك ، دون الاخلال بشرط الجمال ، و تقديم المتعة ، ورقى المستوى الفنى لكل العناصر المشتركة ، لاكمال العمل المبدع .

منى حلمي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟

حبس العالم أنفاسه بعدما أصبح الشرق الأوسط قاب قوسين مما يشبه حربا عالمية ثالثة، قد دفع بالمنطقة لمستقبل غامض. غير أن هجوم الجمهورية الإسلامية ورد الدولة العبرية ظلا لحد الآن في حدود "المتوقع" وفق معلقين ألمان وأوروبيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
25 × 18 =